طرحت أدبيات الاقتصاد آليات وسياسات متنوعة تعزز العدالة الاجتماعية وتعيد توزيع الثروة من الأغنياء إلى الفقراء، مُستلهمة هذا النهج من الشخصية الفلكلورية الإنجليزية «روبن هود»، حتى سميّت هذه السياسات باسم «تأثير روبن هود». ومرت تجربة هذه الآليات عبر مراحل مختلفة في كثير من الدول التي طبقتها مع اختلاف نظمها الاقتصادية.
تتقاطع أهمية مشكلة التباين بين الطبقات في الكويت مع الحالة المالية الصعبة التي تعيشها الدولة منذ النزول المتكرر لأسعار النفط، ما يضعف من قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ويجعلها تواجه عجزًا تاريخيًا في الميزانية.
لا تقل قضية التفاوت الطبقي أهمية عن الوضع المالي للدولة في هذا الوقت تحديدًا، فلجائحة كورونا آثارها الخطرة على توزيع الدخل بين السكان، وأصبحنا نلمس هذه المخاطر يوميًا. وقائع التاريخ تنبئنا بأن وراء كل ركود اقتصادي انحسارًا في عدالة توزيع الدخل وضحايا من الطبقات المتوسطة ومتدنية الدخل، إذ خلفّت تبعات أزمة 2008 المالية ضررًا بالغًا على الفقراء، في حين كان الأغنياء أقل تضررًا وازدادت ثرواتهم أكثر من السابق.
تعميق الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على تباين توزيع الدخل أصبح أمرًا حتميًا، ومؤشراته الأولية انطلقت بدءًا من التهديد الذي يحيط مستقبل الشباب المغامر في القطاع الخاص وتدهور أوضاع العمالة الوافدة. مسألة استمرار توسعة فوارق الدخل بين السكان ليست اقتصادية فحسب، بل تسحب معها مشاكل اجتماعية وأخرى صحية. وما فجرته الأزمة الصحية ما هو إلا انعكاس للحال الصعب الذي تعيشه العمالة الوافدة مع تفشي الفيروس بينهم، بسبب وضعهم المعيشي الحالك الذي أنتجته تراكمات تدني أجورهم وسقوطهم تحت الفقر.
نعم.. الكويت «غير»
مراعاة العدالة الاجتماعية من ضرورات أي معالجة اقتصادية للوضع الصعب الذي تعيشه مالية الدولة، وأن تكون مقرونة بأدوات تحسن مستويات العدالة بتوزيع الدخل والثروة وتعالج الاختلال الحالي.
تعتبر «وثيقة الإصلاح الاقتصادي» التي طرحتها الحكومة في عام 2016 حاضنة معالجات الدولة لحل أزمة الميزانية العامة، وكانت محل جدل واسع في المحافل المحلية منذ ذلك الحين. بعيدًا عن التشنجات السياسية التي أثارتها وثيقة الإصلاح الاقتصادي، فإن القراءة المتأنية لها تدلنا على انعكاسات متناقضة لهذه المعالجات على سياق عدالة توزيع الدخل والثروة، فليس كل ما بها سيئ أو إيجابي على متوسطي ومحدودي الدخل في المطلق.
في المقام الأول وقبل محاولة قياس أثر المعالجات الاقتصادية، ينبغي فهم الحالة الكويتية لعدة أسباب. اتباع أسلوب «التحليل المقارن» بين الكويت وغيرها من دول لا يستقيم في كل المجالات، وقد تصح المقولة التقليدية التي ترد على ألسنة المسؤولين عند مناقشة الاقتصاد الكويتي بأن «الكويت غير»، فهي عمليًا لها نموذج وهيكلية خاصة لا ينفع معها إسقاط كل نظريات المناهج الاقتصادية.
