بعد تأثر أكثر من 90% من طلاب العالم بتداعيات إغلاق المدارس، إثر الظروف المترتبة على تفشي وباء كورونا المستجد في مجمل أصقاع الكوكب، عمد العديد من الدول إلى اتخاذ قرارات آنية لضمان استمرارية تعليم الطلاب، وذلك بالتحول إجباريًا إلى أساليب التعليم الإلكتروني والتعويل على منصات التعلم عن بعد.
بين ليلة وضحاها تبدلت ملامح التعليم، إذ تنازلت المؤسسات التعليمية عن أبرز أركان العمل المدرسي المعتادة، تاركة ما كانت تشتمل عليه من استيقاظ صباحي، وزي موحد، وطابور يومي، وانضباط صفي وخلافه، ولم يبق من شكل التعليم المعهود إلا أداة التوجيه المعرفي: «المعلومات» التي تفرضها المدرسة على الطالب عبر موقعها الإلكتروني، وعن بعد، دون أي اشتراطات تقيده بالوقت أو تحدد له المكان الذي يتعلم منه.
أما في ما يتعلق بمصير الاختبارات الفصلية والنهائية، فهناك عدة توجهات واضحة بعدم إجرائها، والاكتفاء بتقييم المعلم لأداء الطالب خلال الفصل الدراسي، مع قدرة الطالب على تحسين فرص تفوقه بإنجاز الفروض المنزلية، علاوة على منحه حق الاستئناف لمراجعة درجته لدى معلمه في حال عدم رضاه، وهو ما ذهبت إليه عدة دول مثل كندا وهولندا وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة.
أما إيطاليا، فقد ألغت الاختبارات المطلوبة من خريجي كلية الطب من أجل تسريع تخرج أكثر من 10 آلاف طبيب وانضمامهم فورا إلى العمل الميداني.
نعم، تقافزت الحلول والاقتراحات التي تجيب على سؤال: كيف سيتعلم الطالب؟ وأين سيتعلم؟ ومتى سيتعلم؟ في حين أن السؤال الأكثر إلحاحًا والمنتظرة إجابته هو: ماذا سيتعلم؟
هل سيستمر الطالب في حفظ أسماء العواصم والرؤساء والرموز والنسب والأرقام والتواريخ بذريعة إنقاذه من انقطاع التعليم؟
لا، لن تكفي مساعي الانتقال إلى التعليم الإلكتروني إن لم تتمم هذه الخطوة بالمحتوى الدراسي الكوروني، فالموضوعات التي استجدت والمعارف التي اكتشفت والإشكالات التي برزت خلال هذه الجائحة تتطلب تدخلًا مرنًا لإعادة ضبط المنهج الدراسي من جديد، وتعديله بما تتطلبه هذه الحقبة الكورونية من معلومات وسلوكيات ومهارات وحلول.
فحين تعتري البشرية كارثة ما، على المنهج أن يكون أكثر واقعية بخصوص ما يستلزم على الطالب تعلمه، وعلى المدرسة أن تكون أكثر إقناعًا وهي تأمره بترك شؤون نجاته، تفرغا لشؤون نجاحه.
إنها فرصة مواتية لتفعيل مبدأ التخلي عن المناهج الدراسية المنفصلة عن الواقع، بالانتقال إلى نماذج تعليمية تتقاطع مع احتياجات الطالب اليومية في بيته ومحيطه.
نماذج تعليمية بديلة
-
نموذج «التعليم المتمركز حول المتعلم»
هل على جميع الطلاب أن يتشكلوا على معيار واحد؟ أم أن المعايير هي التي تتشكل بحسب مواهب الطلاب المختلفة؟ هذا هو السؤال الذي ينطلق منه نموذج التعليم المتمركز حول المتعلم، وما يتصل بمفهوم تفريد التعليم، وهو نابع من استحالة قولبة جميع المتعلمين في معيار واحد لقياس مستويات العبقرية والموهبة والنجاح.
التركيز على الطالب يكمن في منحه مجالًا أرحب في اختيار المعايير التي يجري تقييمه من خلالها، سواء كانت حفظًا أم بحثًا أم تطبيقًا عمليًا، ذلك الذي سيشبع فضوله الذاتي نحو استدامة تعلمه المدرسي، وهو ما سينعكس لاحقًا على اكتشاف مساره الخاص في تأدية واجباته المجتمعية.
-
نموذج «التعلم القائم على المشاريع»
مهارات التعاون والسلوك الاجتماعي، ومهارات الإدارة والقيادة وتكامل الأدوار وتسكين التخصصات، ومن ثم مهارات التشغيل والمتابعة وتقييم المشروع، هذا بعض ما يثمر عنه نموذج التعلم القائم على المشاريع.
ولأن المهارات مقدمة على حفظ المعلومات، يساعد هذا النموذج في تأطير كم ونوع الحقائق والمعارف التي يحتاجها المتعلم، والأخذ منها بالقدر الذي يستلزمه لتنفيذ مشروع محدد صريح المعالم والمنافع، دون التشتت غرقًا في سيول من المعلومات غير ذات الصلة.
تعمل المشاريع الطلابية على توحيد جهود وطاقات الآلاف من منتسبي المؤسسات التعليمية في مشروعات عملية ضخمة ذات نفع واقعي ومباشر، إذ تجد طريقها سريعًا في خدمة الهيئات الحكومية والأهلية التي تعمل على مواجهة ظروفها.
-
نموذج «التعلم القائم على حل المشاكل»
إذا كان الهدف من التعليم هو تأسيس شخصية مستعدة نفسيًا لمواجهة المشكلات، وذهنيًا لابتكار الحلول، فإن نموذج التعلم القائم على حل المشاكل يعتبر خيارًا ملائمًا لتكريس جوانب التفكير النقدي والإبداعي والتحليل الدقيق.
فبدلًا من تلقين التلميذ حقائق وتنظيرات باردة يقحمها المعلم داخل رأسه، يخلص هذا النموذج إلى دراسة المشكلات اليومية والحياتية كمدخل أساسي في المنهج، ويناط بالطالب مسؤولية البحث عن جذورها وإبداع حلولها، مهما كانت المشكلة: صحية، اقتصادية، صناعية، مناخية، أمنية، وما صاحبها من تحديات أطلت برأسها على جميع دول العالم اليوم.
لم تتعدد نماذج التعلم وتجارب التدريس في أنحاء العالم وعبر التاريخ إلا لحقيقة ظاهرة معلومة، هي أن التعليم موضوع إنساني حيوي متجدد، قابل للتنوع باختلاف الشخص، والتغير بما يستجده الظرف. ولكن، ولسوء حظنا ونصيبنا من التخطيط، ما زلنا نتغاضى عن حتمية التغيير القادمة، دفاعًا وتشبثًا بنظام تقليدي جامد لم نجرؤ على تجاوزه منذ أكثر من 300 عام.
إما أن نتصدى لجائحة كورونا بهذه الحقيقة، أو نواصل استنزاف أنفسنا وأجيالنا في اجترار نموذج «تلقين فتحفيظ ثم اختبار» بمعلومات وحقائق لن يحتاجها أطفالنا اليوم، ولا في المستقبل.