صخب وضجيج وعبارات احتجاج غاضبة اجتاحت قاعة مجلس العموم البريطاني، حين توجه «لويد راسل»، النائب في البرلمان عن حزب العمال، إلى الطاولة التي تتوسط القاعة، وحمل الصولجان الذهبي اعتراضًا على تأجيل التصويت على خطة رئيسة الوزراء «تيريزا ماي»، المتعلقة بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.
السؤال هنا: لماذا تضج قاعة مجلس العموم، وهو واحد من أقدم الكيانات البرلمانية في العالم، بسبب حمل نائب لهذا الصولجان التاريخي؟ ما أهمية ذلك الشيء بالضبط؟
نشأة البرلمان البريطاني
قبل وجود البرلمان البريطاني في شكله الحالي، كانت السلطة في بريطانيا ممثلة في الملك وأتباعه من النبلاء. في عام 1225، امتلك النبلاء سلطة قوية أجبرت الملك جون على تأسيس ما عُرف حينها بـ«المجلس العظيم»، وهو مجلس استشاري مكون من 25 شخصًا.
بعد 50 عامًا، قاد النبيل «سيمون دي مونتفورت» تمردًا ضد الملك هنري الثالث، داعيًا ممثلي المدن وفرسان المقاطعات إلى برلمانه عام 1275. هكذا نشأ المجلسان الرئيسان في البرلمان البريطاني: مجلس العموم (الغرفة السفلى)، ومجلس اللوردات (الغرفة العليا) وكلاهما في قصر وستمنستر، ولا يزال البرلمان البريطاني ينعقد فيه إلى يومنا هذا.
ينتخب الشعب أفراد مجلس العموم ديمقراطيًّا كل خمس سنوات ليتولوا أمر تمثيله في إدارة الدولة، ووفقًا لهذه الانتخاب يملك مجلس العموم سلطة قوية، تتضاءل أمامها سلطة الملك ونبلائه.
يتكون المجلس من جبهتين أساسيتين: واحدة تمثل الحكومة، وأخرى للمعارضة، وهي التي ينتمي إليها النائب العمالي لويد راسل، بطل القصة.
صولجان ملكي، وصندوقان، وصفٌّ من الكتب
تعامل البرلمانيون المخضرمون مع هذا الاحتجاح باعتباره إهانة للتقاليد البرلمانية البريطانية، ولتاريخ بريطانيا العريق، وبعد أن أُعيد الصولجان إلى مكانه، طلب مدير الجلسة من العضو الانسحاب.
يمثل الصولجان رمزًا للسلطة الملكية، بحسب موقع البرلمان البريطاني الرسمي. ووفقًا للتقاليد البرلمانية البريطانية، لا يمكن إجراء أي نقاشات في المجلس أو اجتماعات أو حتى تمرير أي قوانين جديدة دون وجوده.
يبلغ طول الصولجان المصنوع من الفضة المطلية بالذهب خمسة أقدام، ويعود تاريخه إلى الملك «تشارلز الثاني» في القرن السابع عشر.
يُحمَل الصولجان إلى قاعة المجلس قبل انعقادها في مقدمة موكب المتحدث، ويوضع على طاولة المجلس طوال وقت انعقاد الاجتماعات، ويوضح تحت طاولة الاجتماعات عند مناقشة الأمور المالية، علامة على أنها أمر داخلي يختص البرلمان وحده بمناقشته، ولا سلطة للملكة عليه. يُرفع الصولجان من مكانه فقط في حالة حضور الملكة شخصيًّا، وهناك موظف مختص بجلب هذا الصولجان كل يوم إلى القاعة، ونقله نهاية اليوم.
فِعل راسل الاحتجاجي ربما يقع في القلب من النقاشات المحتدمة حول البريكست هذه الأيام.
مرت القاعة التي تُعقد فيها الجلسات بتاريخ طويل من التغيّرات. فالقاعة الحالية بنيت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وعندما أُعيد بناؤها، أسهم عدد من دول الكومنولث في هذا. على سبيل المثال، تحملت الهند وباكستان تكلفة أبواب القاعة، بينما تحملت كندا مسؤولية إعادة بناء الطاولة الواسعة التي تتوسط القاعة، وأتى مقعد المتحدث الرئيسي من أستراليا.
على الطاولة أيضًا، يمكننا ملاحظة صندوقين كبيرين، يُطلق عليهما «صناديق البرقيات»، التي كان يستعملها أعضاء البرلمان قديمًا لحمل الوثائق المهمة والبرقيات إلى القاعة. يحتوي هذان الصندوقان الآن مجموعة وثائق أثرية تخص البرلمان وبعض المخطوطات الدينية القديمة.
هذان الصندوقان هدية من نيوزيلندا، بعد أن دُمر اثنان سابقان في الحرب العالمية الثانية نتيجة القصف، والجديدان من تصميم السير «جيليس غيلبيرت سكوت»، وهما من خشب «البيوريري»، وعليهما عبارة «الله يرعانا». استوحى سكوت تصميمه من آخَر قديم لصناديق مماثلة في البرلمان الأسترالي، كان الملك جورج الخامس أهداها إلى أستراليا عام 1927.
