لماذا ننام؟ ربما تبدو إجابة السؤال سهلة بالنسبة لنا، لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى العلماء الذين لا يزالون يتباحثون بشأن السبب، فيرى بعضهم أننا ننام لنوفر طاقتنا، ويرى آخرون أن النعاس فرصة للمخ للتخلص من مخلفاته، فيما تذهب مجموعة ثالثة إلى افتراض أن النوم لدى الحيوانات يجعلها تثبت في مكانها هادئةً لفترة، ممَّا يُبعد عنها الحيوانات المفترسة.
لكن ليست هذه الأسباب الوحيدة، بل هناك دراسة حديثة ترى أن هناك سببًا آخر للنوم، وجاء تفصيل هذا السبب في مقال منشور على موقع «النيويورك تايمز».
المخ يتخلص من الضجيج
ترى دراسة حديثة نُشرت في جريدة «Science» أننا ننام لننسى بعض الأشياء التي حدثت طَوَال اليوم.
يتكون عدد من الوصلات أو نقاط الاشتباك العصبي (Synpases) بين الخلايا العصبية للمخ، وتسمح هذه الوصلات بإرسال الإشارات بين خلايا المخ بسرعة، وداخل هذه الشبكة نخزن ذكرياتنا.
توصل العالمان «جيوليو تينوني» و«كيارا سيرللي» عام 2003 إلى أن الوصلات العصبية تنمو يوميًّا بطريقة تؤدي إلى إحداث «ضجيج» داخل المخ، لهذا، طبقًا للدراسة، يعمل المخ خلال النوم على تخفيف هذه الروابط ليغلب الإشارات المطلوبة على الضجيج.
منذ ذلك التاريخ، توصل العلماء إلى عدد من الدلائل لتأكيد هذه الفرضية التي أطلقوا عليها «فرضية اتزان التشابك».
توصلت التجارب إلى أن المخ يعمل على تقليل أو «تقليم» بعض الروابط، وجرب العلماء إعطاء المخ عقاقير تزيد من نمو هذه الروابط، فوجدوا أن الأعصاب تتخلص من بعض هذا النمو الزائد.
تأتي المزيد من الدلائل من دراسة الموجات الكهربية التي يرسلها المخ، ففي أثناء النوم العميق تتباطأ هذه الموجات، ويرجح العلماء أن تخفيف الروابط العصبية يؤدي إلى هذا التباطؤ.
نظرة عن قرب
استطاع تينوني وسيرللي النظر عن قرب إلى الوصلات العصبية عام 2012، وعن طريق قاطع دقيق للمخ نجحوا في أخذ شرائح متناهية الصغر من مخ فأر.
قادت الباحثة «لويزا دي فيفو» مسحًا دقيقًا للأنسجة المأخوذة من الفئران، التي كان بعضها مستيقظًا وبعضها نائمًا، ليدرس العلماء بعد ذلك أبعاد وأشكال أكثر من ستة آلاف وصلة عصبية، ويتوصلوا إلى أن هذه الروابط تكون أصغر بنسبة 18٪ في الفئران النائمة عن المستيقظة، وهي نسبة كبيرة.
أجرى الباحث «غراهام إتش دايرِنغ» بحثًا مهمًا آخر لفحص «فرضية اتزان التشابك»، فدرس البروتينات في مخ الفئران، وبدأ يحقن الفئران بمادة كيميائية تُظهر البروتينات الموجودة في الوصلات العصبية، فوجد بالملاحظة أن عدد البروتينات يقل في أثناء النوم، وهذا الانخفاض في العدد هو ما يحدث عادةً عندما يقل عدد الروابط.
حاول دايرنغ وفريقه دراسة الجزيئات لمعرفة البروتين المسؤول عن هذه العملية، ومن بين البروتينات المختلفة التي تقل أو تزيد داخل نقاط الاشتباك في الليل، بقي بروتين واحد على وضعه هو «Homer1A».
