في أحد برامج الظهيرة الإذاعية على راديو «صوت إيران»، سأل المذيع المتصل: مَن ستنتخب؟ فرد المتصل ساخرًا: سأنتخب خامنئي، قاصدًا المرشد الأعلى في إيران. افترض المذيع أن المتصل غير واعٍ أنها انتخابات الرئاسة فكرر سؤاله بشكل آخر: «لا يا سيدي، أنا أسألك عن الانتخابات الرئاسية، مَن ستنتخب؟»، فأجاب المتصل مرةً أخرى بطريقة أكثر سخريةً من الأولى: «أعلم أنها الانتخابات الرئاسية، لكن ما جدوى وجود رئيس والأمر كله في النهاية بيد المرشد؟».
ارتبك المذيع وحاول أن يلطف الأجواء معلقًا: «انظروا إلى أي حدٍّ يحب الإيرانيون مرشدهم لدرجة أنهم يريدونه رئيسًا أيضًا»، ثم قطع الاتصال.
دائمًا ما كانت العلاقة متوترة إلى حدٍّ ما بين المرشد الأعلى للثورة الإسلامية ورؤساء إيران المتعاقبين، في ظل سلطة المرشد المطلقة والتوجهات الإصلاحية، أو المخالفة، للرئاسة. وبين هذا الشد والجذب يعيش ملايين الإيرانيين في ظل مستقبل غامض، وسط طموحات المرشد الإقليمية وتطلعات الشعب إلى مزيد من الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وإذ أعادت إيران انتخاب رئيسها حسن روحاني، ما أهمية منصب الرئيس في ظل وجود المرشد الأعلى؟ وكيف يبدو مستقبل هذه العلاقة؟ وماذا يريد الإيرانيون من رئيسهم؟
دولة المرشد أم دولة الرئيس؟
يقول أستاذ العلوم السياسية الإيراني إرم شفيعي لـ«منشور» إن الدستور في بلاده ينُص على أن جميع السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، كلها بيد المرشد الأعلى للبلاد، بما في ذلك عزل رئيس الجمهورية، لكن من حق الرئيس أن يمارس بعض السلطات التنفيذية بطبيعة الحال بعد الرجوع إلى المرشد.
الشيء الذي للرئيس فيه بعض الحرية، بحسب شفيعي، هو اختيار أعضاء الحكومة، إلا أن ذلك لا يكون إلا بموافقة البرلمان، وفي النهاية «مفاصل البلد جميعها في يد خامنئي».
عُرس ديمقراطي أم حرب انتخابية؟
شهدت إيران أهم عملية انتخابية في الآونة الأخيرة، إذ اصطف المواطنون من الصباح الباكر في طوابير أمام لجان الانتخاب، ووصلت نسبة المشاركة إلى 70%، ومُدِّدت فترة الاقتراع ثلاث مرات لكثرة الناخبيين، قبل أن ينتهي يوم الانتخاب بإعلان روحاني رئيسًا لولاية ثانية بنسبة 57% من الأصوات، مقابل منافسه إبراهيم رئيسي الذي حصل على نسبة 38.5%.
واجه رئيسي اتهامات بالعمل مع «لجنة الموت»، التي تورطت في قتل المعارضين للخميني.
من بين أربعة مرشحين، أعاد الإيرانيون انتخاب رئيسهم روحاني مرشح التيار الإصلاحي، الذي جاء إلى الرئاسة في عام 2013 بوعود كثيرة لم يتحقق منها إلا القليل، منها الاتفاق النووي بين إيران والمجتمع الدولي الذي لم يكتمل حتى الآن.
نافس روحاني في تلك الانتخابات مرشح التيار الأصولي (المحافظ) إبراهيم رئيسي، البالغ من العمر 56 عامًا، والذي يشغل حاليًا منصبًا رفيعًا فى الدولة يُطلق عليه «سادن العتبة الرضوية»، بمعنى أنه رئيس أكبر مؤسسة خيرية في البلد، تنظم كذلك نشاطًا تجاريًّا كبيرًا بالشراكة مع الحرس الثوري، إلى جانب نشاطها الخيري الذي يقوم على جمع التبرعات وإعطائها إلى «الفقراء والمستضعفين»، وهو التعبير الدارج في إيران.
وتُوجه لرئيسي اتهامات أنه كان على علاقة بما يُعرف بـ«لجنة الموت»، التي تورط القائمون عليها في قتل عديد من المعارضين للخميني في بدايات الثورة الإسلامية، حين قضى الخميني على حلفائه في الثورة من أحزاب وجماعات ليبسط الصبغة الإسلامية على الجمهورية الوليدة آنذاك.
إلى جانب روحاني ورئيسي، كان هناك مصطفى هاشمي طبا، وزير الصناعة الأسبق في حكومة هاشمي رفسنجاني، وهو رجل لا يحظى بأي شهرة في الأوساط الإيرانية، ومصطفى ميرسليم المنتمي إلى التيار المحافظ، والذي شغل منصب وزير الثقافة في حكومة رفسنجاني.
