واجه علماء الفيزياء الفلكية في جامعة أوكسفورد مشكلة في عام 2007، فبعد الوصول إلى ملايين الصور الملتقطة للمجرات، التي يمكن أن تساعدهم على أبحاثهم عن تشكيل النجوم، كانوا يفتقرون إلى الموارد اللازمة لفرز وتصنيف الصور بأنفسهم.
كان الحل لهذه المشكلة هو «غالاكسي زو»، أحد المشروعات الأولى التي تنجح في حشد جمهور عبر الإنترنت للمشاركة في بحوث علمية بنجاح. وفي السنة الأولى وحدها، جمعت «غالاكسي زو» 50 مليون تصنيف للمجرات بمساعدة المتطوعين المتحمسين، الذين انكبُّوا على الصور لتصنيفها وفق مجموعة من القواعد أعلنها العلماء على موقع المشروع.
هذا النشاط العلمي التطوعي من الناس العاديين، الذي جعله الإنترنت ممكنًا، يُعرف باسم «عِلم المواطن»، ويمكِّن العلماء من جمع بيانات حقيقية لاستخدامها في أبحاثهم، بمساعدة مشاركين من مختلف الأعمار والخلفيات.
بالنظر إلى الأشياء التي تحبها، سواء كانت الحيوانات أو النجوم أو حتى التقاط صور بهاتفك الذكي، ستجد دومًا مشاريع من هذا النوع تبحث عن مشاركة شخص مثلك. وإليك بعض الأمثلة للمشاريع التي يمكنك، أنت وأصدقاءك، المشاركة فيها في وقت فراغك.
كُن مريخيًّا إذا لزم الأمر
يحتاج العلماء بشدة إلى مساعدة الجيل القادم من المستكشفين.
أسست وكالة ناسا موقعًا إلكترونيًّا يُسمى «كُن مريخيًّا»، يتيح للمستخدمين ممارسة الألعاب بينما يُفرزون في الوقت نفسه مئات الآلاف من الصور للكوكب الأحمر لمساعدة العلماء على دراسته.
بلغ عدد الصور التي التقطتها المركبات الفضائية للمريخ منذ ستينيات القرن العشرين رقمًا هائلًا، حتى أن العلماء صاروا عاجزين عن دراستها بمفردهم، لذا تعتقد الوكالة أنها بإشراك الجمهور في تحليل الصور ستحقق مزيدًا من الاكتشافات.
يمكن للاعبين في «كُن مريخيًّا» كسب نقاط في إحدى الألعاب إذا نجحوا في مساعدة ناسا على فحص الصور وتنظيمها على هيئة خريطة أكثر اكتمالًا للكوكب. وفي لعبة أخرى، يُتاح للمستخدمين عد الحُفر على ظهر المريخ لمساعدة العلماء على فهم العمر النسبي للصخور على سطحه.
قد يهمك أيضًا: هل اقتربنا من الحياة خارج الأرض؟
اعتقدت ناسا أن هذا المزج بين تحليل البيانات الحقيقية والاستمتاع سيُلهم علماء الكواكب في المستقبل أيضًا، وقالت «ميشيل فيوتي»، التي تشارك في الإشراف على بعثات المريخ بالوكالة، إن العلماء «في حاجة شديدة إلى مساعدة الجيل القادم من المستكشفين. إننا نحقق شيئًا مهمًّا لناسا، فهناك الكثير من البيانات التي تعود بها المركبات الفضائية من المريخ، لذا، أن يتاح للجماهير الاطلاع على هذه البيانات، والمساعدة على تصنيفها وفهم معناها، هو أمر شديد الأهمية».
جرِّب علوم المخ والأعصاب كهواية
يعتقد العلماء أن كل فكرة وكل إحساس عبارة عن مجموعة من النبضات الكهربائية الصغيرة، تتدفق خلال الخلايا العصبية المتصلة داخل الدماغ. على سبيل المثال، عندما تتعلم فتاة صغيرة كلمة ما، يسجلها دماغها عبر تغيير الاتصالات بين خلايا المخ، وحين تتعلم ركوب الدراجة أو غناء «عيد ميلاد سعيد»، تبدأ مجموعة جديدة من الاتصالات في التشكُّل.
