ربما يذكر مستخدمو أجهزة الكمبيوتر في تسعينيات القرن الماضي الطرق البدائية لتخزين البيانات، سواءً كانت الذاكرة الداخلية للكمبيوتر أو الأقراص المدمجة، التي لم تكن تستوعب أكثر من بضعة ميغابايتات على أقصى تقدير، ثم بدأت سعة التخزين تزداد مع ازدياد حجم الملفات واتساع نطاق استخدام الحواسب.
بسبب زيادة الطلب على سعات تخزينية أكبر، زادت جهود المطورين لإنتاج وسائط تخزين ذات مساحات فلكية مقارنةً بما كانت عليه منذ 20 عامًا فقط، حتى وصلنا إلى ما يُعرف بالتخزين السحابي، وتتبارى الشركات حاليًّا في توفير مساحات تخزين لمستخدميها على الإنترنت، وإن كانت إمكانية اختراقها تظل قائمة، مثلما حدث في واقعة تسريب بيانات سحابة شركة «آبل»، حين استولى قراصنة على صور خاصة لمشاهير وسربوها عبر الإنترنت.
والآن، بعد أن حاول العلماء التفكير بشكل غير تقليدي، توصلوا إلى إمكانية تخزين كميات مهولة من البيانات داخل خلايا الجسم البشري، بحسب تقرير أعده موقع «Technologyreview».
وظيفة جديدة للحمض النووي
الحمض النووي أكثر مادة قابلة لتخزين البيانات في الكون، ويمكن لمادة لا يتجاوز حجمها مكعب سكر احتواء جميع الأفلام التي أُنتجت في التاريخ.
تعمل شركة «مايكروسوف» على مشروع طويل الأمد، يستهدف إنتاج وسيط تخزين للبيانات يعتمد على الحمض النووي (DNA) الموجود داخل كل خلية في أجساد البشر، كي تجد، بنهاية العقد الحالي، بديلًا لوسائط التخزين التقليدية، التي لم تعد تفي باحتياجات العصر بالشكل المطلوب.
يقول «دوغ كارمين»، أحد المُسهِمين في أبحاث «مايكروسوفت»، إن الفريق يستهدف إنتاج نموذج لنظام تخزين البيانات على الحمض النووي خلال ثلاث سنوات، بنفس الطريقة التي تخزن بها الجينات الوراثية كمية هائلة من المعلومات.
«فيكتور زيرنوف»، رئيس اتحاد أبحاث التكنولوجية الأمريكية (SRC)، يؤكد النظرية نفسها لكاتب المقال، فالحمض النووي يمكنه تخزين البيانات بكميات لا تُصدق، وهو أكثر مادة قابلة لتخزين البيانات في الكون بتلك الكثافة، فباستطاعته احتواء جميع الأفلام التي أُنتجت حتى الآن على مادة لا يتجاوز حجمها مكعب سكر.
أعلنت «مايكروسوفت» أنها نجحت في تخزين 200 ميغابايت من البيانات داخل حمض نووي، وهو رقم قياسي في استخدام هذا النوع من وسائط التخزين في الوقت الحالي، لكن إحدى العقبات الأساسية التي تواجه العلماء في هذا الصدد هي تحويل البيانات الرقمية من وحدة «البايت» إلى شفرة الحمض النووي المتكونة من سلاسل تسمى «نيوكليوتيدات».
تكلفة باهظة وعيوب أخرى
بسبب بطء نقل البيانات إلى الحمض النووي، قد يقتصر استخدام تلك التقنية على اتجاهات محدودة.
تحويل البيانات الرقمية من وحدة «البايت» إلى شفرة الحمض النووي صعب، لأنها عملية تتطلب استخدام حمض نووي صناعي. خلال مشروعها، جلبت «مايكروسوفت» نحو 13.5 مليون عينة «DNA» مصنّع، وتكلفة شراء تلك الكمية قد تصل إلى 800 ألف دولار أمريكي.
ترى «مايكروسوفت» أن تكلفة استخدام الحمض النووي لهذا الغرض ينبغي أن تنخفض قبل أن تعتمده على نطاق واسع كوسيط تخزين، وتأتي مشكلة بطء نقل البيانات أيضًا ضمن العقبات، إذ نجحت «مايكروسوفت» خلال تجربتها في نقل البيانات بسرعة 400 بايت في الثانية الواحدة، إلا أنها تحتاج إلى زيادة تلك السرعة لتصبح 100 ميغابايت.
يعتقد مطورو مشروع «مايكروسوفت» أنه بسبب بطء نقل واستعادة البيانات المخزنة على الحمض النووي، فإن استخدامه كوسيط تخزين قد يقتصر في البداية على أمور محدودة، مثل البيانات المستخدمة في المجال الأمني أو الطبي، التي تحتاج إلى أرشفة كميات هائلة منها.
تتعاون «مايكروسوفت» حاليًّا مع شركة «Twist Bioscience»، أحد منتجي الـ«DNA» في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، وظهرت شركات أخرى في نفس المجال على الساحة، مما يبشر بقطع خطوات كبيرة في هذا الصدد.
تبشّر تلك الشركات بفرصة عظيمة لتغيير الطريقة القديمة لإنتاج الحمض النووي، التي استمرت لمدة 40 عامًا، إلى طريقة أخرى تعتمد على الإنزيمات، وهي طريقة مشابهة لما تفعله أجسادنا لإنتاج الـ«DNA»، ومن المنتظر أن تظهر نتائج طيبة لتلك التجارب قبل نهاية عام 2017.
ابتكار لا يقدم ولا يموت
علينا الاستعداد لقبول الـ«DNA» بوظيفة أخرى غير تلك التي عرفناها طيلة السنوات الماضية، والنظر إليه كابتكار جديد.
وضع فيكتور زيرنوف، وكذلك اتحاد أبحاث التكنولوجية الأمريكية الذي يرأُسه، في اعتبارهم الحمض النووي كأحد الوسائط الممكنة لتخزين البيانات منذ عام 2013، عندما اكتشفوا أن البيانات المخزنة على الحمض النووي تظل سليمة لفترة تزيد عن ألف ضعف تلك المخزنة على وسائط التخزين المعروفة لنا في الفترة الحالية، وخير دليل على ذلك أن البيانات المستخرجة من عظام أفيال الماموث المنقرضة والإنسان البدائي تتميز بقدرتها الاستيعابية الهائلة، فملليمتر مكعب واحد من الحمض النووي يمكنه حمل بيانات تقدر بـ1,000,000,000,000,000,000 بايت.
رفضت «مايكروسوفت» قطع وعد بإعلان خطة عمل واضحة لتقديم الـ«DNA» كوسيط تخزين في الفترة الحالية، لأن الفكرة، رغم أنها حظيت بقبول داخل الشركة، لم تحظَ بنفس القبول بشكل عالمي.
يبدو أن علينا إعادة النظر إلى الحمض النووي، والاستعداد لقبوله في وظيفة أخرى غير تلك التي عرفناها طيلة السنوات الماضية، والنظر إليه كابتكار جديد، ليس كسابقيه، إذ أنه لن يعفو عليه الزمن كما عفا على غيره من وسائط التخزين التي تكاد تكون طي النسيان الآن، فالـ«DNA» باقٍ ما بقي الإنسان على الأرض.