لكن ماذا يريد الإيرانيون من رئيسهم؟
تواصل «منشور» مع عدد من الإيرانيين لمعرفة مطالبهم وأحلامهم التي يتطلعون إلى تحقيقها على يد رئيسهم في فترته الثانية في الحكم.
يعمل سهراب، البالغ من العمر 33 عامًا، في خدمة العملاء مع شركة اتصالات إيرانية، ويقول:
«انتخبت روحاني. كنت قد انتخبته عام 2013 عن وعي وإيمان كامل بأنه المخلِّص لنا من تحكمات المتشددين، لكن هذه المرة انتخبته دون أمل في أي شيء، فقط لضمان عدم فوز رئيسي، فروحاني لم يحقق شيئًا. كنت أحلم بوظيفة أفضل ووضع اقتصادي جيد إلى حدٍّ ما، لكن لا شيء تحقق. لا أستطيع أن أقول إنني غير سعيد بفوزه مرة أخرى، لكني ما زلت أشك في قدرته على تغيير أي شيء في إيران كما يتمنى الإيرانيون».
على عكس سهراب توضح ثريا، البالغة 40 عامًا، والتي تعمل بائعة في محل تجاري، أنها انتخبت رئيسي لأنه مقرب إلى المرشد وهذا سيسهل عمله، بدلًا من الصدام الذي لا ينتج عنه شيء سوى زيادة معاناة الشعب، ولأنها تصدق وعوده عن أنه سيساعد المحتاجين ويوفر رواتب جيدة للعاملين.
ترددت ثريا قليلًا قبل أن تستطرد ضاحكةً: «لكن رئيسي لن يسمح لي بالسير دون حجاب في الشارع، وأنا أتمنى ذلك. لا أدري إن كنت قد فعلت الصواب بانتخابي رئيسي، لكني كذلك لا أخفي فرحتي بفوز روحاني، وأتمنى أن يحل المشاكل الاقتصادية».
قد يهمك أيضًا: التمرد على التقاليد في إيران: رجال محجبون ونساء سافرات
كان لمريم رأي أكثر حدةً وتشاؤمًا. تدرس الفتاة في السنة الأخيرة بكلية الطب، وترى أن روحاني ورئيسي منافقان.
انتخبت مريم روحاني في المرة الأولى لأنه وعد الإيرانيين بمزيد من الحريات، لكنه «كاذب، وعد بشيء يعلم أنه لن يستطيع تحقيقه، جعلنا نصدق وعوده». أما رئيسي فكان ليصبح «نسخة مكررة من محمود أحمدي نجاد، ذلك المختل».
تحكي مريم: «ذهبت لانتخاب روحاني، وعندما أُعلن فوزه مرةً ثانيةً فرحت، ليس من أجله، بل أسعدتني مشاركة الشعب الكبيرة في الانتخابات وإصرارهم على إرسال رسالة إلى التيار المحافظ بأن الإيرانيين ضاقوا منهم، وأن قوة الشعب كانت أكبر من رئيسي».
الوضع أفضل الآن بكثير من وجود شخص متطرف وقاتل مثل رئيسي.
يصف أراش صادق، الذي يعمل معلمًا في مدرسة ثانوية، الإقبال الكبير على الانتخاب بأنه كان مثل «طوابير الأمل»، ليس الأمل فى روحاني فقط، لكن في أنه يومًا ما ستتمكن تلك الطوابير من إحداث تغيير أكبر وأهم.
يصف صادق روحاني بأنه رجل محظوظ، إذ حظي بدعم من الإصلاحي محمد خاتمي، وأغلب من انتخبوا روحاني فعلوا ذلك ثقةً في دعم خاتمي، بحسب قوله.
يضيف الرجل أنه ما زال يأمل في أن يحقق روحاني وعوده للإيرانيين، ففي السنوات الأربعة الماضية «كانت الأوضاع صعبة وانشغل روحاني بالاتفاق النووي الذي بدأ يؤتي ثماره، لكني أريد أن أجد عملًا لأخي، وأن يحِدَّ روحاني من بطش شرطة الأخلاق، لكن الوضع على كل حال أفضل الآن بكثير من وجود شخص متطرف وقاتل مثل رئيسي».
أين أحلام الحركة الخضراء الآن؟
في عام 2009، قامت مظاهرات ضخمة في إيران إثر فوز نجاد بفترة ولاية ثانية. تلك الاحتجاجات التي عمَّت طهران، والتي يشبِّهها بعض المحللين بما يُطلق عليه ثورات «الربيع العربي»، كان أبطالها من الشباب الإيرانيين الذين حلموا بالتغيير وبمزيد من الحريات، لكنها انتهت بطريقة دموية، إذ قُتِل العشرات واعتُقل الآلاف من الشباب، وعانى مَن بقي خارج السجون من التضييق والمراقبة الأمنية.