في حين أن أغلب الدول لديها اقتصاد حكومي ضئيل الحجم وتعتمد على النظام الضريبي كمصدر رئيسي للإيراد، نجد أن الحالة الكويتية يقودها الاقتصاد الحكومي الذي يمثل أكثر من 71% من إجمالي إنتاجية الاقتصاد، وتسيطر الصادرات النفطية على 89% من إيرادات الدولة. كذلك، فإنه عالميًا تمثل الضرائب والدعوم أهم الأدوات المالية للتحكم في مستويات الإنفاق والاستثمار، أما محليًا فيغيب النظام الضريبي، ويمثل الإنفاق الحكومي على الدعوم حجمًا كبيرًا من الميزانية. من هنا تعتبر سطوة الاقتصاد النفطي الحكومي على إنتاجية الاقتصاد وغياب النظام الضريبي أهم الملامح الرئيسية التي تميز التركيبة الاقتصادية للكويت عن غيرها.
ثم أن الإفصاح الحكومي المتكرر عن الوضع المالي للدولة لا يعكس الحقيقة تمامًا، في ظل امتلاك الكويت لأحد أكبر صناديق الثروة السيادية وأقدمها.
الحسابات الحكومية لا تتضمن قيمة الأصول السيادية التي تقدر بين 150-180 مليار دينار كويتي كحد أدنى، ولا تتضمن كذلك أرباح هذه الأصول التي لا يقل معدل عائدها السنوي عن 6 مليارات دينار. إنما بالعكس، كانت الحكومة خلال الأعوام السابقة تخصم 10-25% سنويًا من الحساب العام للدولة وتحولها إلى الصندوق السيادي. هذا الشكل من التغييب الحسابي والسرية لأرقام الصندوق السيادي في الحسابات العامة فرضه قانون 1978 لإعداد وتنفيذ الميزانية العامة للدولة.
قرابين الإصلاح
نتيجة لهذا القانون، فإن أي إعلان حكومي عن عجز مالي للدولة هو «عجز محاسبي» فرضه الوعاء القانوني للحساب العام، ولا يعتبر عجزًا حقيقيًا. علمًا بأنه منذ 2016، تتفوق الإيرادات السنوية لاستثمارات الثروة السيادية على أرقام إيرادات النفط، ما يعني وجود فوائض مالية سنوية حُرم منها الحساب العام بسبب هذا القانون، وتحت دواعي تأمين مستقبل الأجيال القادمة.
عند أي نقاش حول مستقبل الاستدامة المالية للكويت، يتعرض المواطن للوم على رواتبه والدعوم الاستهلاكية المقدمة له باعتبارها سببًا للعجز المالي.
بعيدًا عن الوعاء القانوني لميزانية الدولة الذي يفرض عليها عجزًا محاسبيًا لا يعكس حقيقة الملاءة المالية، فإن أعمال الهدر والسرقات المتكررة من أهم روافد العجز المالي الحالي الذي كانت تستره فوائض الميزانية سابقًا، حتى أصيبت صفحات تقارير ديوان المحاسبة بتورُّم لهول حجم المخالفات المالية، وهذا ما يبرهن على ضعف الرقابة ومحدودية صلاحياتها، وأنها سبب رئيسي لعجز الميزانية.
فضلًا عن ذلك، هناك ضعف حيلة الحكومة في تحصيل الأرباح المحتجزة لبعض شركاتها وهيئاتها، وهو شكل آخر لضعفها الإداري والمحاسبي، إذ يسد مجموع هذه المبالغ المليارية عجز الميزانية المتراكم لسنوات، أو كان من الممكن استخدامها لتمويل مشاريع رأسمالية واستثمارية تدر منفعة اقتصادية عامة.
عند أي نقاش حول مستقبل الاستدامة المالية للكويت، يتعرض المواطن للوم على رواتبه والدعوم الاستهلاكية المقدمة له باعتبارها سببًا للعجز المالي.
