فقدت الليرة التركية نحو 40% من قيمتها أمام الدولار منذ بداية العام وحتى الآن. هذا الانهيار الشديد دفع عددًا من وكالات الائتمان الدولية والخبراء الاقتصاديين إلى التحذير من أزمة اقتصادية كاملة في تركيا. هذا الانهيار الشديد يؤثر في الاقتصاد التركي الذي يشهد منذ 2016 أزمة اقتصادية حادة، تسببت في ارتفاع معدلات التضخم إلى 15% على أساس سنوي، وهو المعدل الأعلى منذ الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي عاشتها تركيا في بداية الألفية الثالثة.
تعيش الليرة حالة من الانهيار أمام الدولار بداية من 2012، حين سجل الدولار متوسط 1.7 ليرة. أما الآن، فالدولار يقارب 6.5 ليرة، ما يعني أن الدولار تضاعف نحو أربع مرات أمام الليرة في آخر ست سنوات فقط.
يعكس هذا الانخفاض المستمر أزمة عميقة في الاقتصاد التركي نفسه، ويطرح للدول النامية مثالًا جيدًا حول مدى فعالية واستدامة هذا النموذج الاقتصادي والتنموي، والذي يعتمد بالأساس على الاقتراض لتمويل النمو. أيضًا يطرح هذا الموضوع سؤالًا آخر حول تصاعد السلطوية في النظام التركي، ومدى تأثير ذلك في الاقتصاد.
ليست الليرة، إنما أزمة هيكلية في الاقتصاد التركي
تبدو أزمة الاقتصاد التركي الحالية شبيهة، إلى حد بعيد، بأزمة النمور الآسيوية أواخر القرن العشرين، والتي اندفعت أيضًا بتأثير عجز الميزان التجاري، ما أنتج أزمة كبيرة في سوق العملة، وانخفضت قيمة عملات هذه البلدان أمام الدولار بشدة.
كمعظم الاقتصادات الناشئة، يعاني الاقتصاد التركي من غياب اليقين حول مستقبله وارتباطه بآفاق المستقبل العالمي.
تركيا التي شهدت خلال العشرين عامًا الأخيرة قفزة اقتصادية مدفوعة بالاقتراض شديد الكثافة، والذي موَّل النمو الاقتصادي، ورفع معدلات التشغيل، وبخاصة في قطاعات البنية التحتية التي غيَّرت من الوجه العمراني لتركيا خلال تلك الفترة.
لم تكن تلك معجزة اقتصادية كبيرة على عكس ما يروج بعضهم، فدائمًا تمتلك الاقتصادات الناشئة، مثل الاقتصاد التركي، إمكانيات كبيرة لتحقيق معدل نمو مرتفع، خصوصًا إذا كانت الدولة تمتلك سوقًا محلية كبيرة جدًّا بحجم تركيا التى يقارب سكانها الثمانين مليونًا. فمن المتوقَّع أن يزيد الناتج المحلي بنسب كبيرة، مدفوعًا بشدة بزيادة الطلب الاستهلاكي المحلي الذي يعمل بدوره على تشغيل الدورة الاقتصادية بشكل أكثر كفاءة. هذا ما كان كينز سوف يقوله الآن إذا كان بيننا.
خلال تلك الحقبة، روَّج الاقتصاد التركي نفسه باعتباره اقتصادًا ناشئًا ذا إمكانات كبيرة، وبخاصة في قطاع الصناعات التحويلية (الملابس بالأساس)، وساعد على نمو هذا القطاع أن العمالة التركية أرخص مقارنة بجيرانها الأوروبيين، ومهارتها مقبولة جدًّا مقارنة بأجورها. لذلك يمكن أن يرتفع الطلب العالمي عليها، ما دفع المستثمرين المحليين والأجانب إلى ضخ كثير من الأموال في سوق الصناعات التحويلية التركية.
أيضًا في القطاع العقاري، والذي يبدو أقل من حيث القيمة المضافة، وأقل تأثيرًا في الميزان التجاري للدولة التركية، ضخت أنقرة كثيرًا من الاستثمارات، لكن جاءت تلك الاستثمارات المباشرة مع قرينتها غير المباشرة، وأيضًا الاقتراض المفرط للشركات التركية الكبرى، وبخاصة من البنوك الأوروبية.