اعتقد شباب الحركة الخضراء أن الأمور تحسنت قليلًا عندما رشح حسن روحاني نفسه في انتخابات 2013، فهو رجل معتدل يحظى بثقة التيار الإصلاحي الذي سُجن أشهر رموزه، والقابعين الآن تحت الإقامة الجبرية: مير حسين موسوي ومهدي كروبي.
ساند شباب الحركة روحاني في انتخابات 2013 حتى استطاع الفوز بمنصب الرئيس، لكن أين هم الآن بعد أربعة أعوام من حكمه؟ هل ما يزالون يساندون روحاني؟ وهل ما يزالون يحلمون بالتغيير أم أن كل أحلامهم تبددت؟
اشترك مصطفى (اسم مستعار) في مظاهرات الحركة الخضراء، ويقيم الآن في تركيا بشكل غير شرعي، بعد أن تمكن من الهرب من إيران عقب الإفراج عنه، إذ اعتُقل خلال المظاهرات وحُبس لمدة عام.
يقول مصطفى لـ«منشور» إنه عند إعلان فوز نجاد بولاية ثانية «غضبت بشدة، والتقيت بأصدقاء لي وعرفت أن هناك مجموعة من الشباب تجمع نفسها عن طريق فيسبوك وتويتر للخروج في مظاهرات احتجاجًا، فتحمست في بداية الأمر لكن توقعت أن الأعداد ستكون قليلة وستتمكن قوات الأمن وشرطة الأخلاق من تفريقها في أقل من دقيقة، لكن بدا الأمر عكس ذلك».
كانت أعداد المتظاهرين كبيرة على عكس توقعات مصطفى، وهو ما أشعره ببعض الأمل والقدرة على التغيير، لكن الأمر «انتهى بوحشية، وقُتل صديقي واعتُقلت وعُذبت، إلا أن الأسوأ أنه بعد الإفراج عني شعرت أنه لا أمل في البلد، فقررت الابتعاد عن السياسة والبحث عن عمل والعيش في سلام، لكن الأمن لم يتركني في حالي، ومن حين لآخر أجد مراقبة وتضييقًا، وحين أتقدم لوظيفة أجد اسمي هناك، ويُرفض تعييني لأني من مثيري الفتنة كما يقول الأمن».
يشرح الشاب أنه قرر الهرب بواسطة عصابات التهريب على الحدود: «ذهبت إلى تركيا، وأسعى الآن إلى استخراج أوراق رسمية لجعل إقامتي شرعية. انتخبت روحاني في 2013 لكني نادم على ذلك، فلا جدوى من أي شيء: لا انتخابات ولا برلمان، ولا سبيل سوى العودة للاحتجاج في الشوارع وعزل المرشد، وهذا أشبه بالمستحيل».
اقرأ أيضًا: الخوف في خدمة النظام: كيف تستفيد الأنظمة من رهبة الشعوب؟
من الجانب الآخر تحدث إلينا نوري علي، الذي شارك في احتجاجات الحركة الخضراء وكان عضوًا في الحملة الانتخابية لحسن روحاني خلال الانتخابات الأخيرة.
لدى نوري بعض الأمل، ويرى أنه من الخطأ إعادة ما حدث في عام 2009، إذ «لن نجني من ذلك سوى مزيد من الدماء والمعتقلين والهاربين، والحل في الصبر ومحاولة التغيير عن طريق العمل السياسي، وتوعية الإيرانيين بأهمية انتخاب مرشح إصلاحي والوقوف خلفه، كي يشعر النظام والمحافظون بأن زمانهم انتهى، ويستسلموا للتغيير القادم لا محالة».
أما فرح، التي شاركت في المظاهرات وعمرها حينها 20 عامًا، فترى أن «الآمال كانت وقتها كبيرة، وتذكرت تلك الأيام عندما رأيت آلاف الإيرانيين في طوابير الانتخابات».
قبل يوم الانتخاب، كانت فرح قد قررت أن تُبطل صوتها، لأن «روحاني يبدو لي شخصًا ضعيفًا ولن يتمكن من مواجهة رجال الدين والمرشد، لكن في آخر لحظة قررت انتخابه وإعطائه فرصة ثانية، وعلى الأقل هو يستحقها، فالرجل يحاول السير على خُطَى خاتمي، ويريد أن يجعل إيران منفتحة على العالم أكثر، وكسر جزءًا بسيطًا من عزلتنا بالاتفاق النووي، أما في حالة فوز رئيسي فالأمور كانت لتصير أسوء».
السؤال الآن: هل يستطيع الشعب الإيراني تحقيق أحلامه؟ وكيف؟ هل بالأمل والصبر كما يقول نوري؟ وهل يدرك النظام الإيراني، المتمثل في المرشد ورجال الدين والحرس الثوري، أحلام الشعب ويضعها في حسبانه؟ أم أنه يعتقد أنه يمسك كل الأمور في يده، وكما أخمد أحلام الشباب من قبل يستطيع أن يخمدها مجددًا بحجة أنهم حفنة من «مثيري الفتن»؟