كنت طفلة في المرحلة المتوسطة (الإعدادية) حين كانت المعلمة تدخل إلى الفصل لتأخذنا لتدريبات الاختباء في الملجأ. لم يكن ذلك جديدًا علينا، إذ سبق تدريبنا على ذلك في المرحلة الابتدائية، كنا نتبادل مخاوفنا كأطفال، «صدام بيطق الكويت».
لم ننجُ، نحن الأطفال الذين كبروا ما بعد الغزو العراقي للكويت، من الهلع الذي أصاب من عايشوا تلك المحنة، فقد لاحقنا حين كنا نسمع صافرات الإنذار تدوي بين حين وآخر، ونجري مختبئين في سراديب بيوتنا أو ملاجئ مدارسنا.
تعلن القناة الرسمية للدولة عن صاروخ يسقط على سوق شرق، المجمع التجاري الأكثر شهرة وقربًا لمن في عمرنا وقتها، إذًا الخطر محدق، قريب، لم يكن مجرد ذكريات يرويها لنا أهالينا حول معاناتهم خلال الاحتلال، بل واقع نعيشه.
صدام حسين كان الشخص الوحيد الذي يُسمح لنا كأطفال أن نطلق عليه الشتائم دون أن نواجه بـ«عيب». كبرنا على كراهية هذا الرجل، كان الأمر شخصيًا جدًا، بعيدًا عن أي اعتبار سياسي، صدام كان يهدد حياتنا، وساحات مدرستنا، وصالة الألعاب، وصف الموسيقى، وأبلة سلوى المعلمة المصرية التي نحبها، كان يهدد كل ما نحب.
أُعدم صدام في 2006، كنت وقتها في المرحلة الثانوية، أكبر عمرًا، وأكثر كراهية. شاهدت خالتي تتقافز فرحًا لحظة الإعدام، وأمي تنظر إلى شاشة التلفزيون متشفيةً في الرجل الذي أسر زوجها وقتل فيها الاستقرار والأمان.
أُعدم صدام، وكانت لحظة تاريخية فارقة. زميلات فرحات، وصديقات يتحدثن عن إحساس بعالم أفضل. نتبادل قصاصات الصحف التي ملأتها صور المحتفلون بموته، وأخبار الحزانى «المغفلين».
كبرت، وصارت هذه المشاعر أكثر نضجًا. صرت أحاول معرفة لماذا نكرهه، ولماذا يحبونه؟
«سقى الله أيامك يا بو عداي»
لم نحصل نحن أبناء تلك المرحلة على فرصة التعرف إلى الآخر، العراقي الذي عاش تحت كنف الطاغية وعاش بعده تحت الغزو الأمريكي، لكن مع انفتاح العراق على العالم بعد عهد صدام، الذي جعل من العراق بلدًا مغلقًا على نفسه خصوصًا في سنواته الأخيرة، سنحت لنا فرصة معرفة هذا الآخر، بشكل حذر ومليء بالريبة، بين فضول المعرفة ومحاولة الفهم.
يكتب أحد العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي: «سقى الله أيامك يا بو عداي»، فيعج «منشنه» بالتعليقات الغاضبة من عراقيين وغيرهم: كيف يتجرأ على تمني العودة لأيام أبو عدي القاتل؟ لكن الرجل كان مصرًا على موقفه، عاش تحت كنف صدام والغزو الأمريكي وبعدهما داعش والحرب الطائفية والحكومات الفاسدة المتعاقبة على بلد مهشم، سقى الله تلك الأيام رغبةً في العودة إلى أقل الشرور، دكتاتورية مستقرة بدلًا من فوضى قاتلة.
قضى الكاتب العراقي علي الصراف حياته في معارضة نظام صدام حسين. وفي مقاله الذي كتبه عام 2006 بعنوان «رسالة اعتذار إلى دكتاتور أكثر من رائع»، يقول: «عندما كانت قواتك تضطهد الأكراد، حملتُ السلاح لأقف إلى جانبهم. لحسن الحظ، كان سلاحى الرئيسي هو قلمي. أما سلاحى الآخر مسدس ذو سبع طلقات، فقد كان أبعد ما يكون عن أن يشكل خطرًا على أي أحد، أكثر من خطره على نفسي. كنت أريد ان استخدمه للانتحار، لكي أتحاشى الوقوع بين أيدي أجهزة مخابراتك».
