ماذا بعد سقوط الأسد؟ هو السؤال الأبرز بعد نشوة التحرر من نظام لم يحسن التعامل مع شعبه ولم يقرأ سياق التغيرات من حوله، فلم يبادر باحتواء أطيافه وأهمل إصلاح أحواله فكان مصيره المحتوم سقوطًا مدويًا ومذلاً.
تم إنجاز المهمة الصعبة لكن لا يزال أمام الشعب السوري إنجاز الأهم، وهو التشافي من جراح التعذيب والتنكيل والتهجير وما ينجر عنها من رغبات جامحة في الانتقام من رموز النظام وأعوانه، للشروع في مسار إعادة بناء سوريا الجديدة بدءا بالمصالحة الوطنية، وإقرار العدالة الانتقالية وفق نموذج جنوب إفريقي لا يزال يشكل مرجعية موثوقة.
وبين المصالحة الشاملة والعدالة الكاملة تبدو المعادلة صعبة من حيث تحديد الأولويات، فهل يمكن تصور مصالحة سياسية بين أطياف المجتمع العرقية والمذهبية دون البدء بمحاكمات تقتص من المجرمين وتنصف الضحايا، وهل يمكن الشروع في المحاكمات بما يضمن مبادئ العدل دون أن تكون القلوب متصالحة مع الماضي الأليم!؟
طي الصفحة لا يعني النسيان، لكن الذاكرة لا يمكن أن تحيي الجراح دون أوجاع قد تعيد المشهد السوري إلى منطق الصراع الأزلي والأبدي بين الضحية والجلاّد، لذلك فإن التاريخ يعلمنا بأن أغلب تجارب العدالة الانتقالية في العالم أخذت شكل لجان الحقيقة والمصالحة، ونشأت تحت ضغط القوى الديمقراطية والمدنية ومنظمات حقوق الإنسان المحلية التي دعمت مطالبات ضحايا الانتهاكات وذويهم ممن تحولوا بدورهم إلى قوى ضغط في قلب المجتمع المحلي ثم الدولي.
سوريا الجديدة أمام رهانات ما بعد التحرر تواجه استحقاقات مصيرية محفوفة بألغام الماضي ومتطلبات الحاضر وتطلعات المستقبل، وكلنا أمل في أن تتمكن سوريا من إعادة بناء الدولة على ركائز صلبة تستمد من قيم ثورتها العظيمة وتضحيات الشهداء والمهجّرين في كل أصقاع العالم ترياقاً يخلصها من سموم ما بعد الحالة الثورية ونشوة الانتصار، لأن تجارب الثورات في كثير من النماذج التاريخية علمتنا أن نخشى على الثورة من الثوار أنفسهم، فكم من ثوار وحّدهم إسقاط النظام وبددتهم السلطة.