كمعظم الاقتصادات الناشئة، يعاني الاقتصاد التركي من غياب اليقين حول مستقبله وارتباطه بآفاق المستقبل العالمي. مثلًا تؤثر أسعار النفط بشدة في معدل التضخم في تركيا لأنها دولة مستوردة للطاقة. وحتى لو كانت حالة انعدام اليقين تلك مدفوعة بالتغيرات السياسية الداخلية، كما حدث في محاولة انقلاب 2016، فإنها تؤثر وبشدة في عقلية المستثمرين في السوق التركية.
كذلك أثرت الحرب التجارية مع الولايات المتحدة بشدة في الوضع الاقتصادي التركي، وبدأت الحرب التجارية للرئيس ترامب بفرضه رسومًا جمركية على بضائع صينية، تصل قيمتها إلى 34 مليار دولار، لاحقًا أعلن ترامب الحرب على جميع الأطراف: أوروبا وكندا، وحتى تركيا.
شكَّل وصول ترامب إلى السلطة في 2017 صدمة كبيرة للعالم الذي وجد نفسة أمام شخص من خارج أجندة السياسية التقليدية، يدفع بخطاب معادٍ للعولمة، على عكس المتوقَّع، ويركز على الداخل الأمريكي.
من الممكن القول إن الثمار الحقيقية للعولمة جنتها الدول النامية والاقتصادات الناشئة. ورغم اختلال التجارب التنموية في تلك الدول على مستوى توزيع أرباح النشاط الاقتصادي، وحتى انخفاض القيمة المضافة في الاقتصادات ككل، لاعتماد هذه الدول على الصناعات التحويلية بشكل رئيسي (المنسوجات في حالة تركيا مثلًا، والإلكترونيات في حالة النمور الآسيوية)، ومن ثَم اعتمادها على استيراد مدخلات الإنتاج من الخارج. تركيا أيضًا تعتمد في اقتصادها الإنتاجي على هذا القطاع بشكل كبير، وحتى في صادراتها. لذلك، حينما يعمد الأمريكيون الخروج من هذا الإجماع الاقتصادي حول العولمة، ويعهدون إلى فرض تعريفات جمركية على بضائع تلك الدول الناشئة، فمن المؤكد أن تلك الدول ستتأثر، وبشدة.
حرب تجارية عالمية
ما أجج الأزمة العميقة التي يعيشها الاقتصاد التركي منذ 2012، الخصومة السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد احتجاز تركيا الجبري للقس الأمريكي «أندرو برونسون». ورغم أن الاقتصاد التركي سجل معدلات نمو جيدة، تخطت 7% في السنتين الأخيرتين، فإنها لم تكن كافية لمنع الأزمة الحالية.
لم يكن ترامب يريد سببًا ليخوض حرب «الجميع ضد الجميع» التي يشنها من أجل أن يجعل أمريكا «عظيمة» مرة أخرى. لكن جاء القس الأمريكي منحة من السماء ليستمر في حربه ضد تركيا. «أندرو برونسون»، وهو قس أمريكي يدير كنيسة صغيرة في تركيا، اعتقلته السلطات التركية، ووجهت إليه اتهامات بالتعاون مع حركة الخدمة، وزعيمها فتح الله كولن، الذي تتهمه الحكومة التركية بالتخطيط لانقلاب 2016.
من تداعيات هذا الموقع، جمدت الحكومة الأمريكية أصولًا تعود إلى وزيري العدل والداخلية في حكومة أردوغان، قبل أن تعود بعدها بأيام قليلة، ويصرح «ويبلر روس»، وزير التجارة الأمريكية، بأن الولايات المتحدة ستضاعف من التعاريف الجمركية على البضائع التركية التي تستوردها. لاحقًا دعا أردوغان مواطنيه إلى مقاطعة البضائع الأمريكية ردًّا على العقوبات الأمريكية على بلاده. أيضًا نشرت الجريدة الرسمية التركية قرارًا بفرض رسوم جمركية، تصل إلى 140% على البضائع الأمريكية، منها السيارات والكحول والتبغ. يميل التبادل التجاري بين البلدين لصالح الولايات المتحدة التي تصدر لتركيا أكثر مما تستورد، ومن ثَم، سيتأثر الاقتصاد التركي.
