هل أنت ذكي؟ في الغالب ستكون إجابتك بالإيجاب، وحتى لو لم تعلنها صراحةً فأنت تؤمن بها ضمنيًّا. أغلبنا يؤمن أنه أكثر ذكاءً من المتوسط، رغم أن هذا مستحيل عمليًّا. هذا هو انحياز المصلحة الذاتية، الذي يعمل عمل «الفلتر الوردي»، ويخبرنا أننا على ما يرام رغم أننا لسنا كذلك دومًا، أهم حائط دفاع أمام مرض رؤية الذات والعالم على حقيقته البائسة، أو «الاكتئاب» كما تفضل أن تسميه.
لكن دعنا نعود إلى السؤال ذاته ونضغطه أكثر: على أي أساس قررت أنك ذكي؟
ربما تفكر الآن في مواقف تصرفت فيها بمهارة استثنائية أثارت انبهار وحسد الآخرين، أو علامات دراسية مرتفعة، أو كلمات والديك باستمرار عن أن «ابني/بنتي أذكى طفل في الدنيا»، وربما تذكر أنك لطالما كنت قادرًا على أن «تعمل حاجات مينتال من غير ورقة ولا قلم»، أو ستلقي في وجهي رقم «IQ» ثلاثي الخانات كدليل غير قابل للدحض على ألمعيتك الاستثنائية.
حسنٌ، سنفترض أنك أذكى من المتوسط، أو على الأقل تعرف شخصًا أقرب إلى العبقرية الاستثنائية، فهل تساءلت يومًا عن السبب الذي يجعل حتى أكثر الأشخاص ذكاءً يرتكبون أشد الأفعال غباءً في الحياة اليومية، ويرتبكون في ما قد يُعَد أبسط المواقف التي يتجاوزها أي طفل ببساطة؟
إجابة هذا السؤال لا تحتاج إلى أكثر من سطرين، لكن هذا سينهي الموضوع قبل أن يبدأ، وسيرفضه المحرر ويلقيه في وجهي طالبًا مني أن «أشوف شغلي كويس». لذا، دعنا نسأل أسئلة وجودية فلسفية مثل: كيف يمكن قياس الذكاء؟ هل طرق القياس تلك فعالة حقًّا؟ ما الذكاء أساسًا؟ ثم سأبذل قصارى جهدي في أن أقنعك أن كل هذه التساؤلات والاستطرادات الطويلة كانت مهمة فعلًا للوصول إلى إجابة السؤال الرئيسي: لماذا يرتكب الأذكياء أشد الأفعال غباءً؟
عن اختبارات الذكاء (IQ)، وتاريخ مظلم لا يذكره كثيرون
البداية كانت في فرنسا عام 1904، عندما كلفت الحكومة عالم النفس «ألفريد بينيه» بإيجاد طريقة للتمييز بين مستويات مهارات الأطفال، بهدف وضع الأطفال الأقل مهارةً في مدارس خاصة تقدم لهم مزيدًا من الاهتمام الشخصي لتحسين مداركهم المتأخرة عن رفاقهم.
بينيه بدأ في تجهيز اختبار لمجموعة من المهارات، فقاس استجابة الأطفال لتعليمات وأوامر معينة، وجعلهم يرتبون بعض الأشياء بطريقة محددة، وينسخون نمطًا بعينه، ويسمون بعض الأشياء، إلخ. وأجرى هذا الاختبار على أعداد كبيرة من أطفال المدارس، وبدأ في وضع المقاييس المعيارية للنتائج التي حصل عليها.
مثلًا، إن استطاع 70% من الأطفال في عمر الثامنة أن يتجاوزا اختبارات معينة، فالمفترض من طفل طبيعي في الثامنة أن يعرف كيف يفعل ذلك بسهولة. أما إذا استطاع طفل في السادسة أن يتجاوز اختبار طفل في الثامنة، يصير عمره العقلي ثمانية أعوام في حين أن عمره الفعلي لم يتجاوز ستة.
لاحقًا، أتى الألماني «ويليام ستيرن» ليطور أبحاث بينيه ويقدم إلى العالم المعادلة الأشهر:
بهذا، تكون نسبة ذكاء الطفل ذي الستة أعوام الذي يبلغ عمره العقلي ثمانية تصل إلى 130، أي أنه ذو ذكاء استثنائي، أما لو كانت الحالية عكسية (العمر الفعلي = 8، والعمر العقلي = 6)، فنسبة ذكائه ستكون 75، وهو رقم قليل جدًّا ويحتاج إلى عناية وتدريب خاص لرفعه.
