عندما نذكر صراع الدين والعلم، فإن عقلنا لا إراديًّا يتوجه إلى عصر النهضة في أوروبا، حين أنزلت الكنيسة الكاثوليكية أبشع العقاب بمُخالفيها.
سنتذكر كيف أوصى الفلكي البولندي «نيكولاس كوبرنيكوس» بعدم نشر كتابه الذي يتحدث فيه عن دوران الأرض حول الشمس إلا قبل أيام من وفاته عام 1543، وكيف أُحرق الفيلسوف والرياضي «جيوردانو برونو» عام 1600 على الوتد، وكيف اضطُرَّ «غاليليو غاليلي» إلى طلب الغفران أمام المحكمة البابوية لأنه ساند آراء كوبرنيكوس، تحت وطأة تهديده بالتعذيب.
لكن ماذا لو قلبنا الآية: هل سبق للعلم أن اضطهد شخصًا لمجرد أنه متدين؟ هذا سؤال يبدو غير منطقي، فالعلم بطبيعته ساحر، متشكك، لا يقبل إلا بالنتائج المستندة إلى المراقبة والملاحظة الدقيقتين. لكننا ننسى أحيانًا أن العلماء بشر يرتكبون مغالطات منطقية مثلما نفعل في حياتنا اليومية، وأشهرها مغالطة المصادر (Fallacy of Origins)، عندما تُقبل فكرة أو تُرفض بسبب مصدرها (قائلها)، بدلًا من تقييمها لذاتها.
لحسن الحظ، لم يتعرض العالِم الذي نحكي عنه في هذا الموضوع لأي تعذيب جسدي مثل علماء القرون الوسطى، لكنه بالتأكيد كان مختلفًا عن نظرائه، وكان هذا كافيًا لاستبعاده وتهميشه. لم يكن مجرد عالم فيزياء فلكية، بل كان بالإضافة إلى ذلك كاهنًا كاثوليكيًّا. رغم هذا، ما زال عامة الناس حتى الآن لا يألفون اسم الأب «جورج لوميتْر»، لكنهم سمعوا كثيرًا عن اسم نظريته: الانفجار العظيم «The Big Bang».
حاول أن تتخيل أن هذا الكون كله، بمجراته ونجومه التي يبلغ عددها مليارات، ومواده وطاقته الهائلة، بل والزمان والمكان نفسيهما، كل هذا كان مضغوطًا في نقطة واحدة فقط أقل من الذرة، ثم انفجرت فجأة.
إن نظرية «الانفجار العظيم» تبدو أقرب إلى الهلاوس الدينية منها لنظرية علمية لائقة، ومع ذلك فإنها النظرية المدعومة حاليًا بمئات البيانات، والمقبولة على نطاق واسع لدى علماء الفيزياء.
هذا الموضوع هو تتبع لرحلة عظيمة بدأت مع بدايات القرن العشرين، منذ كافح لوميتْر لإثبات صحة فكرته أمام رفض العلماء، وعلى رأسهم ألبرت آينشتاين، ثم سنمر على أبرز الأسماء العلمية التي جاهدت للبحث عن حقيقة الانفجار العظيم، قبل أن تصبح واحدة من أهم النظريات العلمية التي شكَّلت العلم الحديث.
لماذا رفض آينشتاين نتائج معادلاته؟
الحديث عن أن للكون بداية اقترب من أحد أهم أسئلتنا كبشر: من أين أتينا؟ ما نشأتنا؟
إذا أردنا تتبع قصة «الانفجار العظيم» (من الآن فصاعدًا سنسميها «بيغ بانغ»)، ومثل كل قصة عظيمة في الفيزياء، علينا أن نعود إلى ألبرت آينشتاين، تحديدًا في العام 1915، بعد أن نشر نظريته الثورية «النسبية العامة».
إحدى النتائج المثيرة لهذه النظرية أن الكون برُمَّته إما يتمدد أو ينكمش، لكن آينشتاين كان متحيزًا لفكرة أن الكون ثابت، وعلينا أن نفهم النظرية أولًا لنعرف موقف آينشتاين الغريب هذا.
