إصابات دماغية تخلق واقعًا جديدًا: عن التأقلم مع فقدان السيطرة على العقل

الصورة: Getty/Mark Kolbe

دينا ظافر
نشر في 2018/10/06

هل فكرت يومًا كيف ستكون حياتك لو كان ماضيك الذي شكَّلك، أصبح فجأة شديد الغموض والإبهام، حتى إنك لم تعد واثقًا إلا من ملامح اللحظة الآنية التي تعيشها؟ أو لو أصبحت تتخيل أحداثًا ماضية لا وجود لها إلا في رأسك؟ هل يمكنك أن تتخيل كيف ستسير أمور حياتك لو لم تعد تقوى على فتح كيس من البطاطس أو الاحتفاظ بتوازنك لو مشيت بضعة أمتار؟ هذه السيناريوهات الصعبة تمثل حياة بعض الأشخاص اليومية ومعاناتهم، بعد أن تعرضوا لإصابات مختلفة في الدماغ.

نحكي هنا قصة «ماثيو» و«سام»، شاب وأم تغيرت حياتهما تمامًا، بعد تعرضهما لإصابات في المخ. لكنهما يصران على الاستمرار والمقاومة وإيجاد معنى لحياتهما في شكلها الجديد.

مبرمج لا يثق في ذاكرته

الصورة: Pexels

عاد ماثيو إلى عمله كمبرمج كمبيوتر بعد أشهر قليلة من جراحة خضع لها في المخ. كان يعرف أن عودته إلى العمل تمثل تحديًا، فقد كان عليه أن يشرح لمديره أنه بات يعاني من مشكلة دائمة في دماغه.

لدى عودته انعقد اجتماع، وسأله أصحاب العمل: «كيف يمكن أن نساعدك على الانسجام مجددًا في أجواء العمل واستعادة لياقتك؟». هذا ما حدث فعلًا، لكن ما تذكره ماثيو في اليوم التالي، أن رؤساءه كانوا على وشك فصله من العمل، وأنه لا سبيل لعودته.

كان يتذكر «ما حدث» واضحًا. رغم هذا، كان كل ما يتذكره عن الاجتماع متخيَّلا لا صحة له.

اليوم، يعرف ماثيو أن ما حصل كان من أول علامات معاناته من«الخَرَف»، نتيجة إصابته في المخ. ماثيو لا يتعمَّد الكذب، لكنه يعاني من مشكلات كبيرة في معالجة الذكريات، لدرجة تجعله كثيرًا ما يعجز عن التفرقة بين الحقيقة والخيال الذي يصوِّره له عقله الباطن.

مثَّل هذا الاكتشاف ضربة قوية لماثيو: «كنت خائفًا جدًّا، شعرت بأنه لا يمكنني أن أثق في ظني في ما حدث فعلًا». مشكلة ماثيو صعبة، لكنها على أي حال تساعدنا في فهم سقطات ذاكرتنا، والطرق التي تبني بها أدمغتنا نسختها الخاصة مما حدث في الواقع.

زغللة وتنميل، ثم جراحة فارقة

الصورة: Vidal Balielo Jr

حين التحق بالجامعة، عمل ماثيو في المساء وعطلات نهاية الأسبوع كي يدفع تكلفة إقامته، ثم التحق بالجامعة ودرس الرياضيات وعلوم الكمبيوتر، ثم تخرَّج وعمل مبرمج كمبيوتر. بعد أشهر قليلة من بدء العمل، بدأ ماثيو يلاحظ على نفسه أعراضًا غريبة: فقدان الإحساس في أطراف الأصابع، وصداعًا مؤلمًا، وازدواجًا في الرؤية اضطره إلى أن يعمل في أوقات كثيرة مغمِضًا إحدى عينيه.

أظهرت الأشعة المقطعية مشكلة في مدخل إحدى بطينات المخ، في التجاويف التي تساعد على دوران «السائل الدماغي الشوكي» (Cerebrospinal Fluid) في الأنسجة العصبية. تسبب كيس نسيجي يسمى «كيس غرواني» في سد هذا البطين، ما منع السائل الدماغي الشوكي من الخروج.

ازداد الضغط داخل الدماغ، وبدأ السائل الدماغي الشوكي في الضغط على المخ في اتجاه الجمجمة، وفق «فوغان بيل»، عالم الأعصاب في كلية لندن الجامعية. إضافة إلى ذلك، فإن البطين المتمدد ضغط على العصب البصري، ما أدى إلى ازدواج الرؤية.

أجرى الأطباء عملية جراحية طارئة لماثيو، فصنعوا ثقبًا في الجمجمة لإزالة جزء من الكيس وتصريف السائل المتجمع. حين تعافى بعد العملية، أدرك ماثيو أن الإصابة ستتسبب في مشكلات كبيرة في الذاكرة. كان ينسى رؤية الأشخاص يدخلون أو يخرجون من الغرفة، فكأنما يظهرون أمامه من العدم، فيقول: «كنت أتذكر فقط أن أشخاصًا ظهروا في مجال رؤيتي، ثم اختفوا».