اقرأ أيضًا: متلازمة «أعلى من المتوسط»: مدَّعي الذكاء عنصري بالضرورة
ترجم عالم أمريكي أبحاث ألفريد بينيه، واستخدمها لإقناع الحكومة الأمريكية بتبني أفكاره عن إخصاء ذوي الجينات المعيوبة.
كان بينيه مؤمنًا بأن نسب الذكاء ليست أرقامًا ثابتة وإنما تتغير بالتدريب والعناية الكافية، وكان مدركًا وصريحًا بشأن قصور أبحاثه وأنها لا تدل إلا على مهارات معينة، لا تشمل مفهومًا واسعًا وكبيرًا مثل «الذكاء»، فكان هدفه الوحيد من اختباراته أن يقدم المساعدة إلى أطفال يحتاجونها، لكنه كان خائفًا من أن تُستخدم أبحاثه للتمييز بين الأطفال واعتبار بعضهم «قضايا خاسرة» وإهمالهم تمامًا.
بالطبع، حدث ما كان بينيه يخشاه.
في بدايات القرن العشرين، كانت حركة تحسين النسل في أوجها في أمريكا، وهو جزء مظلم آخر من تاريخ الولايات المتحدة الممتلئ بالبقع السوداء التي لا يتحدث عنها أحد، وقد نتطرَّق إليها في موضوع مستقل في المستقبل.
جاء عالم السايكولوجي الأمريكي «هنري غودارد»، المؤمن بوجوب تحسين النسل وبأن عمليات تعقيم وإخصاء ذوي الجينات المعيوبة قد تنقذ مستقبل أمريكا، ليترجم أبحاث ألفريد بينيه وويليام ستيرن إلى الإنجليزية، وينشر دعوته لتلاقي ترحيبًا كافيًا من الحكومة والكونغرس.
بدأت الحكومة الأمريكية في استخدام اختبارات الذكاء لتحدد قبول الجنود المتطوعين في الجيش، ثم صدرت قوانين تمنع المهاجرين من دخول البلاد لو كانت نسبة ذكائهم أقل من رقم معين، متناسيةً حقيقة أن الاختبارات كانت باللغة الإنجليزية، وتعتمد على ثقافة وعادات أمريكية محلية تختلف عن ثقافات ولغات المهاجرين، الذين عادت نسبة ضخمة منهم إلى بلادهم خائبين. وحدِّث ولا حرج عن قوانين التعقيم التي طبقها عدد من الولايات على ذوي نسب الذكاء القليلة.
رغم التاريخ المظلم لتلك الاختبارات، فإنها ما زالت حتى الآن الطريقة الأشهر لقياس نسبة الذكاء، خصوصًا بعد تطويرها لتناسب أغلب الثقافات واللغات المختلفة، وتعتد بها الغالبية العظمى من الناس. لكن يظل السؤال مطروحًا: هل يمكن فعلًا قياس الذكاء باختبار ورقم على تدريج؟ وما الذكاء أساسًا؟
ماهية الذكاء
للوهلة الأولى تبدو إجابة السؤال بديهية، وربما ينطق لسانك بداية الجملة: «الذكاء هو...»، ثم تتوقف عن الإجابة وترتبك، تفكر أنك تعرف بالتأكيد ما هو الذكاء، لكنك فقط، لسبب ما، لا تجد الكلمات المناسبة لتعريفه أو التعبير عنه.
بحثنا مطولًا عن تعريف متفق عليه لمفهوم الذكاء (Intelligence)، لنجد أنه ببساطة ليس هناك واحد وإنما عدة، لا يوجد تعريف واحد اتفق عليه علماء النفس، لذا لن نتحدث عن تعريفات هنا، وإنما عن النظريات الأربعة الرئيسية التي وصل إليها العلماء في خلاصة بحثهم عن مفهوم الذكاء.
1. الذكاء الشامل
في مطلع القرن السابق، لاحظ عالم السايكولجي البريطاني «تشارلز سبيرمان»، بعد إجراء عدد من الأبحاث والاختبارات القليلة نسبيًّا، نظرًا للإمكانيات المتاحة في زمنه، أن من يؤدي جيدًا في اختبار نوع معين من القدرات العقلية (المسائل اللفظية أو الحسابية أو المنطقية، إلخ)، يؤدي جيدًا كذلك في أغلب الاختبارات.