كلما كبرت الفتاة في السن، يجري تسجيل كل ذكرى (سواء كانت اسم صديق، أو أول زيارة للملاهي، أو أول سماع لموسيقى بيتهوفن) بهذه الطريقة، وتؤلف هذه الاتصالات مجتمعةً شبكتها العصبية، حيث يسجل الدماغ بصورة دائمة سمات شخصيتها ومواهبها وذكاءها وذكرياتها، أو بمعنى آخر: كل ما يشكل هويتها.
قد نستغرق نحو مليون عام لتتبع حركة الخلايا العصبية في ملليمتر مكعب واحد من القشرة الدماغية.
تنطوي الخلايا العصبية البشرية على آلاف الاتصالات، ويمكن للخلية العصبية أن تكون دقيقة بقدر واحد من عشرة آلاف من الملليمتر، لكنها قادرة على التمدد من أحد جانبي الرأس إلى الآخر. لذا لم ينجح العلماء بطبيعة الحال في تتبع مسارات الخلايا العصبية إلا مرة واحدة في عام 1970، حين تمكن «سيدني برينر»، عالم البيولوجيا الذي حصل على جائزة نوبل في الطب، من تتبع حركة الخلايا العصبية للدودة المستديرة، في عملية شديدة التعقيد استمرت لأكثر من 12 عامًا.
وفي عام 2005، قرر عالم كوري أمريكي يُدعى «سيباستيان سونغ» تغيير تخصصه من الفيزياء النظرية إلى علم الأعصاب، ليصبح أستاذًا مشهورًا ويسافر العالم لإلقاء محاضرات عن نظرياته الرياضية بشأن الطريقة التي تتصل بها الخلايا العصبية عند تسجيل فكرة ما.
عندما بدأ سونغ في الإعداد لتجربته، قدَّر أن تتبع حركة الخلايا العصبية قد يستغرق نحو مليون عام لإنهاء ملليمتر مكعب واحد من القشرة الدماغية، مما يعني أن تتبع خلايا الدماغ البشري جميعها سيستهلك ما يقرب من تريليون سنة من العمل، لذا، رأى أنه يحتاج إلى قليل من المساعدة.
قد يعجبك أيضًا: كيف وجد العلماء الله في مخ الإنسان؟
في عام 2012، أطلق سونغ «آي واير»، وهي لعبة على الإنترنت تتحدى المشاركين لتتبع الأسلاك العصبية في شبكية عين أحد الفئران، فيما تعالج خوارزميات الذكاء الصناعي التي أعدها سونغ الصور الخام. يكسب اللاعبون نقاطًا في كل مرة ينجحون فيها في ربط الفروع الصحيحة للخلية العصبية بالجزء المخصص لها في القشرة الدماغية، متبعين أسلوب التلوين بالأرقام في مكعب ثلاثي الأبعاد.
اجتذبت اللعبة نحو 165 ألف لاعب من 164 بلدًا، ويبدو أن سونغ يستخدم الذكاء الصناعي في حشد جيش افتراضي من العلماء الهواة، قائم بصورة أساسية على التطوع. ضم هذا الجيش مشاركين من مختلف الأعمار والخلفيات، بمن فيهم لوريندا، وهي جدة من ولاية ميزوري الأمريكية تحب الرسم بالألوان المائية، وإليان، طالب المرحلة الثانوية البلغاري الذي استمر في اللعب ذات مرة لمدة 24 ساعة متتالية.