الصراف، الذي كان يفضل الانتحار على الوقوع تحت التعذيب، يضيف في نفس المقال: «لقد غادرتُ العراق منذ أن اصبحتَ رئيسًا. كنت أقول، ممازحًا، إن هذا البلد لا يمكنه أن يتحملنا معًا. فإما أنا وإما أنت. وكنت لا أزال شابًا، فيه من الحماقة أكثر مما فيه من النضج، وفيه من الجهل أكثر مما فيه من المعرفة. وبطبيعة الحال، فقد كنت أقول «ومن أنت؟». الآن فقط، أشعر كم أن كلامًا مثل هذا، قاسٍ ومروع. وصرت أقول بخجل «ومن أنا؟».
يتحدث الرجل عن فترة ما بعد صدام، وكيف صار يعرف ما كان يريد الديكتاتور صنعه لعراق قوي شوكة في حلق الصهيونية والغرب بحسبه: «الآن، نستطيع أن ندرك، أنت وأنا، لماذا جلبوا لصوصًا وإمَّعات ليحكموا العراق بعدك، ولماذا أشاعوا الخراب فى كل جزء من أجزائه، ولماذا يغتالون علماءه وأساتذته وخبراءه، ولماذا أحرقوا المكتبة الوطنية ونهبوا المتحف الوطني، ولماذا دمروا بنية البلد التحتية ولم يعيدوا إعمارها، ولماذا مزقوا بين العراقيين على أسس طائفية وعرقية، ولماذا نهبوا أمواله وثرواته، ولماذا يزعمون دفعه الى هاوية حرب أهلية، ولماذا يرفضون الانسحاب قبل يكملوا المهمة؟».
كان مقالًا عاطفيًا يمتلئ بالغضب والانكسار لوطن مفتت، أكثر منه تنظيرًا لواقع سياسي، وهو ما قد يجول في خاطر كثير من العراقيين في حنينهم لزمن الطاغية، وإعادة ذكره بالخير والمحبة، بالإضافة إلى العاطفة القومية التي تدفع بعضهم لاعتبار سقوط صدام نهاية لحقبة القومية العربية كاملة، بما يمثلها من احتلال أمريكي بمباركة عربية.
إن كان للعراقي الذي يحن لزمن صدام مبرراته، فما الذي يجعل غير العراقيين يمجدونه؟
«الله يرحم صدام»
ككويتيين موجودين على السوشيال ميديا، لا نكاد ننشر منشورًا إلا ونجد في التعليقات عليه من يقول نكاية: «الله يرحم صدام»، ويرفقها أحيانًا بـ«كان عارف لكم» إذا ما اشتد النقاش وتبادلت الأطراف قذف النعال الإلكترونية، حتى صار الكويتيون يستخدمون العبارة من باب النكتة.
لا يزال صدام حاضرًا في النكاية بالآخر، الآخر الذي داس عليه «بسطار» الرئيس، كويتيًا أم عراقيًا، إذ حصل وأن استخدم جمهور فريق اتحاد العاصمة الجزائري لكرة القدم، خلال مباراته مع نادي القوة الجوية العراقي، هتافات لتمجد صدام نكاية في الفريق العراقي. توقف اللعب وقتها غضبًا من الهتافات، التي تحمل أبعادًا نفسية سيئة على لاعبي العراق.
يضع بعض السعوديين صدام كصور شخصية لحساباتهم على مواقع التواصل، رغم تهديده للسعودية وإساءته للملك فهد.
كتبت الوزيرة البحرينية سميرة رجب تمجد صدام وتسميه سيد شهداء العصر وصلاح الدين، رغم الهم الخليجي الواحد وموقف بلادها من الغزو، ويؤبن بعض الأردنيين الطاغية في مجالس وفعاليات شعبية، بينما لم يتوانى بعض الفلسطينيين في الضفة الغربية عن تشييد نصب تذكاري للدكتاتور، بالإضافة طبعًا إلى قصيدة حمدان بن محمد بن راشد ولي عهد دبي الملقب بفزاع، والتي امتدح فيها صدام، بينما يضع بعض السعوديين صدام كصور شخصية لحساباتهم على مواقع التواصل، رغم تهديده للسعودية وإساءته للملك فهد.
لماذا يحدث هذا كله؟ ليس حبًا في الدكتاتور فحسب، إنما حبًا في صدام حسين نفسه.