اقترح سبيرمان أن هناك مُعامِلًا وحيدًا للذكاء، سماه المُعامِل «G»، من «General Intelligence»، وبقياس هذا المُعامِل يمكن التنبؤ بأداء أي شخص في أغلب المناحي الأكاديمية.
2. القدرات العقلية الأولية
عالم السايكومتري الدكتور «لويس ثورستون» لم تعجبه فكرة أن هناك مُعامِل وحيد للذكاء ينبئ بقدراتنا العقلية، فجاء بنظريته في 1938 ليقسم مفهوم الذكاء إلى سبع مهارات عقلية أولية يقاس كلٌّ منها منفردًا، بدلًا من قياس مُعامِل وحيد:
- الاستيعاب اللفظي
- الاستدلال المنطقي
- سرعة الإدراك
- المهارة الحسابية
- الفصاحة
- الذاكرة الترابطية
- الفهم المكاني
هذه النظرية بدت منطقية أكثر من فكرة الذكاء العام الشامل، لكن المشكلة أنه مع الأبحاث التالية كان من يؤدي جيدًا في إحدى المهارات غالبًا ما يفعل المثل مع الأخريات، مما يؤيد أكثر نظرية الذكاء الشامل.
3. الذكاءات المتعددة
النظريتان السابقتان يعيبهما محدودية ما يعدانه من الذكاء، فالذكاء في الحالتين أكاديمي فقط، أو ما يسمونه «كلام كتب»، لكن لم يضع أيٌّ منهما في الاعتبار العملية الإبداعية مثلًا أو العلاقات الاجتماعية.
قسَّم روبيرت ستيرنبيرغ الذكاء لثلاثة أنواع: تحليلي وإبداعي وعملي، وقال إنه نشاط عقلي يهدف للتكيُّف مع العالم لتحقيق أهدافه.
قد يهمك أيضًا: لماذا تظن البنات أنهن أقل ذكاءً من الأولاد؟
في محاولةٍ لتجاوز هذه المشكلة، قدم عالم النفس «هاورد غاردنر» في عام 1993 نظريته عن «الذكاءات المتعددة»، وقسَّم الذكاء إلى تسعة أنواع أو مهارات مستقلة عن بعضها، مستقلة بمعنى أن أداء الفرد في أحدها لا ينبئ أو يقرر أداءه في الأخرى، وبهذا تلافى الخطأ الذي وقع في ثورستون قبل ما يزيد عن نصف قرن.
هذه الأنواع هي:
- ذكاء منطقي/رياضي
- ذكاء جسدي/حركي
- ذكاء بصري/مكاني
- ذكاء لغوي
- ذكاء موسيقي
- ذكاء العلاقات الشخصية/الاجتماعية
- ذكاء داخلي
- ذكاء وجودي
- ذكاء واقعي
هذه النظرية أخذت العديد من القدرات البشرية في الاعتبار، عكس ما قدمته النظريتان السابقتان. لكن هل كل هذه القدرات تُعَد «ذكاءً»؟ لماذا أصلًا يُطلق عليها لفظ ذكاء؟ لو استمعتَ إلى مقطوعة موسيقية رائعة، هل ستُطلق على مؤلفها لقب «موسيقي ذكي»، أم ستجد كلمة «موهوب» تفي بالغرض أكثر؟
وكأن إضافة كلمة «ذكاء» إلى قدرات معينة يُضفي عليها طابعًا من الهيبة والوقار ليس أكثر.
4. نظرية الذكاء الثلاثية
رغم أن نظرية غاردنر عن الذكاءات المتعددة كانت عام 1993، فإن نظرية عالم النفس المعرفي «روبيرت ستيرنبيرغ» عن الذكاء الثلاثي، التي جاءت قبله بثمانية أعوام، تبدو كأنها تطور لنظريته وليس العكس.