ولأن «الشيطان يكمن في التفاصيل» فإن ثنايا جداول الميزانية تنبئنا بعكس ذلك. ففي حين تبلغ رواتب وعلاوات أغلبية موظفي الحكومة من أصحاب الدرجات الوظيفية العادية والمتوسطة ما يقارب 6.5 مليار دينار (29% من الميزانية)، فإن رواتب وامتيازات الفئة القليلة من الوزراء والقياديين تمثل وحدها 5% من المصروفات (1.1 مليار دينار). ورغم أن المواطن هو المستهدف من توفير دعومات الطاقة والاستهلاك، فإن مجاري الاستفادة من هذه الدعوم يذهب ثلثيها إلى القطاع الخاص، الذي يزاحم تمتع المواطن بها دون مقابل.
لهذه الأسباب، وأمام هذا الخلل الهيكلي الذي يعانيه اقتصاد الدولة من الاعتماد فقط على الإيرادات النفطية ودورانه حول فلكها، وبين ركاكة المنظومة المحاسبية والإدارية للحكومة، فإن أي محاولة للإصلاح تتطلب أفقًا اقتصاديًا يشمل كل الاعتبارات، لا تصورًا ماليًا محدود يخرجها عن عدالة توزيع الدخل والثروة. فالدولة ليست شركة مساهمة يحكمها كبار المساهمين وتبحث عن أقل الضرر، إنما هي كيان لديه موارد وشرائح سكنية، ويحكمها عقد اجتماعي يعزز من هذه الضرورة الاقتصادية ويكرس العدالة الاجتماعية كمبدأ دستوري.
لا يصح تحميل المواطنين أوزار الحكومات السالفة من فشل إصلاح هيكلة الاقتصاد وتحفيز القطاع الخاص، ولا المنطق يستوعب تقديمهم كأضاحي لمشروعات الإصلاح الفجائية الآتية من خلف سلسلة إخفاقات إدارية ورقابية ونظام محاسبي جامد.
الفجوة المضافة
تطرح الحكومة ضريبة القيمة المضافة (VAT) كمشروع مستقبلي لزيادة إيراداتها، وهو الطريق الأسهل لها، والأصعب على حالة الفرد البسيط فوق ما يعانيه سلفًا. هذا النوع من الضريبة يعتبر إحدى الضرائب غير المباشرة للصرف الاستهلاكي على السلع والخدمات. ويمثل فرض هذا النوع الضريبي توسعة لحجم مكونات الصرف الاستهلاكي للأسر، وتضييقًا على صرف إيراداتها.
القيمة المضافة هي ضريبة عامة لا تعرف غنيًا أو فقيرًا، وتطبق على ما يُصرف من الفرد دون أخذ مستوى دخله المادي بعين الاعتبار.
بزيادة أسعار السلع وما يتبعها من زيادة التضخم، تزيد ضريبة القيمة المضافة من مستويات الفجوة بين طبقات الدخل المختلفة، لكونها ضريبة تنازلية عكسية (Regressive Tax) تضع أغلب عبئها الضريبي على كاهل الفقراء ومحدودي الدخل، الذين يمثلون الشريحة الأكبر من السكان. أغلب الأبحاث العلمية بتحليلاتها الكَمية أثبتت اقتران ضريبة القيمة المضافة بزيادة مستويات الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. فعلى سبيل التجربة، تأخذ الضريبة المضافة 15% من إجمالي مصروفات الأسر في بريطانيا، وما يصرفه الفقراء عليها أعلى نسبيًا مما يصرفه الأغنياء هناك.
تحويل تطبيق ضريبة القيمة المضافة من تنازلية لا تفرق بمسطرتها بين فقير أو غني إلى ضريبة تصاعدية (Progressive Tax)، من شأنه تحقيق بعض التوازن الطبقي في حالة فرضها على السلع المرنة (Elastic Goods)، كالمقتنيات باهظة الثمن التي لا تشكل مكونًا رئيسيًا لمتوسط الإنفاق الاستهلاكي للأسر. أما تطبيقها ولو على جزء من المنتجات غير المرنة أو التي تشكل أساسيات إنفاق الأسر، فسيكون له أثر باهظ الثمن ومختلِف الأوجه على حال المجتمع.