بالنسبة إلى آينشتاين، لا يوجد ما يُدعى بالزمان والمكان، بل الكون كله نسيج واحد متماسك هو «الزمكان» (Space-Time)، والجاذبية محبوكة في هذا النسيج. هذه الجاذبية قوية للغاية، وتجذب جميع المواد نحو بعضها بعضًا، ولأن الكون ثابت سيؤدي هذا إلى انهيار المجرات فوق بعضها، لكن لو أن الكون متمدد ستبتعد المواد عن بعضها بما يتناسب مع الجاذبية.
لكن آينشتاين كان مُصِرًّا على أن الكون ثابت، لا يتمدد أو ينكمش، لذلك افترض أن هناك قوة مساوية ومضادة للجاذبية. هذه القوة الثابتة تعمل ضد الجاذبية تمامًا للحصول على كون ثابت دون أن نضطر للتفكير في أنه يتمدد، وهو ما أسماه «الثابت الكوني» (Cosmological Constant) ورمزه λ. كان آينشتاين يرى أن الكون لا نهاية له أو بداية، كون ثابتٌ خالدٌ لا متناهٍ.
هنا يأتي دور الأب جورج لوميتْر، الذي سنتحدث عن نشأته فيما بعد، لكن ما يعنينا الآن أنه أخذ معادلات آينشتاين بالبحث بجدية عن طبيعة الكون المتمدد وليس الثابت.
الآن، لنفكر سويًّا بمنطق: طالما أن الكون يتمدد في كل لحظة، مثل البالونة، فلا بد أنه في اللحظة السابقة كان أصغر، ثم في اللحظة الأسبق كان أصغر وأصغر، وهكذا دواليك. لا بد أنه كان في لحظة ما مضت أصغر بكثير جدًّا لدرجة أنه أصغر من الذرة نفسها، تلك هي لحظة بدء الكون التي أسماها لوميتْر لاحقًا «الذرة الأولية» (Primeval Atom). منحتنا نظرية آينشتاين، بعد الاستعانة بالتفكير الخلاق للوميتْر، الإمكانية العلمية لنفكر في أن هناك بداية للكون.
كان لهذا الاستنتاج مدلول ديني وفلسفي قوي جدًّا. إنه واحد من أهم أسئلتنا كبشر: من أين أتينا؟ ما نشأتنا؟ لطالما كان البحث عن أصل لهذا الكون ينتمي إلى عالم الروحانيات والدين، وبدا مُستَغرَبًا للغاية أن يكون بوسع العلم الإجابة عن هكذا سؤال.
اقرأ أيضًا: بعد اكتشاف «ترابيست-1»، هل اقتربنا من الحياة خارج الأرض؟
البيضة الكونية التي فقست وأنتجت كوننا
من المفارقات التاريخية أن أول من سعى وراء نظرية موضوعية علمية عن أصل الكون كان كاهنًا كاثوليكيًّا. وكم بدا غريبًا أن الحلول العلمية للتساؤلات عن نشأة الكون بدت، بدرجة ما أو بأخرى، تحمل صبغة دينية.
وُلد الأب جورج إدوار لوميتْر في مدينة شارل لو روا البلجيكية عام 1894. عمل مهندسًا مدنيًّا، لكنه انشغل بالفيزياء والرياضيات واللاهوت، خصوصًا خلال فترة تجنيده في سلاح المدفعية مع الحرب العالمية الأولى.
نال لوميتْر الدكتوراه من جامعة لويفان الكاثوليكية في تخصص الرياضيات البحتة عام 1920، ورُسم كاهنًا عام 1923، ودرس الفيزياء الفلكية في جامعة كامبريدج على يد أستاذ الفلك العبقري سير «آرثر إدينغتون»، كما التحق لفترة بمعهد «MIT» في الولايات المتحدة، وعاد عام 1927 إلى لويفان بروفيسورًا في الفيزياء الفلكية.
في عام 1927، نشر لوميتْر ورقة بحثية بعنوان «عن كون متجانس ذي كتلة ثابتة ويتسع نصف قطره، بالاعتماد على السرعة الإشعاعية، للسُّدُم (جمع سديم) خارج المجرة»، وهو عنوان لن يتصدر قوائم أفضل مبيعات الكتب بالتأكيد، بل وحتى في إطار المجتمع العلمي الناطق بالفرنسية لم تلقَ هذه الدراسة اهتمامًا كافيًا.