العب لتحمي بيئتك
أدى النجاح الهائل الذي حققه مشروع «غالاكسي زو» الخاص بوكالة ناسا إلى أن يسعى باحثون آخرون لإنشاء منصات تسمح لهم بتلقي مساعدة الناس، فبنى فريق أوكسفورد منصة «زونيفيرس»، وهي منصة إلكترونية تنتج مشاريع مصممة خصيصًا لجميع مجالات الدراسة تقريبًا، وشملت المشاريع الأولى مشروعًا يُسمى «صيادو الكواكب»، حقق اكتشافات رائعة مثل التعرف إلى أول كوكب يدور في فلك أربع نجوم.
في غضون سنواتٍ قليلة، أصبحت «زونيفيرس» أكبر منصة بحوث تعمل بالقوة البشرية في العالم وأوسعها انتشارًا، مستضيفةً أكثر من 50 مشروعًا، يسمح كلٌّ منها لأكثر من مليون شخص من جميع أنحاء العالم بالانخراط في مجموعة واسعة من البحوث الأكاديمية، مثل دراسة أوراق البردي القديمة، أو التعرف إلى العوالق أو الحياة البرية في موزمبيق، أو المساعدة على فهم تأثير الجينات على السلوك، أو التعليق على يوميات كُتبت في أثناء الحرب العالمية الأولى.
الشهية لمعرفة المزيد عن موضوع بعينه كانت دافع المشاركين الأول، يليها إحساسهم بأنهم جزء من مجتمع أكبر.
ليس بوسعك أن تشعر بآثار هذه المشروعات على المستوى الأكاديمي فقط، إذ كان لمشروعين على وجه الخصوص أثر بيئي مباشر، فوفَّر مشروع «مراقبو الأوركيد» مثلًا منتدًى يتيح للناس التعرف إلى زهور الأوركيد، وملاحظة مراحل ينوعها، وتحميل صور التقطوها بأنفسهم، وأظهرت البيانات التي جرى جمعها أن بساتين الأوركيد تُزهر قبل أوانها، وهو مقياس واضح لتأثير تغير المناخ.
اقرأ أيضًا: ماذا تعرف عن مشاعر الشجر وذكرياته؟
في مشروع «مراقبة البطريق»، يتعرف المشاركون إلى البطاريق وبيضها وفراخها في مواقع تعشيشها، الأمر الذي يعطي للباحثين بيانات مفصلة عن نجاح تربية البطاريق. ويكشف هذا تأثير الصيد التجاري في مستعمرات البطاريق، ومِن المرجح أن يؤدي إلى تغييرات في سياسة الصيد.
لماذا نشارك في أنشطة عِلم المواطن؟
ما الذي يدفع أي شخص لوهب وقته وجهده إلى مشروع من مشاريع عِلم المواطن، رغم أنه لن يحصل على مقابل مادي ولا حتى اعتراف بجهده إلا وسط آلاف غيره من المتطوعين؟
خلصت دراسة جديدة إلى أن من يتخلى عن وقته من أجل العمل التطوعي عبر الإنترنت، تحركه في الأصل الرغبة في التعلم.
استطلع العاملون على الدراسة آراء المتطوعين حول مشاريع عِلم المواطن، واستنتجوا أن هذا النوع من العمل التطوعي يمكن أن يستخدم لزيادة المعرفة العامة بالعلم داخل المجتمع. اكتشف البحث كذلك أن الشهية لمعرفة مزيد عن موضوع بعينه كانت دافعهم الأول، يليها إحساسهم بأنهم جزء من مجتمع أكبر، وكشف أيضًا أن بعض المتطوعين تحركهم رغبة في الفرار من الواقع.
عادةً ما تعتمد مشروعات التطوع عبر الإنترنت لجمع البيانات أو تصنيفها أو تحليلها على بيانات أدخلتها أعداد هائلة من المساهمين، يعملون بصورة فردية لكن نحو هدف مشترك. ففي النهاية، تفعل أجهزة الكمبيوتر ما في وسعها، وتترك الباقي لأقوى تكنولوجيا قادرة على تمييز الأنماط المختلفة، وأكثرها فعالية: الدماغ البشرية.