هنا ليس الحديث فقط عن الأثر الاقتصادي المباشر، لكن عن الأثر الأكثر خطرًا، وهو ثقة المستثمرين في بلد لا يتمتع اقتصاده بقوة كافية ليشكل اقتصادًا مستقرًّا على المدى الطويل. لذلك سيحجب هذا جزءًا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
على المستوى الداخلي تُضخم الحكومة التركية كثيرًا من هذه الحرب التجارية. فمنذ الانقلاب العسكري في 2016، يحاول أردوغان إقناع شعبه بألا يشتري الدولار أو اليورو، وأن يحتفظ بالليرة التي تقل قيمتها يومًا بعد الآخر، وأن الأتراك لن ينجوا من أزمة العملة إلا بتضامنهم.
وفي السياق نفسه، أعلنت قطر عن نيتها القيام باستثمار مباشر في تركيا بقيمة 15 مليار دولار، فيما يبدو كمساندة لتركيا في أزمتها، ومحاولة لوقف الهبوط السريع للاقتصاد التركي.
لكن في العموم، تبدو الخطابات التركية الشعبوية مفرطة في الثقة، ولا تدرك أن الأزمة بالفعل أكبر من مجرد من حرب الولايات المتحدة التجارية على العالم، وأن الأمر يتخطى هذا إلى النموذج الذي تبناه أردوغان نفسه في النمو الاقتصادي، والذي يعتمد في الجزء الأكبر من تمويله على اقتراض الحكومة والقطاع الخاص لتوفير فرص العمل والحفاظ على معدلات البطالة في أقل مستوياتها من أجل الانتخابات.
النمو بالاستدانة
مع عدم استقرار البنية الاقتصادية بشكل كامل، وعدم وجود سياسات تراقب السوق بشكل فعال، تكون الدولة في مهب الرياح.
تعاني تركيا من عجز في ميزان تجارتها الخارجية. فوارداتها أكثر من صادراتها، والعجز يجب أن يُموَّل، إما من استثمارات أجنبية، وإما بالاستدانة. ولا يعد هذا بحد ذاته غريبًا أو خطيرًا، لكن العجز لدى تركيا أصبح كبيرًا جدًّا ليبلغ 5.5% من إجمالي الناتج المحلي 2017. هذا العجز لا يعكس فقط أن حجم صادرات الاقتصاد التركي من السلع والخدمات أقل من حجم وارداته، لكنه كذلك (بالتدقيق في هيكل العجز) يعكس مدى التشوه الذي أصاب الاقتصاد التركي، التشوه المتمثل في الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في الأوراق المالية، وبخاصة أدوات الدين قصير الأجل في تركيا.
الدولة النامية أو الاقتصاد الناشئ، في العالم الذي يبحث فيه كبار المستثمرين عن الربح لا غيره، لن يمكنهما أن يجلبا فقط الاستثمار الأجنبي المباشر، أي في القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد، والتي تسهم في توظيف مزيد من العمالة وتقليل معدلات البطالة ورفع المستويات المعيشية لغالبية السكان، وهو ما حدث في التجربة التركية جزئيًّا.
لكن بجانب هذا، يأتي الأثر الجانبي. فالدولة الناشئة تقترض كثيرًا من السوق العالمية، لدرجة أن تصل ديونك الخارجية إلى 453 مليار دولار، أي ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي. حينها لا بد من أن تقع هذه الدولة في فخ الأموال الساخنة، وهي الاستثمارات غير المباشرة، بالذات في أدوات الدين قصيرة الأجل والأسهم، والتي سرعان ما تتبخر وتحلق نحو دولة أخرى في ظل أي تهديد أو عدم استقرار. ومع عدم استقرار البنية الاقتصادية بشكل كامل، وعدم وجود سياسات أو تشريعات تراقب هذه السوق بشكل فعال، فالدولة إذًا في مهب الرياح.
على خطى النمور الآسيوية
في 1998، كتب خبراء صندوق النقد تعليقًا على أزمة النمور الأسيوية، إذ استنتجوا أن المشكلة كانت في عدة محاور، أهمها غياب الرقابة على سوق أدوات الدَّين في إطار سعي تلك الدول للحصول على معدلات نمو مرتفعة وقدرة تشغيلية كبيرة للاقتصاد.