السديم هو سُحُب هائلة بين النجوم تتكون من الغاز والغبار، لكن بعيدًا عن التفاصيل التقنية، توصل لوميتْر إلى النتائج الثورية نفسها التي سيصل إليها العالم الأمريكي المتأنق «إدوين هابل» بعدها بعامين، وعلى رأسها أن الكون يتمدد.
هابل فوق الجبل يتأمل
إنَّ ذكر هابل ينقلنا فورًا من بلجيكا المدمَّرة بفعل الحرب العالمية الأولى إلى جبال كاليفورنيا الأمريكية الساحرة، حيث يقبع مرصد «ماونت ويلسون»، وهناك استخدم العالم الفلكي هابل أحدث تلسكوب راصد في زمانه لمراقبة أعماق المجرات.
كان هابل قد توصل مسبقًا، بين عامي 1922 و1923، إلى أن هناك مجرات أخرى في كوننا، وهو اكتشاف مذهل للبشرية، التي كانت تظن أن مجرة «درب التبانة» هي كل كوننا المرصود، لكن اكتشافات هابل لم تتوقف.
استطاع الرجل قياس تألق النجوم البعيدة مقارنةً بالنجوم القريبة، خلال مراقبته لإشعاعها الكهرومغناطيسي، أي ظاهرة الزحزحة الحمراء، فعندما يتحرك جسم نحونا يزداد تألقه باللون الأزرق، وعندما يتحرك بعيدًا يزداد تألقه بالأحمر. وعندما يتمكن العلماء من قياس مدى احمرار جسيم كوني، يكون بإمكانهم حساب مدى بعده.
في عام 1929، اكتشف هابل أن المجرات ليست ثابتة بل تتحرك مبتعدةً عن بعضها بعضًا، بل إنها كلما ابتعدت بمسافة أكبر زادت سرعة ابتعادها أكثر، ولخص ذلك في قانون بسيط يُعرف بقانون هابل.
كيف يمكن ربط تباعد المجرات عن بعضها، وهو قانون ثابت، بنظرية تمدد الكون؟
لنتخيل أن الكون كله مجرد بالونة غير منفوخة. الصق قطعًا صغيرة من الورق في أرجاء البالونة، ثم ابدأ بالنفخ. ستلاحظ أنه كلما زاد انتفاخ البالونة، تباعدت قصاصات الورق (أي المجرات) عن بعضها بعضًا.
لكن هناك نقطة بسيطة لم ينتبه أحد إليها سوى لاحقًا، هي أن لوميتْر في رسالته ذات العنوان الطويل سبق هابل في اكتشاف القانون بعامين.
من آينشتاين إلى لوميتْر: شرحك الفيزيائي بغيض
هنا نكتشف خاصية جميلة في شخصية لوميتْر: التواضع. لم يهتم الرجل كثيرًا بإثبات نسبة قانون هابل لنفسه، فمن المهم أنه بات معروفًا وهذا يكفي، لكن ورقته البحثية سيقدَّر لها الانتشار.
في عام 1930، قدَّم معلمه وأستاذه سير آرثر إدينغتون معادلات لوميتْر بالإنجليزية ضمن شروحات بعنوان «عن الزعزعة في عالم آينشتاين الكروي»، ونُشرت ضمن المقالات الشهرية للجمعية الفلكية الملكية.
لكن لوميتْر كان يفكر في ما هو أبعد من تمدد الكون، كان يفكر في الاستنتاج الذي طرحناه مسبقًا: بما أن الكون يتمدد، فهذا يعني أن له بداية.
