شاهدنا جميعًا ما نُشر على صفحات الجرائد وحسابات التواصل الاجتماعي خلال اليومين الماضيين، مما يمكن أن يحدث إذا استمر الاحتقان السياسي بين أعضاء مجلس الأمة والحكومة حيال جلسة مناقشة الميزانيات القادمة وإقرارها. وفي حين أعلن النواب المعارضون تعطيلهم للجلسات الخاصة بالميزانية كما فعلوا في السابق، فما الذي يترتب على ذلك من إقرار الميزانية؟
مع بداية كل عام جديد يطل وزير المالية على وسائل الإعلام ليقدم مشروع الميزانية العامة للدولة بأرقام ذات معاني مختلفة، فإما دلالة عجز أو فائض، أو تغيير نسبي في أحدهما. لا تعتبر بيانات الإدارة المالية للدولة شأنًا حسابيًا صرفًا، إنما في طيات جداول الميزانية انعكاسات مباشرة على الوضع المعيشي للأفراد، ورصد لحجم الاقتصاد الحكومي وإسهام القطاع الخاص في الاقتصاد الكلي، وكذلك تسحب معها تداعيات سياسية مستقبلية.
تخضع عملية إعداد الحسابات الحكومية لاعتبارات زمنية ومهنية وتنظيمية متشابكة، فهي محددة بقالب زمني معين وتُبنى بتقديرات «اقتصادية» وتسير بإطار «قانوني» و«محاسبي»، وتتناوب على اعتمادها السلطتان التنفيذية والتشريعية. عوضًا عن ذلك، دائمًا ما يثار اللبس بين الحين والآخر في البيانات المالية المنشورة للدولة، فهناك أرقام «دفترية» و«فعلية»، فما هي ميزانية وحسابات الدولة؟ وكيف يجري إعدادها واعتمادها؟
كيف تُعد الميزانية؟
الميزانية العامة أشبه بالشريان الذي يغذي المتطلبات المالية للوزارات والجهات الحكومية المختلفة، وبمثابة البرنامج المالي للدولة الذي يعبر عن أهدافها الاقتصادية والاجتماعية. يجسد قانون إعداد الميزانيات العامة لسنة 1978 الإطار النظري والعملي لترتيب الميزانية وحسابها الختامي وكيفية تنفيذها والرقابة عليها، ويعطي صلاحيات واسعة لوزير المالية في هذا الشأن ليكون المتصرف المالي لأجهزة الدولة.
تحتوي الميزانية على تقديرات الإيراد السنوي لخزينة الدولة والصرف المتوقع للإنفاق الحكومي. فمن هنا تعد الميزانية العامة مشروعًا ماليًا تقديريًا لما سيجري تحصيله وصرفه، ولا تعكس واقع ما ستؤول إليه مجريات السنة المالية للدولة، التي تبدأ في أول شهر أبريل وتنتهي في آخر مارس من كل عام.
تُبنى التوقعات الخاصة بحجم الإيرادات المالية السنوية وفقًا لتنبؤات اقتصادية عامة، وبالأخص عن أسعار النفط العالمية وبحسب السعة الإنتاجية من النفط، والذي يعتبر المصدر الرئيسي لإيرادات الكويت. وتتفرع التقديرات لسعر برميل النفط الواحد إلى قسمين: السعر المقدَّر، وهو الذي تقاس عليه توقعات الإيرادات وحجم العجز المحتمل، والآخر هو سعر التعادل، والذي ببلوغ قيمة برميل النفط له تتساوى الإيرادات مع المصروفات وتدخل الميزانية بذلك مرحلة الفائض المالي.
أما عن الحجم التقديري للإنفاق الحكومي، فإنه وفقًا للقانون سالف الذكر يجري تحديد القيمة المقدرة للمصروفات لما تقدمه الوزارات والإدارات الحكومية والجهات الملحقة والمستقلة من بيانات عن طبيعة عملها واحتياجاتها المالية للسنة المالية الجديدة. وعندئذ يحدد وزير المالية ميزانية كل جهة بعد تقييم وزارته وفق المقتضيات الاقتصادية، ويدرجها بمشروع الميزانية العامة للإدارة المالية للدولة.