يقول بيل إن هذا ربما حدث نتيجة حدوث تلف في «الأجسام الحلمية» (Mamillary Bodies)، وهي عبارة عن زوج من العُقد المستديرة من الأنسجة المرتبطة بعملية التذكر.

بسبب فقدانه الذاكرة، لم يتذكر ماثيو تفاصيل الاجتماع، ما اضطر دماغه إلى ملء تلك الفراغات لتتواءم مع توقعاته المسبقة عن رؤسائه.

الدماغ لا يحب الفراغات. وخلال فترة تعافيه، بدأت ذاكرة ماثيو في ملء الفراغات التي تسبب فقدانه للذاكرة في وجودها. في إحدى المرات، أرسل «ماثيو» رسالة غاضبة إلى طبيب النفس والأعصاب يسأله عن السبب الذي جعلهم يخرجونه من مركز إعادة التأهيل. اكتشف «ماثيو» لاحقًا أنه كان صاحب قرار الخروج من المصحة. رغم ذلك، لم يكن لديه أدنى شك في أن ذاكرته تخبره بأن القرار لم يكن قراره.

تخريف.. لكنه مقنِع

لا أحد منا يسترجع الأحداث بدقة متناهية. يمكن أن نختار معلومات خطأ، فتتكون لدينا «ذكريات خطأ» ذات تفاصيل لم تحدث قط.

كان اكتشاف هذا النزوع إلى الخرف مزعجًا لماثيو، فكأنما اكتشف فجأة أن دماغه ليس ملكه: «هناك فرق بين الأشياء التي تدركها والأشياء التي يخلقها لك عقلك عن الدنيا». كثيرًا ما تُبنى الذكريات الخطأ حول تصور مسبق للشكل الذي كانت ستكون عليه الأمور. فمثلًا، عندما عاد ماثيو إلى العمل كان متخوفًا من عدم تفهم مديريه للصعوبات التي أصبح يواجهها بعد العملية.

«كنت أعرف أن أصحاب العمل عمليون، وحازمون حين يتعلق الأمر بالعمل. وضعهم عقلي في قالب معين، وتوقع أن ياتي رد فعلهم في صورة معينة». بسبب فقدانه الذاكرة، لم يتذكر ماثيو تفاصيل الاجتماع، ما اضطر دماغه إلى ملء تلك الفراغات لتتواءم مع توقعاته المسبقة عن رؤسائه.

حين نحاول تذكر الماضي، يعيد الدماغ بناء الحدث، فيختار الأحداث الأكثر إمكانية للوقوع، لأن تكون قد وقعت بالفعل. يقول ماثيو: «خلف الكواليس، يفعل الدماغ عدة أمور في عملية اختيار المعلومات واختبارها. فهو يختبر مدى القوة التي يجب أن تتمتع بها ذكرى معينة، ويُسكت تلك التي لا تبدو ذات صلة».

لا أحد منا يسترجع الأحداث بدقة متناهية. إذ يمكن أن نختار معلومات خطأ، وبهذا تتكون لدينا «ذكريات خطأ» ذات تفاصيل لم تحدث قط. بل إنه يمكن بسهولة غريبة أن نزرع معلومات خطأ في الدماغ. في إحدى التجارب، تلاعب علماء نفس من نيوزيلندا وكندا، سرًّا بصور بعض الأشخاص محل الاختبار، ليظهر لهم من خلالها أنهم ركبوا منطادًا في رحلة لهم في طفولتهم. حين سئلوا عن الصور، اختلق نصف المشاركين قصة حول الصورة، وصدَّقوا ببراءة أن الرحلة حدثت.

نكون محقين بشأن التفاصيل المهمة للأحداث التي مررنا بها. لكن في حالة ماثيو يصعب التوثُّق مما حدث، فنسبة أكبر بكثير من الذكريات «خطأ». لكن هناك حالات أشد سوءًا منه، حسب بيل.

بعض الأشخاص لديهم ذكريات «مستحيلة» الحدوث، فمثلًا ربما قال أحدهم إنه صنع مركبة فضائية وذهب إلى القمر.  في إحدى المرات، عاد مريض إلى الوعي، ولديه قناعة تامة بأن زوجته كانت تحمل توأمًا. بل إنه تذكر بوضوح رؤية «السونار» والتقاط صور لزوجته في أثناء حملها، رغم أنها لم تكن حاملًا من الأصل. في حالته يقول ماثيو: «كنت أسترجع هذه الذكريات تمامًا كما أتذكر شيئًا من طفولتي. فحرفيًّا ليس لدي قدرة على التفرقة».

حادث سيارة قلب كل شيء

أما «سام جيفون»، وهي سيدة أربعينية وأم لمراهقين اثنين، فقد تعرضت لحادث سيارة قلب حياتها رأسًا على عقب.

كانت سام تجلس إلى جوار سائق السيارة، ولم تكن ترتدي حزام الأمان، في الوقت الذي ارتطمت سيارة أخرى بسيارتهم من الخلف، والتي انقلبت لتقع سام من النافذة التي كانت مفتوحة. بينما لم يصب السائق سوى بكسر في كتفه، تعرضت هي لإصابات في الرأس والرئة.