في عام 1931، دُعيَ لوميتْر إلى مؤتمر في لندن لمناقشة علاقة الدين بالكون الفيزيائي، وفيه تطرَّق للمرة الأولى إلى أن الكون له بداية، أي أن العالم شهد للمرة الأولى مولد نظرية «بيغ بانغ»، التي لم تكن تسمى كذلك وقتها. وصف لوميتْر النظرية بأنها «البيضة الكونية التي تنفجر عند بداية الخلق»، بيضة كونية كثيفة جدًّا، متناهية الصغر جدًّا، ساخنة لدرجة لا يمكن وصفها، وانفجرت ببساطة، ممَّا أدى إلى جعل الكون في وضعية حركة، وتكوين كل شيء نعرفه.
تشرت مجلة «Nature» العلمية الشهيرة، في عددها بتاريخ التاسع من مايو في نفس العام، رسالة مختصرة بعثها لوميتْر إليها، ويمكن القول دون مبالغة إنها زعزعت الوسط العلمي.
قال الرجل في الرسالة: «في عالم نشأ بواسطة كَمٍّ واحد (Quantum، أصغر كمية يمكن تقسيم الصفات الطبيعية إليها)، فإن مفهومي الزمان والمكان سيفشلان معًا في الوصول إلى أي معنى في البداية. لن يبدأ أي معنًى معقول لهما في التكوُّن إلا بعد أن ينقسم الكَمُّ الأصلي إلى عدد وافٍ من الكُموميات (Quanta، جمع Quantum)».
هل هي هلوسات كاهن يعاني ضلالات دينية؟ هل هو خلطٌ للعلم بالدين؟
في الواقع، وبينما كان مجتمع الفيزيائيين يؤمن بعمق بكون ثابت، فإنه لم يكن يُتصور أن يأتي رجل ليحطم هذا اليقين العلمي بثبات الكون. بدا وكأن لوميتْر متأثر باللاهوت وبقناعاته الدينية. حاجج كثيرًا أن نظريته حول وجود بداية للكون تُعد نظرية علمية، لكنه لم يلقَ إلا الاستغراب وعدم القبول من زملائه أعضاء المجتمع الفيزيائي، حتى أستاذه إدينغتون شكَّك في تفسيرات تلميذه.
كان تلخيص الموقف على لسان آينشتاين عندما قال له: «حساباتك الرياضية دقيقة، لكن شرحك الفيزيائي لها بغيض».
«حالة الثبات» تتحدى «بيغ بانغ»
من كلية ترينيتي في جامعة كامبريدج خرجت النظرية المعارضة لـ«بيغ بانغ». سُمِّيت هذه النظرية بـ«حالة الثبات» (Steady State Theory)، وترى أن الكون ثابت تمامًا، مثلما آمن آينشتاين في البداية.
تزعَّم المؤمنين بهذه النظرية العالم الفلكي الفذ «فرِيد هويل». الحقيقة أن موهبة هويل كانت استثنائية للغاية، وأهميته في مجال الفيزياء الفلكية لا يمكن إنكارها، ويكفي أن العبقري ستيفن هوكينغ قال إنه كان واحدًا من الأسباب التي ألهمته كي يلتحق بجامعة كامبريدج.
لا يمكن مقارنة هويل بلوميتْر المتواضع والمنطوي. كان الأول جامحًا شغوفًا، يعبِّر بثقة عمَّا يجول في خاطره، ويمكن لبعض الناس أن يصفوه بالغرور. كان أصغر من لوميتْر بنحو 21 عامًا، ومع ذلك فقد كان أكثر شهرةً منه بكثير. في الواقع، خلال الأربعينيات والخمسينيات، كان هويل واحدًا من أشهر علماء العالم على المستوى الشعبي، مثلما نتذكر الآن آينشتاين أو هوكينغ.
الكون الذي تصوَّره هويل، لطالما كان موجودًا بالشكل الذي نراه عليه حاليًّا، لا بداية له، وسيظل يتمدد إلى الأبد. كان أمام نظرية هويل عائق: إذا كان الكون ثابتًا ومع ذلك يتمدد، فإن ذلك يعني باختصار أن المادة الموجودة فيه ستُخفَّف أكثر فأكثر كلما تمدد الكون، وإذا كان الكون قديم جدًا، فإن المادة ستصبح مخففة بشكل لا نهائي.