يرى خبراء الصندوق الذين روجوا في تسعينيات القرن العشرين لنموذج واحد من العولمة الليبرالية متمثلًا في سياسات تحرير سعر الصرف، وفتح الأسواق أمام حركة رؤوس الأموال، أن كثيرًا من الاستدانة يسهم في عدم استقرار هياكل الاقتصاد الداخلية في الدولة، ولذلك يطرح إمكانية حدوث أزمة كبيرة. أيضًا يرى هؤلاء أن دول جنوب شرق آسيا كانت بحاجة لمزيد من التشريعات الاقتصادية التي تضع في الاعتبار جذب الاستثمار الأجنبي، لكن بضوابط معينة، منها الحفاظ على استقرار أسعار الفائدة.
في أزمة دول جنوب شرق آسيا، أسهمت أسعار الفائدة المنخفضة في هروب كثير من المستثمرين الأجانب نحو بلدان أخرى، مثل الولايات المتحدة واليابان، والذين بدورهم رفعوا أسعار الفائدة أكثر. هنا يتحدد، في نموذج النمو بالاستدانة، مدى قدرة الدولة النامية على تحمل التنافسية في أسعار الفائدة مع الدول الكبرى التي تبدو ذات هياكل اقتصادية أكثر ثباتًا وقادرة على تأمين احتياجاتها التمويلية بشكل أكثر استدامة.
هذا بالضبط ما حدث مع تركيا. الفيل في الغرفة كما يقال، وهذا الفيل كان الدَّين، وحين أحس مستثمرو الأموال الساخنة بأن هيكل الاقتصاد التركي هش، رغم معدلات النمو المرتفعة، وبدأوا سحب أموالهم الساخنة نحو مناطق أخرى في العالم تتمتع بأسعار فائدة أعلى، انخفضت الليرة مقابل الدولار.
يصر أردوغان على التدخل في سياسات البنك المركزي التركي، فالرجل لديه رؤية اقتصادية تبدو صحيحة نظريًّا، وهي أن الإبقاء على معدلات فائدة منخفضة سيشجع الاستثمار المحلي، بما يمكن أن يسهم، على المدى الطويل، في تعديل هيكل الاقتصاد نفسه، بالاعتماد على الاستثمار المحلي. حالة نجحت الصين في تحقيقها خلال عقدي ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، وهو المحافظة على معدل ادخار عالٍ، واستثمار محلي مرتفع في قطاعات إنتاجية تساعد على التشغيل والتصدير.
لكن تلك الاستشرافية طويلة الأمد لا تصلح في الوقت الحالي، ما دفع البنك المركزي التركي أخيرًا إلى رفع أسعار الفائدة بنسبة 3%، على أمل أن يبطئ من هروب الأموال الساخنة، فيتوقف نزيف الليرة أمام الدولار.
أردوغان يرى أن أسعار الفائدة، وبحسب تصريح سابق له، هي «أم الشرور». يمكنني في سياق آخر أن أتفق معه، لكن في الوقت الحالي، والذي يعتمد فيه النموذج التركي بشكل كبير على الاقتراض من أجل النمو، لا يصلح هذا. ففي النهاية يقع الاقتصاد التركي بأكمله تحت سكين الاستثمار الأجنبي.
يمكننا تلخيص الأزمة التركية الحالية بأنها الإفراط في العولمة النيوليبرالية، وليست فقط الإفراط في الاقتراض.
الإفراط في الاقتراض يمكنه تقريبًا تفسير الأزمة التركية الحالية، وبخاصة أنها ليست فقط أزمة الدين الحكومي الخارجي، لكنها كذلك أزمة الشركات والبنوك التركية التي ترتبط بشكل كبير بمنظومة الاستدانة تلك. فهي تمتلك ما يقرب من نصف الديون الخارجية، ولذلك في تلك المرحلة يقع الاقتصاد كله في فخ الدَّين، وأي تخلف عن السداد من الممكن أن يزيد من قلق المستثمرين والبنوك الأجنبية التي يمكن أن تتخلف، في أي لحظة، عن إقراضك مزيدًا من الأموال.
يرى كثير من المحللين أن الأزمة الحالية لليرة التركية بسبب الاقتراض الزائد عن الحد. لكن «مايكل روبرتس»، الاقتصادي الإنجليزي، يرى أن الأمر لا يبدو فقط أزمة سياسات مالية أو نقدية خاطئة للحكومة التركية، إذ يتخطى ذلك إلى وضع أكثر صعوبة، فرفع الولايات المتحدة أسعار الفائدة قد يضر كثيرًا بالاقتصادات الناشئة في العالم.
