في العقود الأخيرة، ظهرت مجموعة من الابتكارات التكنولوجية التي تعِد بتحقيق النبوءة التي طالما داعبت مخيلة كثير من كتاب قصص الخيال العلمي، أي دمج الآلة مع الإنسان.
من بين هذه التقنيات واجهة الدماغ والحاسوب، التي مكّنت الإنسان من التواصل مع الآلة والتحكم فيها عن طريق فتح قناة تسمح بإرسال تعليمات من الدماغ إلى جهاز الحاسوب المرتبط به وتنفيذها.
بالنسبة لمن يعانون أضرارًا على مستوى الوظائف الحسية والحركية، فهذه أخبار سارة، إذ سيتيح لهم التقدم الذي يشهده هذا المجال استعادة بعض ما فقدوه، على غرار تحريك أطرافهم الاصطناعية بكفاءة أكبر والإبصار مجددًا واسترجاع القدرة على السمع بكيفية أفضل.
ما حققته التطبيقات الطبية لهذه التقنية، بالرغم من تواضعه، فتح الباب على مصراعيه أمام شركات وادي السيليكون لخوض غمار تجارب طموحة تأمل في ردم الهوة بين التفكير والفعل وتطويع الجسم البشري وتحسينه لكي يصمد أمام اختبار الزمن.
التصور الذي يوجّه هذه الطموحات هو الفكرة القائلة بأن أجسادنا مجرد آلات أو حواسيب يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها وترقيتها إذا اقتضى الأمر هذا، وهي فكرة سبق أن قالها الفيلسوف ديكارت وعالم الفسيولوجيا هيرمان فون هيلمهولتز وكذا عالم الرياضيات جون فون نيومان.
لكن مقالًا على موقع «Gizmodo» للكاتبة والصحفية «كريستين براون» يوضح أن الشعار الذي يسترشد به عمالقة التكنولوجيا في وادي السيليكون، والذي يقوم على تفكيك المشكلات والعمل على حلها بعجالة، يُقارب هذا التحدي من منظور خطأ، لأن الجسم ليس آلة ولا يمكن اختزاله إلى مجرد حاسوب.
استشراف المستقبل: تقفي أثر السايبورغ
في الأشهر القليلة الماضية، بدأت كبرى الشركات في وادي السيليكون إبداء اهتمامها في المرشح التالي على لائحة ما ينبغي تطويره، أي الجسم البشري.
أعلنت شركة فيسبوك أنها تخطط لتطوير نظام واجهة دماغ حاسوبية يسمح للبشر بالاتصال باستخدام أفكارهم فقط دون الحاجة للتحدث، واضعة نصب عينيها أن تُمكّن الناس كلهم مستقبلًا من كتابة مائة كلمة في الدقيقة بواسطة أفكارهم لا غير.
في غضون عامين فقط، تعتقد الشركة أنها ستعرف ما إذا كانت خطتها لكتابة مائة كلمة مرسلة من أدمغتنا إلى الحاسب، ممكنة أم لا، وذلك علمًا أن الرقم المسجل حاليا للكتابة باستعمال واجهة دماغ حاسوبية لا يتعدى ثماني كلمات في الدقيقة.
جاء هذا الإعلان في أعقاب تصريح مؤسس شركة تيسلا، «إلون ماسك»، بأنه يرغب في إطلاق مشروع جديد هدفه تطوير تكنولوجيا تربط الدماغ بالحاسوب وتسمح للناس بالتخاطر وتبادل أفكارهم دون الحاجة إلى وسائل التواصل التقليدية، وهو المشروع الذي أطلق عليه اسم «Neuralink».
يقول ماسك إن مشروع شركته الجديدة سيكتب له النجاح في غضون عشر سنوات، مع أن تكنولوجيا قراءة الدماغ التي تعتمد عليها ليست أكثر من مخطط خيالي، لكون التقنيات المتاحة اليوم تمكّن فقط من قياس جزء ضئيل من النشاط العصبي الضروري لربط الدماغ بأكمله بجهاز الكمبيوتر.
اقرأ أيضًا: تقنيات الذكاء الصناعي: هل حان أوان القلق بشأن مستقبلنا؟
في المقابل، توجهت شركات أخرى بعيدًا عن هذه الموضة الجديدة واستثمرت في عقاقير مثل النوتروبيكس، أو الأدوية الذكية، من أجل التحكم في كيمياء الدماغ، على أمل إطالة العمر وتحسين الصحة على المدى الطويل.
عراقيل في الطريق
لا تقوم أدمغتنا بمعالجة المعلومات بنفس الكيفية التي يعالج بها الكمبيوتر البيانات التي تصله.