الأمر أشبه بأن نتخيل مُرَكَّز عصير متكتل في أسفل كوب، كلما أضفنا الماء إليه سيخف المُرَكَّز أكثر وأكثر، وبمواصلة صبِّ الماء سيصبح العصير لا طعم له، بل أقرب إلى طعم مياه محلاة.
لكننا لا نعيش في كون شاحب حيث المادة مخففة، بل تبدو المادة موزعة في أرجاء الكون.
رد هويل بفرضية غير مقنعة، وهي أن المادة تتخلَّق في كل مكان بالكون، أو بحسب تعبيره، فإن المواد المعينة المشكِّلة للذرة في لحظة معينة تكون غير موجودة، وفي لحظة أخرى تصبح موجودة. لم يتقبل أغلب العلماء هذا الكلام، فكي نصل إلى نظرية مقبولة عن أصل الكون، يجب عليها أن تفسر لنا أصل العناصر الموجودة في هذا الكون.
النجوم مصانع عملاقة للمواد
لكن ليست كل أفكار هويل خاطئة، فبعضها جيد للغاية. توصل الرجل إلى أن العناصر الأثقل من الهيدروجين والهيليوم (أخفُّ عنصرين في الكون) تتكون بواسطة عملية التخليق النووي (Nucleosynthesis)، إذ يمكن، في قلب النجوم الساخنة جدًا، أن تندمج أنوية (جمع نواة) ذرات الهيليوم لتشكل العناصر الثقيلة، مثل النيتروجين والكربون والأكسجين والحديد، أي العناصر الصالحة للحياة، وهو ما نعرف الآن أنه صحيح تمامًا.
لكن النجوم الأولى لا بد أنها تكوَّنت من هيدروجين موجود بالفعل، فكيف تكوَّن الهيدروجين نفسه؟
افترض هويل أن الهيدروجين يتولد تلقائيًّا من الفراغ والطاقة، دون الحاجة إلى افتراض بداية للكون.
في نهاية الأربعينيات، كان فريد هويل قد بدأ تقديم برامج إذاعية علمية على راديو «BBC»، وفيها قارن بين فكرته عن حالة الثبات الكوني وفكرة لوميتْر حول البيضة الأولية، وأشار بشكل ساخر إلى نظرية بداية الكون مستخدمًا اسم «بيغغ بانغ»، ولزمها الاسم من وقتها.
تمكن هويل من استخدام الإعلام لتسويق فكرته والهجوم على النظرية الأخرى، وكانت «حالة الثبات» نظرية لها شعبية واسعة وسط العامة.
كيف تقبَّل الناس «بيغ بانغ» في النهاية؟
برز في قصة «بيغ بانغ» دور العالم الأمريكي من أصل سوفييتي «جورج جاموف»، الذي اقترح أنه وفقًا للنظرية، فإن كلًّا من الهيدروجين والهليوم وعناصر أخرى نشأت في الدقائق الأولى من عمر الكون، عندما كانت الحرارة أعلى بآلاف الدرجات من أي لُبٍّ داخلي للنجوم.
نفذ تلميذه «رالف ألفر» مع «روبرت هيرمان» حسابات رياضية، توصلا عن طريقها إلى أنه إذا كان الكون قام عن طريق إنشاء العناصر الأولى، فلا بد أن الهيدروجين يشكل تقريبًا 75% من عناصر الكون، وهو ما توافق فعلًا مع المراقبة الدقيقة.
تساءل جاموف كذلك: إذا كان «بيغ بانغ» قد ولَّد درجة حرارة مرتفعة للغاية، فاقت مليار مليار درجة فهرنهايت (درجة حرارة قلب الشمس 27 مليون فهرنهايت فقط)، فلا يُعقل أن يبرد الكون سريعًا ولا حتى في الوقت الحالي، ولذلك فلا بد أن ما تبقى من أثر «بيغ بانغ» يمكن قياسه اليوم. لكن في الأربعينيات لم تكن توجد تلسكوبات تقدر على قياس الحرارة أو الإشعاع المتخلِّف من ذلك الانفجار الكبير.