تكمن مشكلة النموذج الاقتصادي التركي في أنه دائمًا على حافة الانهيار، بسبب اعتماده على الاستدانة الخارجية لتمويل النمو. لكنها ليست مشكلة الأتراك وحدهم، فالعالم المعولَم بالكامل، والذي يضمن تدفقًا سهلًا وحركة أكبر لرؤوس الأموال، أخذ ينهار في ظل تراجع الولايات المتحدة، المروِّج الأول للعولمة، عن تلك السياسة، وعلى الجميع الآن أن يدفع هذا الثمن.
بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود من العولمة النيوليبرالية، وعقد واحد من أزمة اقتصادية كبيرة عاشها العالم في 2008، ما زالت جميع الحكومات تدفع الثمن الباهظ لغياب الرقابة على الأسواق، على المستوى القومي، وغياب الرقابة على حركة رؤوس الأموال، على المستوى العالمي. يمكننا إذًا أن نلخص أزمة تركيا الحالية بأنها الإفراط في العولمة النيوليبرالية، وليست فقط الإفراط في الاقتراض.
حول التماس بين السياسة والاقتصاد
الشعبوية قد تجعلك تكسب الانتخابات، لكنها من الممكن أن تخيف المستثمرين أيضًا.
تدخَّل أردوغان كثيرًا فى أعمال البنك المركزي التركي، الذي يبدو مستقلًّا فقط على الورق، لكن من الإجحاف أن نقول إن هذا هو السبب المباشر للأزمة، فالأمر له علاقة أكثر بهيكل الاقتصاد. أيضًا كان مبرر الولايات المتحدة في حربها التجارية ضد تركيا سببًا سياسيًّا عندما احتجزت تركيا القس الأمريكي، لكن هذا أيضًا في نظري ليس سببًا مباشرًا للأزمة، وإن أسهم في ظهورها وتضخيمها إعلاميًّا في الفترة الأخيرة.
إذًا، ما السياسة التي أتحدث عنها؟
تعاني النظم التي ما زالت لم تنجز مرحلة التحول الديمقراطي بشكل كامل، وما زالت العلاقات المدنية العسكرية فيها ضبابية بشكل كبير، من تشوه في الهيكل الاقتصادي أولًا على مستوى القاعدة الاقتصادية التي تعاني من معدلات فساد ومحسوبية بسبب غياب الشفافية بشكل كبير. أيضًا خضع الاقتصاد التركي والسياسات الاقتصادية لأجندات العدالة والتنمية الانتخابية التي تسعى إلى إرضاء الناخب التركي الذي أصبح لا يقبل بمستوى معيشي أقل مما وصل إليه في العقدين الأخيرين.
بينما يواجه حزب «العدالة والتنمية» انخفاضًا في شعبيته بسبب تراجع المكاسب الاقتصادية للمواطنين الأتراك، وخصوصًا في الحواضر الريفية التي تمثل القاعدة الانتخابية الأكبر للحزب الذي يسعى، عبر تبني خطابات شعبوية، إلى الحفاظ على ما تبقى له.
الشعبوية قد تجعلك تكسب الانتخابات، لكنها من الممكن أن تخيف المستثمرين أيضًا. في الفترة الأخيرة، وبعد الانقلاب تحديدًا، تبنَّى العدالة والتنمية خطابًا عدائيًّا ضد جميع الأطراف، وبخاصة الأوربيين والأمريكيين الذين وجد فيهم أردوغان شمَّاعة جاهزة ليعلق عليها كل هذا الفشل الاقتصادي في الأونة الأخيرة.
أيضًا، وعلى مستوى السياسة الخارجية، يقلل أردوغان من فرص الدعم الإقليمي له، سواء من ممالك الخليج (عدا قطر)، والتي كان يمكن أن تقرضه كثيرًا من الأموال، ليحل أزمة العملة الحالية التي يعاني منها. هذا مثلًا حدث مع باكستان سابقًا حين لجأت إلى السعودية في أزمة مماثلة.
يمكننا القول إن السياسات الاقتصادية التركية أسهمت في التشوه الذي يعاني من عواقبه الاقتصاد التركي الآن، السياسات المتركزة بشكل أساسي حول الاقتراض من أجل تمويل النمو، ويبدو أن هذا سيستمر على المدى القريب، لكن بطريقة أكثر رشدًا، بعد أن تلجأ الحكومة التركية إلى المؤسسات الدولية من أجل خطة إنقاذ، إذا استمرت الأزمة الحالية في التفاقم.