منذ أكثر من عام، ومع بداية عمل المدعي العام الأمريكي الخاص، «روبرت مولر»، محققًا حول قضية تدخل الحكومة الروسية في الانتخابات الأمريكية عام 2016، أو أي قضية قد تكون على علاقة بها من قريب أو بعيد، يحاول رجل الأعمال الأمريكي دونالد ترامب الذي تقلد رأس الإدارة الأمريكية حينها، عرقلة طريقه، مهاجمًا ومتهكمًا من دوافع التحقيق برمته. لكن هجوم ترامب المستمر للتحقيق، لم يمنع مولر من استكمال مهمته. ويبدو أن التحقيقات المستمرة بخصوص الرئيس الأمريكي بدأت تؤتي ثمارها.
ففي 21 أغسطس 2018، وجهت محكمة فيرجينيا إلى المدير السابق لحملة ترامب الانتخابية، «بول مانافورت»، اتهامات كفيلة بإرساله إلى السجن باقي سنوات حياته: احتيالات بنكية وضريبية وعدم الإفصاح عن حساب مصرفي أجنبي.
في نفس اليوم، اعترف المحامي الشخصي السابق للرئيس ترامب، «مايكل كوهين»، أمام محكمة نيويورك، بثماني تهم فيدرالية، مؤكدًا أن ترامب كان قد وجهه إلى رشوة سيدتين، ما يعد انتهاكًا واضحًا لقوانين تمويل الحملات، لأنه أثَّر في نتائج الانتخابات بطريقة أو بأخرى.
اتهامات مانافورت واعترافات كوهين، بالنسبة إلى ترامب، تضيق الخناق على رقبته، بالرغم من أنها قد تبدو بعيدة بعض الشيء عن الهدف الأساسي من تحقيقات مولر، أي إثبات انخراط ترامب في التدخل الروسي في الانتخابات، فإنها قد تنعكس إيجابيًّا على القضية، وقد تصل آفاقها، في نظر معارضي ترامب، إلى احتمال استقالته أو عزله.
هذه الاتهامات بالنسبة إلى مولر انتصار حقيقي، وستزيل العقبة الأضخم المتمثلة في التشكيك في مشروعه بأكمله، حول السعي نحو الكشف عن حقيقة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016، والتي أنقذتها تلك الاتهامات.
تأخرَ تعليق ترامب لوهلة، لكنه ما لبث أن نعت اتهامات مانافورت بالعار، لأنه «تطور غير طبيعي» لقضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، ومكتب التحقيقات الفيدرالية بدأ البحث والاستقصاء حول تلك الاتهامات إلى ما قبل 2016، لكنه ضمها في النهاية إلى ملف تحقيقات مولر. واستخدم ترامب تلك الاتهامات كدليل قاطع على تحيز فريق مولر.
حتى لو كان ترامب يعتقد في تحيز المدعي العام، فبعد أن كان الشعب الأمريكي يرى في تهكمات ترامب وتحقيقات مولر مجرد مبارزة سياسية بين خصمين، فإنها اليوم أصبحت نقطة تحول لسير القضية، من اتهامات مرسَلة دون دلائل إلى إدانات واضحة لأقرب رجال ترامب.
هذه الإدانات تنضم بدورها إلى ثلاثة اعترافات سابقة من رجال الرئيس على مدار التحقيقات: «ريك غيتس»، نائب مدير الحملة الانتخابية لترامب، اعترف بالتآمر ضد بلاده، والإدلاء بتصريحات كاذبة. «جورج بابادوبلوس»، أحد مستشاري ترامب في حملته الانتخابية، أقر أيضًا بالإدلاء بتصريحات كاذبة لعملاء مكتب التحقيقات الفيدرالية بشأن تواصل حملة ترامب الانتخابية مع الحكومة الروسية. «مايكل فلين»، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، استقال من منصبه بعد اعترافه بتضليل مسؤولين أمريكيين بشأن اتصالاته مع السفير الروسي.
هكذا إذًا سقط أغلب رجال الرئيس، وبقي هو، فهل اقترب موعد سقوطه؟
بعدها بيومين، أعلن عبر قناته التلفزيونية المفضلة، «فوكس نيوز»، أن التعاون مع الحكومة بشأن قضية جنائية ما طمعًا في حكم مخفف، يُفترض أن يكون «غير قانوني»، ما معناه أن الحكومة تمارس ضغوطًا غير قانونية للحصول على اعترافات قد تكون مفبركة.
وفي ما يبدو أنه محاولة لتصدير ورطته إلى أمريكا ذاتها، حذر ترامب كذلك من أن مجرد عزله سيؤدي إلى انهيار اقتصادي، وسيشعل ثورة.
الاقتصاد الأمريكي في مواجهة ترامب
تحذيرًا أكان أم تهديدًا، صرح ترامب بأن عزله سيجعل جميع المواطنين يعانون الفقر، وستتراجع البورصة بشكل مخيف، باعثًا برسالة تهديد إلى الكونغرس الأمريكي الذي لديه صلاحية عزل الرئيس في حالات الخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجرائم الكبرى والجنح. مفاد هذه الرسالة أن يتجنب الكونغرس التفكير في طرده من البيت الأبيض لأنه ببساطة يؤدي «عملًا جيدًا» ولا يرى أي سبب لعزله. ثم مدح الرئيس الأمريكي مانافورت على قوته أمام «ضغوط» التعاون مع فريق مولر، في حين اتهم الآخرين المتعاونين مع الحكومة بتلفيق التهم إليه والادعاء عليه.