بالنظر إلى تقرير موازنة الدولة لميزانية 2022/2021، نلاحظ ارتفاع المصروفات بنسبة 7%، أي ما يعادل المليار دينار تقريبًا مقارنة بالسنة المالية السابقة، وأغلب الزيادة كانت في بند المصروفات الرأسمالية، والتي تندرج تحتها في الأغلب أمور الصيانة والمشاريع التنموية. أما من ناحية العجز السنوي فكان هناك انخفاض في العجز بنسبة 14% تقريبًا، ليصبح بمعدل 12.1 مليار دينار. ويعود سبب انخفاض العجز إلى ارتفاع إيرادات الدولة بفضل زيادة إيرادات بيع النفط بمعدل 62% عن السنة الماضية، التي كانت تعاني من انخفاض الإيرادات النفطية بسبب جائحة كورونا، إلا أن الكويت لا تزال من أكثر الميزانيات اختلالًا في الخليج.
ما هي بنود وأحكام الميزانية؟
تنقسم الميزانية إلى تصنيفات وبنود خاصة لكل من قسمي الإيرادات والمصروفات. وتنقسم تبويبات الميزانية إلى عدة موضوعات، مثل بند الإيرادات، وتندرج تحته الإيرادات النفطية المحصلة من إنتاج وتسويق النفط والغاز الطبيعي، وتمثل قرابة 90% من إجمالي إيرادات الدولة. أما التبويبات الأخرى فهي الإيرادات غير النفطية الآتية من تحصيل الضرائب والرسوم، وإيرادات الخدمات العامة التي تقدمها الدولة.
أما بنود مصروفات الميزانية فهي ذات تصنيفات متشعبة حسب النمط الاقتصادي لنوع الإنفاق، وبحسب التبويب الإداري الذي ينقسم إلى: الوزارات والإدارات الحكومية، والجهات الملحقة، والجهات المستقلة.
بشكل عام، تنقسم المصروفات إلى سبع تبويبات رئيسية:
- تعويضات العاملين: أجور ورواتب – إسهامات اجتماعية – تعويضات نهاية الخدمة
- السلع والخدمات: دعومات السلع – خدمات النظافة والأمن وصيانة المعدات
- الإعانات: الإعانات المقدمة إلى الشركات العامة
- المنح: منح مالية للحكومات الأجنبية – المنظمات الدولية – أجور ورواتب وتعويضات الهيئات الملحقة
- المنافع الاجتماعية: الضمان والرعاية الصحية – منح الزواج
- مصروفات وتحويلات أخرى: بعثات دراسية ومهمات رسمية للموظفين – تعويضات وجوائز ودعم المؤسسات الأهلية – خسائر فروق العملة
- شراء الأصول غير المتداولة: شراء أصول غير مالية مثل العقارات والمعدات – مشاريع إنشائية وصيانة جذرية
وفقًا للتبويب الاقتصادي، فإن بنود مصروفات الميزانية من 1 إلى 6 تمثل الإنفاق الجاري للحكومة لسداد التزاماتها أمام الغير من الأفراد والكيانات، أما البند 7 فيمثل الإنفاق الرأسمالي، والذي يعتبر دعامة النمو الاقتصادي والتنمية.
كذلك فإن لميزانية الجهات الحكومية قواعد خاصة من ناحيتي الفوائض المالية، ففي حالة وجود عجز بأحد أبواب ميزانية إحدى الجهات، جاز لها مناقلة الوفورات المالية من باب إلى آخر بعد موافقة وزير المالية. أما في حال تجاوز الجهات الحكومية للاعتماد المسموح لها لأبواب المصروفات، فيسمح لها بفتح اعتماد إضافي بقانون من مجلس الأمة، ويموَّل هذا الاعتماد الإضافي من الاحتياطي العام للدولة، كالذي حصل مؤخرًا لمكافأة الصفوف الأمامية.
الحساب الفعلي
في حين أن الميزانية تهتم بتقديرات وتكهنات ما سيجري إيراده وإنفاقه، يأتي الحساب الختامي ليبين المركز المالي الحقيقي للدولة، وملاءمته الحقيقية لما تحقق فعليًا من الإيرادات والمصروفات لكل الجهات الحكومية طوال السنة المالية.