خضعت سام للجراحة، وأزيل جزء من الجمجمة، وظلت غائبة عن الوعي لمدة شهرين، ثم قضت ثمانية أشهر في مصحة لإعادة التأهيل لتحسين قدرتها على المشي والكلام. هناك ساعدوها على تذكر الوقائع وعلموها الطهي مجددًا.

خرجت سام من المصحة لتحضر عيد ميلاد ابنتها الثامن عشر. لم تكن العودة إلى الحياة الطبيعية أمرًا سهلًا، فهذا بعض مما قاله تقرير المصحة عند خروجها:

«تحتاج سام إلى الإشراف اللصيق وقت إعداد الطعام، عند فتح الأغلفة والتقطيع، بسبب ضعف التوافق والرعشة. تحتاج إلى إشراف حين تمشي مسافة تصل إلى 50 مترًا، ومساعدة جسمانية لو تعدت المسافة هذه الحدود بسبب قلة التوازن. تستطيع التعريف باحتياجاتها وهي تستجيب جيدًا لطلبات التوضيح...».

لم تسِر كل الأمور إلى الأسوأ

تقول سام إن شخصيتها تغيرت إلى الأفضل بعد الحادث الذي مر عليه سنوات كثيرة: «أصبحت أكثر نعومة الآن. كنت شخصًا سريع الانفعال، كنت مرعبة. يحكي كثير من الأشخاص في المقهى أنني كنت كالكابوس. لكن الآن، الشيء الوحيد الذي قد يضايقني هو أن يُمس أحد أفراد أسرتي بسوء».

هي لا ترى نفسها شخصًا معاقًا. فقط تختلف عن الآخرين، وفق تعبيرها. يعتقد بعضهم أنها أصيبت بسكتة دماغية نظرًا للطريقة التي تمشي بها، لكنها لا ترى مشكلة في أن تحكي للناس ما حدث لها. إنها تشعر بالتصالح مع واقعها الجديد.

ما يزعجها حقًّا هو شعورها بأن الحادث كان أسوأ تأثيرًا في أسرتها. فأختها التي تصغرها بتسعة أعوام كانت دائمًا ما تستشيرها باعتبارها أمًّا لها، أما الآن، فلم يعد باستطاعتها تقديم النصح لها بنفس الطريقة.

تسكن سام في منزل من طابق واحد مهيأ لتسهيل حياتها في ظروفها الجديدة. تشعر بأنها تعيش حياة أفضل، لكنها لا ترى أن أسرتها تشاركها نفس الرأي. فقدت سام كثيرًا من الأصدقاء، ولم يتبقَ لها سوى واحدة، فقد اختفى الباقون بعد ما حدث لها.

ماثيو وسام يصرَّان على المضي قدمًا

تعلم ماثيو بعد الحادث أن يتلذذ بمتع الحياة البسيطة العادية، ويُقدِّر المستقبل، ويعيش لذة اللحظة.

وجدت سام شغفًا جديدًا لها بعد الحادث، وهو الفن الذي تتخذ منه وسيلة للحصول على الهدوء والتعبير عما مرت به من تغيير كبير في حياتها. تقول: «أستمتع بالفن. لكنني لم أكتشف ذلك سوى بعد الحادث. أحب أن أكون مبتكرة ومبدعة، وأستطيع أن أركز جيدًا وأتحلى بالصبر. قبل إصابتي في الدماغ، لم أكن أرسم سوى أشخاص مثل أعواد الكبريت. أنا فخورة جدًّا بما حققته».

يعمل ماثيو متطوعًا في جهة تدعم الأشخاص الذين يعانون من إصابات في المخ. وأصبح يكتب يومياته ليسجل الحقائق بتفاصيلها، مع من تكلم، وماذا أكل، ليتمكن من تكوين صورة عما جرى في يومه. رغم هذا، ما زالت الذكريات الخطأ تختلس الطريق إلى دماغه.

يقول «بن غراهام»، زميل ماثيو: «كثيرًا ما يحدث الخرف حين يكون ماثيو متوترًا، ويتخذ شكل ما يقلقه». حين يقضيان وقتًا معًا، كثيرًا ما يتحقق ماثيو من الوقائع. هذه ليست عملية سهلة، «فغراهام» يعي أنه ربما يضع بذورًا لذكريات خطأ لو خانته صياغة كلامه. «يمكنك أن تزرع فكرة، لهذا عليَّ أن أكون حذرًا».  

تعلم ماثيو أيضًا أن يتلذذ بمتع الحياة البسيطة العادية، وحين تكون لديه الطاقة، يركب دراجته في رحلات طويلة. رغم أنه يود أن يعود إلى عمله مبرمجًا بدوام كامل، فقد تعلم أن يُقدِّر المستقبل، وأن يعيش لذة اللحظة: «اللحظة الآنية هي كل ما تملكه».

مواضيع مشابهة