لحل معضلة علمية، لا بد أن نؤمن مبدئيًّا بأنها قابلة للحل، وهو ما يجعل ميدان العلوم متفائلًا بطبيعته. الاكتشافات العلمية تساعدنا على فهم العالم، أو الجزء المعقد والفوضوي منه، بصورة أفضل، وتفتح الأبواب لطرح أسئلة جديدة والتقدم نحو مساحات لم تكن معروفة من قبل.
قبل أكثر من مئة عام، تنبأ آينشتاين بوجود ما أسماه الموجات التثاقلية، باعتبارها إحدى النتائج المباشرة لنظرية النسبية العامة، التي وصفت ظاهرة الجاذبية بأنها التواء في النسيج الكوني. لكن، وعلى امتداد قرن كامل، عجز العلماء عن تأكيد وجود تلك الموجات والتحقق من صحتها تجريبيًّا.
رصدُ هذه الموجات لم يحدث إلا في فبراير عام 2016، عندما أعلن فيزيائيون يعملون في مرصد أمريكي عن التقاط تشوُّه في نسيج الزمكان (الزمان + المكان) مصدره اصطدام ثقبين أسودين يبعدان أكثر من مليار سنة ضوئية عن الأرض، حسب ما جاء في مقال منشور على موقع «Vox».
رصد الموجات التثاقلية
مثلما تُحدِث موجات الصوت اضطرابًا في الهواء فتثير ضجة نسمعها، كذلك تفعل الموجات التثاقلية في نسيج الزمكان، فهي تسبب تمدُّد وانكماش المادة المكونة للكون، فلو افترضنا نظريًّا أننا تمكنّا من تمريرها عبر جسد إنسان، فأننا سنرى أجزاءً منه بصورة مختلّة عن المعتاد.
تتولد الموجات التثاقلية نتيجة أي حركة لجسم ذي كتلة، فحتى مجرد التلويح بأيدينا بسرعة كفيل بإحداث اهتزازات في الزمكان، لكن كشف هذا النوع من الاهتزازات صعب لأنها تكون ضعيفة للغاية، لذلك لا تلتقط أجهزة الاستشعار التي لدينا الآن إلا الكميات الكبيرة من الموجات، التي تُنتجها أشياء مثل التصادم بين الثقوب السوداء.
ارتطام ثقبين أسودين يؤدي إلى انبعاث مقدار هائل من الموجات التثاقلية، لكن بسبب بُعد الثقبين اللذين رصدهما العلماء، لم تصل إلينا الموجات إلا بعد 1.4 مليار سنة، وبالتالي صارت خافتة جدًّا، ووصل طول الموجات التي رصدها الفيزيائيون إلى 0.7 أَتومتر، وهي أصغر بكثير من الذرة.
في الوقت الحالي، لا تستطيع المراصد أن تحدد بدقة مصدر الموجات التثاقلية، كل ما تقدر عليه هو رصد تلك التي تصل إلى الأرض.
يُجري المرصد، الذي يتبع المؤسسة الوطنية للعلوم، تجربتين في ولايتي لويزيانا وواشنطن بهدف التقاط هذه الموجات، إذ توضع مرآتان متعامدتان في نفقين على بعد أربعة كيلومترات من مركز استقبال الموجات، ثم يُرسَل إليهما شعاع ليزر ينعكس عدة مرات على المرآتين.
الغرض من التجربة التحقق مما إذا كانت الموجات التثاقلية تشوِّه نسيج الزمان والمكان بما فيه الكفاية كي يصبح طول أحد النفقين أكبر من الآخر مؤقتًا، وهذا بالضبط ما رصده العلماء في المرصد، ليعلنوا بعدها تأكيد نبوءة آينشتاين.
تبعات اكتشاف الموجات التثاقلية
في الوقت الحالي، لا تستطيع المراصد أن تحدد مصدر الموجات التثاقلية بدقة، كل ما تقدر عليه هو رصد تلك التي تصل إلى الأرض، لكن من المرجح أن يتغير هذا في العقود القليلة القادمة عندما يزداد عدد أجهزة الكشف المخصصة لهذا الغرض، مما سيمكن العلماء من تحديد الأماكن التي تأتي منها الموجات.
سيفتح هذا آفاقًا جديدة لعلم الفَلَك، ويمكِّن العلماء من رؤية المراحل المبكرة لتشكُّل الكون. تتبُّع الضوء المنبعث من مجرات بعيدة للغاية عننا صعب لأن التلسكوبات الحالية غير قادرة على فِعل هذا، يمكن للموجات التثاقلية، التي تتمدد دون أن يعترض طريقها أي شيء، أن تخبرنا عن اللحظات الأولى للكون، أو حتى «الانفجار العظيم»، وهو ما سيمنحنا فهمًا أفضل لكيفية تشكُّله.
اقرأ أيضًا: بيغ بانغ: كيف هزم رجل دين آينشتاين؟
يمكن لهذا الاكتشاف أيضًا أن يساعد على تحسين النظرية العامة لآينشتاين، التي رغم هيمنتها على فهمنا الحالي للجاذبية، فإن كثيرًا من علماء الفيزياء يعتقدون أنها ليست كاملة، لأنها لا تتفق مع قوانين ميكانيكا الكَمّ، لهذا ستسمح الموجات التثاقلية بوضع نظرية النسبية العامة محط اختبارات أصعب لمعرفة المواقع التي تفشل فيها.
كذلك، وعن طريق تتبع الموجات التثاقلية باختلاف مصادرها، يمكن اكتشاف نجوم نيوترونية جديدة، ومعرفة مدى شيوع دوران الثقوب السوداء حول بعضها، وعددها في الكون، فضلًا عن أنها ستساعد على تحديد مصدر وماهية المادة المظلمة، التي يُعتقد أنها تشكِّل 27% من مجموع المادة الموجودة في الكون.
علاوة على هذا، سيفتح اكتشاف موجات التثاقلية الباب على مصراعيه لرصد أجسام جديدة لم تكن متوقعة، مثل الأوتار الكونية، التي يُنظر إليها على أنها انحناءات في نسيج الزمان والمكان، تحتوي على كمية هائلة من الطاقة. ومع تطور أجهزة الرصد في السنوات القادمة وازدياد قوتها، سيصبح هذا المجال أكثر إثارةً مما هو عليه الآن.