لأول مرة منذ توليه الإدارة الأمريكية، يصرح ترامب علانية، ليس فقط بمسألة عزله، بل يناقش أيضًا عواقب تلك الخطوة. من ناحية، يخلق ترامب حالة من الاضطراب السياسي بتلميحاته التحذيرية أو التهديدية، ومن ناحية أخرى، يخفف من وقعها على الشعب الأمريكي بتهوين ما فعله كوهين من خروقات في أثناء الحملة الانتخابية، معتبرًا تلك الانتهاكات مجرد تسوية صفقات.
يتشابه السيناريو الاقتصادي في حال عزل الرئيس ترامب مع سيناريو ما بعد فضيحة «ووترغيت».
حتى الآن، لا يزال سيناريو عزل الرئيس ترامب مجرد توقع بعيد الاحتمال، بالرغم من سير التحقيقات التي تنسج دلائل صغيرة للبرهنة على تورطه. وبالرغم من أن الحزب الجمهوري لم يعرب عن قلقه، فإنه ينتظر المستقبل متوجسًا، حتى إن رئيس مجلس النواب الأمريكي، السياسي الجمهوري «بول ريان»، لم يعلق على اعترافات رجال ترامب، وصرح بأنه ليس لديه معلومات كافية.
الحزب الديمقراطي يترقب ما ستؤول إليه تحقيقات مولر، مهما تكن النتيجة، متأكدين أن لا أحد فوق القانون. ولذلك لا يرى الديمقراطيون أنه من الحكمة عدم اللعب بورقة عزل ترامب، والتعامل مع فضائح رجاله كأنها الموسيقى الخلفية التي لا تحتاج إلى رفع صوتها.
الشعب الأمريكي ليس مضطرًّا إلى الاستمرار في الاستماع إلى موسيقى الفضائح في الخلفية من أجل تجنب الوقوع في فخ انهيار الاقتصاد، لأن تحذير ترامب من انهيار البورصة قد تنعكس نتائجه على شكل حالة ركود اقتصادي كالذي عانت منه الولايات المتحدة في أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. لكن لن يعاني «كل أفراد الشعب من الفقر» كما يدَّعي ترامب، إذ إن ما يقرب من نصف الشعب الأمريكي لا يمتلك أسهمًا في البورصة، ولا يوجد أي دليل قاطع على أن ازدهار الأسواق المالية كانت نتيجة إجراءات أو قوانين أقرها ترامب، فقد استمر نمو تلك الأسواق قبل وصول ترامب إلى سدة الحكم، واستمر الحال على نفس المنوال.
ربما سيتشابه السيناريو الاقتصادي في حال عزل الرئيس ترامب مع سيناريو ما بعد فضيحة تجسس الرئيس الأمريكي السابق «ريتشارد نيكسون» على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى «ووترغيت»، وفوزه الصعب على منافسه الديمقراطي.
في يناير 1973، أي بعد سبعة أشهر من الكشف عن فضيحة ووترغيت، كانت أسهم أكبر الشركات المالية الأمريكية منتعشة، لكن في المقابل، ارتفعت نسبة التضخم بنسبة 2.5%، واستمرت في الارتفاع حتى نهاية العام بنسبة 4.7%، ما أدى إلى تخلخل الإدارة الأمريكية حينها. وقبيل تنحيه عن الحكم، أي في أغسطس 1974، كان التضخم قد وصل إلى 8%، وتوقف نزيف الاقتصاد الأمريكي بعد ثماني أسابيع من استقالته، ليعود إلى الانتعاش مرة أخرى وكأن شيئًا لم يحدث.
لذلك، فإذا كان عزل ترامب من منصبه لن يؤثر سلبًا على أسهم البورصة، فإن محللين يذهبون إلى توقع ازدهار الاقتصاد أكثر فأكثر، لكن الأسواق قد تعاني من تقلب مؤقت.
اقرأ أيضًا: «غولدمان ساكس»: الإمبراطورية المالية التي تحكم العالم
يعتقد محترفو «وول ستريت» أنه في حال مغادرة الرئيس ترامب وصعود نائبه «مايك بنس» ليحل محله فإن الأخير سيستمر على نهج سياسات ترامب المتمثلة في الضرائب المخفضة واللوائح القليلة، وستختفي تغريدات ترامب المتلاحقة والتحقيقات المستمرة والحروب التجارية العالمية.
حينما يذكر محللو وول ستريت الأخطار التي قد تواجه البورصة، غالبًا ما يستشهدون بالاضطرابات الخارجية، مثل أزمة الليرة التركية في الآونة الأخيرة، أو تحريك بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بسرعة أو ببطء بالغَيْن، أو توترات جيوسياسية في الشرق الأوسط أو الجزيرة الكورية، وأحيانًا يشيرون إلى القلقلات السياسية التي يسببها ترامب عن طريق حرب تجارية جديدة أو سياسات اقتصادية غير متوقعة، لكن ليس في احتمالية عزله.
مناقشة إمكانية عزل ترامب من منصبه علانيةً، تبدو وكأنها تحمل بين طياتها اعترافًا مبدئيًّا بإمكانية أن تنتهي التحقيقات إلى تورطه في فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية التي فاز بها عام 2016، والتلويح بانهيار الاقتصاد الأمريكي يبدو كأنه تحذير وهمي للإفلات من سيناريو عزله، أو مناجاة الذين يقطنون في شارع وول ستريت لإنقاذه من سيناريو مستقبلي أسوأ. ومدحه لنفسه بأنه لا داعي لطرده من البيت الأبيض يبدو كأنه تهدئة ليس في محلها لأعضاء الكونغرس المترقبين نتيجة تحقيقات مولر.