يُعتمد الحساب الختامي للدولة للسنة الماضية عند إعداد ميزانية السنة القادمة، وغالبًا ما تختلف أرقام الحساب الختامي عن الميزانيات من ناحية مقدار الفائض أو العجز الختامي. ويُعزى ذلك لحدوث مستجدات تخص حالة الاقتصاد العالمي وأسواق النفط، وكذلك متغيرات إدارية داخل الجهات الحكومية مثل تنفيذ بعض العقود أو المشاريع.
تُحتسب الحالة المالية الفعلية للدولة بعد استقطاع 10% من الإيرادات إلى صندوق احتياطي الأجيال القادمة، كما جرت العادة منذ عام 1976 إلى 2019. وبعد هذا الاستقطاع، يَرصد الحساب الختامي للدولة القيمة الفعلية النهائية للعجز أو الفائض. إلا أن إجراء الاستقطاع السنوي تغير في عام 2020 بإقرار مجلس الأمة مشروع حكومي بربط الاستقطاع بعد تحقيق فوائض فعلية فقط اما في حالة العجز فلا يتم الاستقطاع.
يلعب صندوق الاحتياطي العام للدولة دورًا محوريًا في ما تؤول إليه الحسابات الختامية للدولة، فالعجز يُحمَّل به الاحتياطي العام، والفائض يُرحَّل إليه ليُستخدم مستقبلًا عند الطوارئ.
كيف تتم الرقابة السابقة واللاحقة للميزانيات؟
ينحدر السياق الرقابي على المسار المالي للحكومة إلى قسمين: رقابة سابقة ذاتية من الحكومة نفسها ورقابة لاحقة المتمثلة في ديوان المحاسبة.
تمر دورة اعتماد الميزانية والحساب الختامي للإدارة المالية للدولة بسلسلة من الإجراءات الفنية والقانونية والدستورية. وعلى مدار هذه السلسلة الإجرائية، تقع الميزانيات والحسابات الحكومية تحت مجهر الجهات الرقابية المختلفة.
يبدأ مشوار إعداد مشروع الميزانية العامة للدولة لحظة تسلُّم وزارة المالية للبيانات المالية من وزارات الحكومة وهيئاتها، والتي تتضمن الاحتياجات التقديرية للإنفاق وتوقعات الإيرادات. وبعدها يعمل وزير المالية على إعداد مشروع الميزانية ويطرحه على طاولة مجلس الوزراء لاعتماده، تمهيدًا لتمريره إلى مجلس الأمة لإقراره بقانون قبل انتهاء السنة المالية بشهرين. حينها يأتي دور مجلس الأمة عبر لجنة الميزانيات والحساب الختامي، والتي تشكلت في دور الانعقاد الثالث من الفصل التشريعي التاسع (2001) كلجنة دائمة، بعدما كانت لجنة الشؤون المالية والاقتصادية هي المعنية بالميزانيات والحسابات الحكومية.
ينحدر السياق الرقابي على المسار المالي للحكومة إلى قسمين: رقابة سابقة، ورقابة لاحقة. فالرقابة السابقة تكون ذاتية من الحكومة نفسها، ويختص بها المراقبون الماليون التابعون لوزارة المالية، للنظر في تنفيذ الأجهزة الحكومية للميزانية وتقديم تقارير شهرية عن حجم الإيرادات والمصروفات.
أما الرقابة اللاحقة فيُعنى بها الذراع الرقابية لمجلس الأمة، والمتمثلة في ديوان المحاسبة، الذي يعمل على التدقيق في الحسابات الختامية وفحص مدى مواءمتها للوائح والقوانين، والكشف عن التجاوزات المالية والإدارية فيها. كذلك فإن لديوان المحاسبة نطاق من صلاحية الرقابة السابقة، والتي تكون على المناقصات التي تتجاوز قيمتها أكثر من 75 ألف دينار. وتعتد لجنة الميزانيات بمجلس الأمة بالملاحظات التي أوردها ديوان المحاسبة عند مناقشة واعتماد الحساب الختامي للدولة، والتي عادة ما تكون مادة للتجاذبات السياسية والاستجوابات البرلمانية.