يوجد على الطاولة كذلك صف طويل من الكتب، تمتد بين كرسي رئيس الوزراء وكرسي زعيم المعارضة، وتحتوي على القوانين السابقة التي أصدرها البرلمان، إضافة إلى الكتاب المقدس، ونسخ من القرارات الإدارية.
توضح الوثائق المهمة التي يجري مناقشتها على طاولة المجلس في نفس وقت الاجتماع. من هنا جاء التعبير الإنجليزي «وُضِع على طاولة المجلس»، تعبيرًا عن بداية النقاش في مسألة بعينها.
ردود الفعل على حَمل الصولجان
تباينت ردود الفعل في ما يتعلق بفعل النائب الاحتجاجي.
يرى «إيزاك ستانلي»، الكاتب في جريدة «واشنطن بوست»، أن ردود الفعل على لويد راسل تُظهِر المراوغات في التقاليد البريطانية والنظرة التاريخية الذاتية التي ترى بها بريطانيا نفسها، وهذه التقاليد لُب الصراع حول «البريكست» الذي يعرض مناصروه رؤية نوستالجية يريدون عبرها العودة إلى دولة مستقلة وذات هيمنة عالمية، بينما يراها المعارضون محض تمسُّك غير مفهوم بتصورات بالية.
انضمت بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي عام 1973، وقت تراجُع الإمبراطورية البريطانية على جميع الأصعدة، لذلك يمثل الصولجان، في رأي إيزاك، جسرًا يصلنا ببريطانيا القديمة العريقة، التي يرى بعض المُنظرين أن الدافع في استعادتها، أو في استعادة التصور هذا عنها، هو الحافز الأساسي وراء الرغبة في الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لبريطانيا تاريخ من الاعتراض الصولجاني، نواب يحملون أو يُتلفون الصولجان رغبةً في الاحتجاج.
كتب العضو البرلماني راسل مقالًا في صحيفة «الغارديان» بعنوان «فخور لأني حملت الصولجان الملكي، وهذا هو السبب» ليبرر ما فعله.
يقول راسل في مقاله إن بريطانيا وصلت إلى مرحلة حرجة، ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تعرف أن البرلمان لن يمرر الموافقة، وخلال معرفتها هذه خدعت جميع الأعضاء بكلمات متملقة، مثل الادعاء بأن البريكست هو «الاتفاق الوحيد»، أو «في مصلحة الوطن». وحتى خلف الأبواب المغلقة، أقصت تيريزا أعضاء البرلمان، وعطلت معرفتهم بتفاصيل المفاوضات.
يبرر الرجل حمله للصولجان بأنه لن يقف متفرجًا بينما تغرق الحكومة، التي يصفها بأنها «قاسية».
شعر راسل أن تيريزا ماي تحاول إخفاء استخفافها بالبرلمان، ورأى أن من واجبه أن يشير ببساطة إلى ذلك، وأنها إن كانت غير قادرة على جمع التوافق في البرلمان حول اتفاق ما، فهذا يعني أنها غير مؤهلة لتولي منصبها، وعليها التنحي لصالح من يمكنه إدارة أمور كهذه.
بريطانيا: تاريخ من الاعتراض الصولجاني
ليس لويد راسل البرلماني الأول الذي يفعل شيئًا كهذا، فقد سبقه نواب كثيرون حين شعروا أن النظام البرلماني لا يعمل كما ينبغي، أو أنه خاضع للاستغلال.
في 1930، حسب ما تؤكده صحيفة «واشنطن بوست»، علق مجلس العموم البريطاني عضوية أحد أعضاء حزب العمال بسبب سعيه للخروج من القاعة بالصولجان الملكي، بعد منع أحد زملائه من إلقاء خطاب متعاطف تجاه الهند.
وفي 1976، استولى أحد المشرعين المنتمين للحزب المحافظ على الصولجان خلال نقاش عن تأميم أجزاء من صناعة السفن والفضاء في البلاد. بينما اندفع أحد أعضاء حزب العمل عام 1988، إلى حد إلقاء الصولجان أرضًا والتسبب في إتلافه، وأُلزِم بدفع 1500 جنيه إسترليني تكاليف التصليح.
أما حديثًا، وفي عام 2009، عوقب عضو برلماني عمالي لمدة خمسة أيام بعد رفعه الصولجان، احتجاجًا على خطة بناء مدرج طائرات جديد في مطار هيثرو اللندني.
خطوة الصولجان هذه ليست أهم ما فعله لويد راسل، إذ أعلن في مناقشة انعقدت في نوفمبر 2018 أنه كان مصابًا بالإيدز، وأنه لَمَا كان ليُشفى لولا الرعاية الصحية التي تلقاها، وأصبح بإعلان كهذا أول برلماني يفصح عن وضعه الطبي في مناقشات مجلس العموم.