قد يبدو للوهلة الأولى عند سماع هذه الأخبار أننا اقتربنا كثيرًا من ذلك العصر الذي يصير فيه الروبوت والإنسان واحدًا، لكن هذه التقنيات تواجه عددًا من الصعوبات.
فلنأخذ على سبيل المثال كيفية تخزين الدماغ الذكريات، فهو لا يخزنها كما تفعل أجهزة الحاسوب التي يمكنها أن تستدعي المعلومات من بنك الذاكرة بناء على الطلب. ولو كانت أدمغتنا مثل الحاسوب لكان بمقدورنا أن نتذكر ما تناولناه في وجبة الغداء الأسبوع الماضي، أو أين وضعنا مفاتيح السيارة البارحة بسهولة ودون أي جهد.
أضف إلى ذلك أن أدمغتنا لا تقوم بمعالجة المعلومات بنفس الكيفية التي يعالج بها الكمبيوتر البيانات التي تصله، فالمخ لا يملك كابلات يمكن توصيلها وتشغيلها مثلا لاستبدال الاكتئاب أو محوه كليًا.
لا يمكن اختزال أجسامنا كذلك إلى محض قطع آلية تعمل في اتساق وانسجام، فبالرغم من أن الأبحاث الطبية انطلقت منذ عقود، فإن تحديد الآليات البيولوجية الخاصة بالشيخوخة أو اللياقة البدنية، التي يمكن لدواء معين أو حمية غذائية محددة أن تتحكم فيها، لم يتحقق بعد.
قد يهمك أيضًا: أطراف صناعية رخيصة: وعود طبية هائلة تقدمها الطباعة «ثلاثية الأبعاد»
لذلك، تبقى محاولة كتابة منشور على صفحة الفيسبوك الخاصة بنا أو إرسال بريد إلكتروني لزميل في العمل باستخدام واجهة دماغ حاسوبية مسألة معقدة جدًا، من وجهة النظر البيولوجية والتكنولوجية، خصوصًا إذا راجعنا مجمل الخطوات التي تدخل في هذه العملية من ملء عنوان المرسَل إليه والموضوع المراد إرساله وكيفية بناء الفقرات وغيرها.
وعمومًا، ما تؤكده هذه الأبحاث هو أن كلًا من دماغ وجسم الإنسان أعضاء معقدة بشدة، لكن هذا لم يُثنِ العلماء عن الأمل في أن تساعد تقنية واجهة الدماغ الحاسوبية مستقبلا في تخفيف شدة أمراض عقلية مثل الاكتئاب الحاد، بالرغم من أن تعيين أي المناطق الدماغية يجب استهدافها بالنسبة لكل مرض على حدة ما زال أمرًا غير واضح تمامًا.
الإنسان ليس آلة
الأموال التي وضعها عمالقة التكنولوجيا بين يدي العلماء لتحقيق قفزة نوعية علمية قد تثبت أن فوائدها أكبر مما يمكن تصوره.
اعتبار الجسم مجرد آلة أرقى من بقية الآلات التي تملأ كوكبنا حفّز نقاشات فلسفية كثيرة وأسهم في إطلاق أبحاث عديدة، كما أنه أشاع المصطلحات نفسها في مجالي البيولوجيا والحوسبة على حد سواء، مثل مصطلح الشبكات العصبية الصناعية.
قد يعجبك أيضًا: الشبكات العصبية الاصطناعية: تعرَّف إلى دماغ «غوغل» والعقول التي تقف خلفه
وجهة النظر هذه، التي تتبناها شركات وادي السيليكون، تصبح مثيرة للقلق خصوصًا عند محاولة دمج البيولوجيا والحوسبة، إذ إننا نخاطر بأن نبدأ في معالجة جسم الإنسان، بكل تعقيداته وهشاشته وغموضه، مثلما نتعامل مع الآلات.
نخاطر كذلك بتقديم وعود لا يمكننا تنفيذها، وإضاعة الوقت والمال وصبر الناس على بحوث تقترح إمكانية التحكم في الجسم البشري إذا ما تضافرت الجهود لهذا الغرض، كما يحتمل أن تضر هذه المغامرة غير المحمودة بصحتنا ومستوى رفاهيتنا.
مع ذلك، فكل تلك الأموال التي وضعها عمالقة التكنولوجيا بين يدي خيرة العلماء الذين جمعوهم لتحقيق قفزة نوعية في هذا الميدان، قد تثبت أن فوائدها أكبر مما يمكن تصوره.
المهم هو ألا ننسى أننا كائنات حية تتنفس وتعيش وتتواصل مع الآخرين، ولسنا مجرد آلات لا حياة فيها.