إذًا، ظلت نظريتا «حالة الثبات» و«بيغ بانغ» على وضعهما، لم تستطع أيًّا منهما الانتصار على الأخرى. وبينما بدا لوميتْر ساكنًا، وجاموف مستعدًا لقبول بعض معطيات هويل مثل «التخليق النووي»، فإن هويل نفسه بدا مصممًا على معاداة نظرية «بيغ بانغ» بشكل غريب، وهو ما يرى رالف ألفر أن له أسبابًا شخصية وليست علمية.
عامل الصدفة
جاءت الستينيات. آنذاك، كانت جامعة برينستون، ممثلةً في عالِمها المتألق «روبرت ديكي»، بالتعاون مع تلميذيه «ديف ويلكنسون» و«بيتر رول»، تبني جهازًا لقياس الإشعاع الذي يُفترض أنه تخلف عن «بيغ بانغ». كان من شأن اكتشاف هذا الإشعاع الذي تنبأ به جاموف أن يمنح الدليل الحاسم على صحة النظرية، لكن من اكتشفه لم يكن فريق برينستون، بل فريقًا آخر، وبالصدفة.
في عام 1964، كانت شركة «AT&T» (مختبرات بيل سابقًا) تعمل على التواصل مع الأقمار الصناعية. تحوِّل هذه الأقمار الموجات الصوتية إلى نبضات كهرومغناطيسية، ثم إلى أشعة ميكروية وأشعة راديوية.
كان عالما الفلك الإشعاعي «روبرت ويلسون» و«أرنو بنزياس» يستخدمان التلسكوب الراديوي الهائل التابع للشركة في هولمديل بولاية نيوجيرسي، عندما التقطا إشارات إشعاعية تنبعث على شكل شوشرة عشوائية، بدت أشبه بالشوشرة التي تنبعث من تردد راديو لا يبث شيئًا، لكنها تأتي من كل مكان في أرجاء الكون.
افترض بنزياس وويلسون أن هذه الشوشرة مصدرها اصطناعي، ربما كان بعض الهواة يعبثون في ترددات اللاسلكي، قد تكون إشارات من الطائرات، أو تداخل مع موجات بث من نيويورك القريبة، حتى أنهما وضعا افتراضًا أنه ربما سقطت حمامة في فوهة التلسكوب الكبيرة أو تبرَّزت فيها. استبعد العالِمان كل الاحتمالات ولم يتبقَّ إلا احتمال أخير: أن هذه الإشعاعات تأتي من كل مكان في الفضاء فعلًا.
قد يعجبك أيضًا: كيف عبَّرنا عن أنفسنا للكائنات الفضائية؟
وصل إلى ويلسون وبنزياس نبأ أن فريق برينستون يبحث عن الإشعاع الذي وجداه. وفي عام 1965، نشر العالِمان مع ذلك الفريق ورقتين منفصلتين في «المجلة الفيزيائية الفلكية». أُطلق على هذا الإشعاع اسم الأشعة الخلفية الكونية Cosmic Microwave Background) CMB)، وهي ما منح نظرية «بيغ بانغ» القبول العلمي العام، وحطَّم كون هويل الثابت إلى الأبد.
يفترض العلماء أن أشعة CMB هذه قد ظهرت بعد نحو 380 ألف عام من لحظة «بيغ بانغ». قبل ذلك، كان الكون مزيجًا من الجسيمات المشحونة مع الإشعاعات، مثل أشعة غاما والأشعة السينية، ثم عندما بدأت درجات الحرارة في الكون تنخفض، سمح ذلك لأولى الذرات المتعادلة كهربائيًّا بالتشكُّل. انفصلت المادة عن الإشعاعات، واستطاع أول الفوتونات (جسيم أوَّلي يحمل أشعة الضوء) أن يخترق الظلام.
من أجل هذا الاكتشاف الكبير، نال كلًّا من بنزياس وويلسون جائزة نوبل في الفيزياء عام 1978، واعتبره جاموف وفريقه إثباتًا لصحة توقعاتهم.
لكن قبل ذلك التكريم، وبينما كان الأب جورج لوميتْر على فراش المرض عام 1966، أُبلغ بنبأ اكتشاف أشعة CMB، وكان سعيدًا بالقبول العلمي المتتالي للنظرية، بينما ظل فِرِيد هويل حتى وفاته عام 2001 يعارض «بيغ بانغ»، ولم يصدقها أبدًا.