قدم ستيرنبيرغ تعريفًا للذكاء بأنه «نشاط عقلي يهدف إلى التكيُّف مع بيئة العالم الواقعي التي يعيش فيها المرء، والانتقاء من عناصرها، وتشكيلها، من أجل تحقيق هدف بعينه»، واقترح أن الذكاء يأتي من القدرات التي تؤدي إلى نجاح في العالم الحقيقي، وقَصَر تعريفه للذكاء على أنواع ثلاثة:
- ذكاء تحليلي: القدرة على تحليل المشكلات وحلها، وهو الذكاء الأكاديمي الذي يمكن اختباره باختبارات «IQ»
- ذكاء إبداعي: المهارات التي تؤدي إلى الإبداع والاختراع واكتشاف الجديد
- ذكاء عملي: المهارات التي يستخدمها المرء في الحياة العملية اليومية للتكيف مع المواقف المختلفة، واستخدام خبراته ومهاراته السابقة في التعامل مع شتى أنواع المواقف
رغم أن علم النفس لم يتوقف عن البحث في مفهوم وتعريف الذكاء، فإن نظرية ستيرنبيرغ تبدو الأقرب إلى الفهم والقبول حتى الآن، على الأقل بالنسبة إلينا كقراء ومتابعين غير متخصصين، بالإضافة إلى أنها تعطينا أول مفتاح لإيجاد جواب مناسب لسؤال...
لماذا يتصرف الأذكياء بغباء؟
بالاستناد إلى نظرية ستيرنبيرغ عن الذكاء الثلاثي، سنجد أن أغلب ما نطلق عليه «ذكاءً» هو مهارة الذكاء التحليلي التي يعبِّر عنها رقم «IQ»، بينما لا نضع في الاعتبار الذكاء الإبداعي ولا العملي.
لذا، نندهش بشدة عندما نرى شخصًا يمتاز بمهارة الذكاء التحليلي، ونعرف هذا من أدائه في دراسته وعمله وآرائه العبقرية في تحليل شتى المواقف وكأنه يرى العالم من عدسة ميكروسكوب، ثم يتحدث بأكثر الأشياء حماقةً في موقع اجتماعي بسيط ويتسبب في إحراج الجميع، وهو لا يدرك أن ما قاله يفتقر إلى أبسط أنواع اللباقة.
فِعل التفكير ليس محببًا إلى الإنسان، فليس من المستغرَب أن نرى في من نفترض فيهم الذكاء بعض التصرفات الغبية التي تتطلب قليلًا من التفكير.
كون المرء ذكيًّا ليس ممتعًا، فالذكاء يتضمن أسئلة كثيرة لفهم الموقف بدقة، ويتطلب كثيرًا من البحث والتنقيب، وكثيرًا من التفكير في حقيقة الأشياء. وبينما قد تكون هذه مهارات رائعة في الحياة الأكاديمية، فإنها مزعجة جدًّا في الحياة الحقيقية، فلا أحد يحب من يسأل كثيرًا ويبحث أكثر ويفكر مطولًا، لذا فقد يجد الشخص الذكي نفسه مضطرًّا إلى التوقف عن كونه كذلك مؤقتًا، فالناس قد يتقبلون وجود أحمق ساذج في حياتهم الاجتماعية أكثر من تقبلهم ذكيًّا مزعجًا.
اقرأ أيضًا: ليس صوت العقل: عوامل خفية تشارك في صنع قراراتنا
التفكير أيضًا ليس عملًا هينًا، فبشكل شخصي، لاحظت أني في السنوات الأخيرة من عمري لا أجلس وحيدًا لأفكر أبدًا، هناك دومًا سماعة تبث موسيقى أو كتاب أو لعبة على هاتف، لا أجلس حتى في مواصلة عامة وسط آخرين من غير أن أمارس أي نشاط، وإن اضطررت إلى الجلوس دون أيٍّ من هذه الأشياء أصير عصبيًّا قلقًا على وشك الانفجار، ولاحظت كذلك ازدياد أعداد الاخرين الذين يفعلون المثل باضطراد.
بالبحث عن الفكرة وجدت دراسة في علم النفس الاجتماعي، طلب القائمون عليها من المتطوعين أن يجلسوا، كل واحد وحده، في غرفة مغلقة لمدة ربع ساعة ويفكروا، فقط يغرقون في التفكير في أي شيء. ولم يكن في الغرفة ما يمكن عمله سوى الجلوس والتفكير، إلا زرًّا صغيرًا يسبب صدمة كهربية متوسطة الشدة لمن يضغطه.
أغلب المشاركين فضلوا أن يصعقوا أنفسهم بالكهرباء بدلًا من الجلوس والتفكير لمدة ربع ساعة.
إذًا، فِعل التفكير نفسه ليس محببًا إلى الإنسان، فليس من المستغرَب أن نرى في من نفترض فيهم الذكاء بعض التصرفات الغبية التي تتطلب قليلًا من التفكير أحيانًا، فحتى أذكى الأذكياء يحتاجون إلى راحة من التفكير.