اعتماد الميزانيات كوسيلة رقابية
إقرار الميزانية العامة ومناقشتها هي أحد أهم الأدوات الرقابية لدى مجلس الأمة، وتمثل أحد أوجه الحالة السياسية في الكويت، و«تمارس تأثيرًا حقيقيًا على طبيعة النظام السياسي واستقراره»، بداية من دور أعضاء لجنة الميزانيات والحساب الختامي، إذ يُناط بلجنة الميزانيات مهمة استدعاء ممثلي وزارة المالية وممثلي كل جهة حكومية للنظر في البيانات المالية بمشروع الميزانية والأداء المالي للحساب الختامي، وكذلك طلبات الاعتماد الإضافية بالميزانية أو نقلها من باب لآخر. وبعد انتهاء الاجتماعات المطولة، ترفع لجنة الميزانيات تقريرها ودراستها الفنية إلى أعضاء مجلس الأمة للمناقشة والتصويت على مشروعي الميزانية والحساب الختامي.
هناك بعض القواعد الخاصة بالمناقشة والتصويت على الميزانيات، منها أنه لا يجوز مناقشة مشروع الميزانية جملة واحدة، بل يكون النقاش على كل باب على حدة، وينطبق ذلك على التصويت أيضًا. فالتصويت يكون علنيًا وبالنداء على الاسم ما لم يُطلب غير ذلك، ويتم مرة واحدة أي دون سريان شرط المداولة الثانية. وتشير المادة 85 من الدستور إلى اشتراط فض دور الانعقاد لمجلس الأمة باعتماد مشروع الميزانية للدولة، وفي حالة عدم إقرار قانون الميزانية الجديد للوزارات أو لأي جهة حكومية، فإنه يجري العمل بالميزانية السابقة. إلا أن هذا الشرط ليس واجبًا في حال غياب المجلس، فقد اعتُمدت ميزانية سنة 2000/1999 بمرسوم أميري بسبب حل مجلس الأمة، ومن ثم اعتمدها المجلس الجديد، وانقسم النواب وقتها حول أن اعتماد الميزانيات بمرسوم ربما يؤسس لسوابق قد تستخدمها الحكومة لاحقًا.
عدم إقرار الميزانية الحالية للدولة ليس جديدًا على مجلس الأمة، فقد تأخر اعتماد الميزانيات خلال سنة 2020 بسبب ظروف جائحة كورونا. والدستور يسمح باستخدام ميزانية السنة الماضية بنفس تخصيصها حتى إقرار الميزانية الجديدة، كما ذكر رئيس مجلس الأمة السابق أحمد السعدون في إحدى ندواته. ومن خلال أرشيف الجرائد، نجد أن الحكومة ذكرت في المجلس السابق أن التعيينات غير مرتبطة بإقرار الميزانية، بل تتم عبر عدة فترات زمنية خلال السنة، وهو ما يتعارض مع الحملة التي أثارتها بعض الحسابات الإخبارية والصحف من تعطيل التعيينات والرواتب لعدم إقرار الميزانية، كما ذكر أحد النواب على تويتر.
في آخر تصريح لرئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، ذكر أنه استلم طلبًا من بعض النواب لعقد جلسة خاصة لإقرار الميزانية العامة للدولة خلال جلستين خاصتين، مع مناقشة الميزانيات مباشرة دون تقرير لجنة الميزانيات والحساب الختامي. وعليه يبقى السؤال: كيف يمكن للنواب مراقبة الميزانية ومحاسبة الحكومة؟ فهذه الميزانية لم تمر على لجنة الميزانيات والحساب الختامي، ولم تناقَش مع ممثلي الوزرات المختلفة للدولة. وإضافة إلى ذلك، هناك خيارات أخرى متاحة أمام الحكومة مثل استخدام الميزانية السابقة، ومد فترة دور الانعقاد الحالي لحين إقرار الميزانية باتفاق حكومي نيابي، أو من خلال عقد جلسة خاصة كما حدث مع جلسة مكافأة الصفوف الأمامية، أو استخدام مراسيم الضرورة كما حدث في أواخر التسعينيات.