في دراسة معملية سابقة، توصل الباحثون إلى أن هذا البروتين يلعب دورًا مهمًّا في ربط الوصلات العصبية، وكانت الخطوة التالية تقصِّي ما إذا كان يلعب دورًا مهمًّا كذلك في النوم. ولمعرفة هذا، درس الباحثون مجموعة من الفئران المعدلة وراثيًّا بحيث لا تمتلك هذا البروتين، ونامت الفئران بصورة طبيعية، لكن خريطة البروتينات لم تتغير خلال النوم مثلما يحدث مع الفئران الطبيعية.
يرجح دايرنغ أن النعاس يعطي إشارة للأعصاب لإنتاج «Homer1A» ثم نقله إلى الوصلات العصبية، وعند النوم يعمل هذا البروتين على عملية تقليل الروابط.
اقرأ أيضًا: 5 نظريات وضعها البشر لتفسير ما نراه في الأحلام
كيف يؤثر هذا على التعلُّم؟
بدون تقليم الذاكرة للروابط الزائدة في أثناء النوم، تتحول الذكريات إلى فوضى.
لدراسة تأثير هذه النتائج على التعلم، أجرى العلماء اختبار ذاكرة لمجموعة من الفئران الطبيعيين، فوضعوهم في غرفة صغيرة بها رُقعة مُكهربة، تسبب للفئران صدمة كهربائية بسيطة إذا مشوا عليها.
في المساء، حقن العلماء بعضًا من الفئران التي كانت في الغرفة بمادة تمنع المخ من تقليم الروابط الزائدة، ثم أخذوا كل الفئران في اليوم التالي مرة أخرى ووضعوهم داخل الغرفة التي تحتوي على مساحة الكهرباء، فما كان من الفئران إلا أن بقيت في أماكنها لا تتحرك، خائفة لأنها تتذكر الصدمة الكهربية.
بعد قليل، أخذ العلماء الفئران ووضعوهم في غرفة مختلفة، وهنا ظهر الاختلاف، فأخذت الفئران التي لم تُحقن بالمادة في اليوم السابق تمشي داخل الغرفة الجديدة بفضول، بينما بقيت الفئران التي مُنعت أدمغتها من التخلص من الزوائد في أماكنها لا تتحرك.
يفسر دايرنغ هذه النتيجة بأن الفئران الأخيرة لم تستطع ترتيب ذاكرتها لتذكر شكل الغرفة المكهربة التي كانت فيها بالتحديد، فبدون تقليم الذاكرة خلال الليل، تحولت ذكرياتهم إلى فوضى.
ملاحظة مهمة أخرى توصل إليها فريق البحث، أن هذا التقليم لا يقع على كل الأعصاب، فقرابة خُمس الروابط لم تتغير، وتخص هذه الروابط في الأغلب ذكريات قوية ومهمة لا يجب أن تعامَل بالطريقة نفسها.
جواب نهائي؟
يطرح «ماركوس إتش شميدت»، المتخصص في طب النوم، تساؤلًا مهمًّا: «كل ما توصلوا إليه رائع، لكن هل هذه مجرد وظيفة من وظائف النوم؟ أم أنها وظيفته الوحيدة؟»، ويوضح أن الكثير من أعضاء الجسم تتصرف بشكل مختلف خلال النوم، وليس المخ فقط.
اقرأ أيضًا: فوائد الكسل: لماذا ينبغي أن نحصل على راحة دون شعور بالذنب؟
بينما يرى تينوني أن هذه الأبحاث ربما تدفع الأطباء لإعادة النظر في المنوِّمات، إذ تؤدي الأدوية إلى النوم لكن قد يكون لها تأثيرات جانبية على عمليات الذاكرة، وهكذا يرى أن إنتاجها في المستقبل يجب أن يركز اهتمامه على تحفيز النوم فقط دون التأثير على أي عملية أخرى.