تقول لي صديقة تونسية: «كنا نحب صدام، التلفزيون التونسي قبل الإنترنت كان يرينا جانبًا عظيمًا من رجل يقف بشجاعة في وجه إسرائيل ويرسل إليها صواريخه. حتى غزو الكويت، كنا قد آمنا بأنه في سبيل القضية الفلسطينية، إلى أن سافرت أختي إلى فرنسا وعرفت الإنترنت ومخابئه، واتصلت باكية تقول: صدام طلع مجرم. لقد شاهدت جرائم بحق العراقيين، وقتل الأكراد، ومذابح اقترفها النظام. كانت صدمة لنا جميعًا».
ربما يلخص كلام صديقتي ما آمن به كثيرون، اعتقدوا بصدق صدام وقوميته ووقوفه في وجه الصهيونية والاستعمار، لكن كيف يستمر ذلك بعد عالم الانفتاح التكنولوجي الذي يسمح للجميع بالاطلاع على ما اقترفته يداه وزمرته؟
لماذا صدام؟
المسألة لا تتعلق بجرائم صدام بالنسبة لكثيرين، إذ يتغاضون عنها لأسباب قد تتعلق بحتمية المرحلة، أو الضرورة، أو استحقاق الضحايا ما حصل لهم.
المسألة في استحضاره في السياق الطائفي والقومي، إذ يُنظر إليه كحامي البوابة الشرقية، حتى من الأجيال التي لم تعش الحرب العراقية الإيرانية. لكن الاختناق الطائفي في السنوات الأخيرة في المنطقة دعى إلى استحضار صدام وقتله لكثير من الشيعة وحربه مع إيران، وصار يُستخدم للنكاية الطائفية، جهلًا أو تغاضيًا عن أن جبروته لاحق كل الطوائف والأديان والمذاهب والأعراق، كل من واجهه كان يلقى نفس المصير.
بينما لازال آخرون مؤمنين بوقوفه الذي يصفونه بالشجاع في وجه الصهيونية، وأن المنطقة لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم لو كان موجودًا، رغم كل الأحداث الجلل التي كانت تحدث خلال حكمه.
دفعت طريقة إعدامه بعض الناس إلى التعاطف مع الطاغية، وجبَّت هذه اللحظة كل ما قبلها.
لا ننسى هنا أن حب الدكتاتوريات بشكل عام شيء متجذر في ثقافتنا العربية، الرجل الواحد الذي يأخذ قرارًا صارمًا بديلًا عن فوضى الديمقراطية، الأب الذي يقود البلاد ويعرف مصلحتنا أكثر منا، الرجل ذو الخطب الرنانة، والشخصية المهيبة ذات الكاريزما الطاغية كما في شخص صدام.
كانت أيضًا طريقة إعدامه قد دفعت بعض الناس إلى التعاطف مع الطاغية، وجبَّت هذه اللحظة كل ما قبلها. تقول الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي في كتابها «قلوبهم معنا وقنابلهم علينا»: «اليوم، وقد أعدموا صدام، وشنقوا معه وطنًا بأكمله، كان قويًا وموحدًا به، اليوم وقد شنقوه وأهانوه لينالوا من عروبتنا وما بقي من عزتنا، أشعر أن لي قرابة بهذا الرجل، وأنه لو قُدر لي أن أزور العراق عندما يتحرر من محتليه، سأزور قبره، وأعتذر له عن زمن تفشى فيه داء نقصان مناعة الحياء لدى بعض حكامنا، وانخفض منسوب الكرامة، حتى غدا مجرد الترحم على رئيس عربي أمرًا يخيفهم، ما دامت أمريكا هي التي سلمته لسيافهم».
في الحقيقة لا زلت لا أفهم لماذا يحبون صدام حسين، لا زلت لا أفهم وصوت صفارات الإنذار يخترق أذني، وحديث والدي عن وجع الأسر، وألم الفقد في أعين أهالي الشهداء، وصور الجثث الملقاة على قارعة الطريق، والانكسار في صوت الأصدقاء العراقيين الذين يحكون أيامًا مرة عاشوها في الرعب البعثي. لا يمكن فهم حبه بعد أن تسمع القهر وتشم رائحة الضعف الخجول، لا تفهم هذا الحب الملطخ بالدماء والوحشية.