هل تعني «بيغ بانغ» حدوث الخلق الإلهي؟
«بيغ بانغ» واحدة من النظريات المؤسِّسة للعلم الحديث، والمدعومة بمئات المعلومات والبيانات.
لا أدَلُّ في الإجابة على هذا السؤال من الأب جورج لوميتْر نفسه. ففي عام 1951، صرَّح بابا الفاتيكان «بيوس الثاني عشر» بأن نظرية «بيغ بانغ» إثبات حقيقي لقصة الخلق كما وردت في سِفْر التكوين.
أرسل لوميتْر إلى البابا يطلب منه التوقف عن تكرار هذه التصريحات، إذ كان يرى أن على المسيحيين المخلصين أن يضعوا معتقداتهم الإلهية جانبًا، فنظرية «بيغ بانغ» تتنبأ بأشياء يمكن قياسها، وهناك أدوات علمية لقياس هذه التنبؤات.
لا نستطيع أن نتيقن إذا ما كانت فكرة «بيغ بانغ» قد خطرت للأب لوميتْر من معتقدات اللاهوت أو من خلال التدقيق العلمي، المهم أنه كان فيزيائيًّا ماهرًا، استطاع دعم أفكاره بمعادلات مبرهَنة واستنتاجات يمكن التنبؤ بها.
إن النظرية العلمية ليست مجرد تأمل أو خواطر، وإنما إطار جامع تنتظم خلاله عشرات المعلومات التي تدعمه ويفسرها. من غير النظرية لا يمكن فهم المعلومات، ومن غير المعلومات لا يمكن قبول النظرية، و«بيغ بانغ» واحدة من تلك النظريات المؤسِّسة للعلم الحديث، والمدعومة بمئات المعلومات والبيانات.
لن تكفي حتى أربعة أضعاف مساحة هذا الموضوع من أجل شرح تبعات نظرية «بيغ بانغ»، لكنها لم تفسر سر تساوي درجات الحرارة في الفضاء الخارجي، أو عدم توزع الكتل بالتساوي، فابتُكرت نظرية مكمِّلة لها تُدعى «التضخم» على يد الفيزيائي والفلكي الأمريكي «آلان غوث»، للإجابة عن هذه المشاكل.
وفي عام 2001، أطلقت وكالة ناسا قمرًا صناعيًّا يحمل مسبارًا يُدعى «Wilkinson Microwave Anisotropy Probe»، يُعرف اختصارًا باسم «WMAP»، لتصوير الحرارة العشوائية الصادرة من «بيغ بانغ»، أي التقاط صورة للكون وهو في بدايته. حصل العلماء على الصورة في فبراير 2003، وتمثل الكون عندما كان عمره 380 ألف سنة، وهذه الأنماط في الصورة تشكِّل ما سيصبح لاحقًا النجوم والمجرات الموجودة اليوم.
ولأنها نظرية علمية وليست دينية، ما زالت «بيغ بانغ» تلقى معارضة، وذلك في إطار السعي وراء بدائل علمية أكثر توافقًا مع البيانات التي بين أيدينا، ويمكنكم مشاهدة هذا الفيلم الوثائقي لمعرفة أبرز البدائل المطروحة، وإن لم تجد سندًا علميًّا بعد.
كلٌّ من آينشتاين ولوميتْر وهويل وجاموف وديكي وبنزياس وويلسون حاولوا الوصول إلى إجابات مقنعة بحثًا عن الحقيقة، وما زال أمامنا الكثير لنعرفه عن كوننا: ربما المادة المظلمة، أو الثقوب السوداء، أو الطاقة المظلمة، أو غيرها من الأسرار، وربما ينظر الجيل التالي إلينا بتعجب لأن أفضل عقولنا آمنت بنظرية «بيغ بانغ».
لا يهم إذا كان أحدنا متدينًا أو لا، المهم أننا جميعًا نتشارك نفس الفضول في البحث عن الحقيقة، والمهم أن نمتلك الأدوات العلمية في السعي لإثباتها.