إحياء النظام الضريبي الكويتي
من المغالطات الشائعة اعتبار التطرق لفرض الضرائب من المحظورات الاقتصادية في الكويت، أو تصنيفه تحت بند «العادات الدخيلة». هذا الهاجس المجتمعي من الضريبة نتج عن التسويق المتكرر بأنها تضر بسطاء الدخل، لكنها في الواقع تزيد من عدالة دخله، وتنهي الغيبة المنتظرة لتأثير «روبن هود» من أجل ردم الفجوة الطبقية.
العودة للتاريخ تنبئنا بخلاف ذلك، فبداية تطبيق الضريبة في الكويت اقترن بنشأتها عندما فرض الحاكم في 1790 الضريبة بالجمركية، وتلتها بعد ذلك ضرائب أخرى كالمتعلقة بالغوص والدكاكين. سجل عام 1896 بداية التوسع الضريبي في الكويت مع قدوم مبارك الكبير للحكم، والذي طور النظام الضريبي لتغطية نفقات نشاطه الحربي والخدمات العامة، عبر استحداث ضرائب مباشرة مختلفة الأنواع مثل ضريبة العقار، التي تعتبر الأولى من نوعها على مستوى البلاد العربية في 1907. ومع قدوم الخمسينيات ووصول المد النفطي مع فوائضه المالية الضخمة، اختفت الهياكل الضريبة المباشرة منذ ذلك الحين بانتفاء الحاجة منها.
يجسد غياب النظام الضريبي أبرز مظاهر اختلال الاقتصاد الكويتي وعجز الميزانية المتراكم، ويمثل هذا الغياب سببًا رئيسيًا في ارتفاع مستويات فجوات الدخل والثروة بين طبقات المجتمع. في حين تعتبر إيرادات الضرائب المصدر الرئيسي لميزانية أغلب دول العالم، فإنها تمثل في الحالة الكويتية 3% من الإيرادات، ما يجعل الكويت «واحة ضريبية» للأثرياء وأصحاب الدخل العالي لاختفاء الضرائب المباشرة. من أشد مظاهر هذا الاختلال انعدام وجود ضرائب مباشرة على أرباح الشركات المحلية المدرجة في البورصة، واقتصار وجوب دفعها على رسوم وضرائب غير مباشرة لا تتعدى 4.5%. في المقابل، يجبر القانون الشركات الأجنبية على دفع ضريبة مباشرة 15% على أرباح أعمالها السنوية.
إعادة توزيع الثروة: من الأغنياء إلى الفقراء
يمثل هذا التمييز بين كيانات الشركات المحلية والأجنبية فقدانًا للعدالة الضريبية وعاملًا منفرًا للمستثمر الأجنبي، لأنه رغم قلة أعداد الشركات الأجنبية ومحدودية أرباحها، فإن ما تدفعه يمثل ثلثي الإيرادات الضريبية للحكومة، ويبقى الثلث الأخير للشركات المحلية.
إزاء هذا الاعوجاج، تقترح وثيقة الإصلاح الحكومية فرض ضريبة موحدة بنسبة 10% على أرباح جميع الشركات المدرجة في البورصة، مع إقرار ضريبة على أصحاب الدخل المرتفع. وتحظى هذه المقترحات بتأييد من صندوق النقد، الذي يدعو في كل تقاريره عن الكويت إلى نظام ضريبي عادل اجتماعيًا ويساوي بين المستثمرين، بغرض تحقيق أهداف الاستدامة الاقتصادية.
العائد وراء اتساع حجم العبء الضريبي على دخل الأثرياء وأرباح الشركات لا يتمثل فقط في زيادة حجم الإيرادات الضريبة، إنما يرسم سياسة لإعادة توزيع الدخل من الأغنياء إلى الفقراء، تكون داعمة لاستمرار ديمومة الحكومة في تغطيتها لمصروفات المنافع الاجتماعية والدعومات الموجهة لشريحتي محدودي الدخل والطبقة المتوسطة، بدلًا من التلويح الدائم بتقنينها. إذ سيشكل تقنين الحكومة لبرامج الضمان الاجتماعي والدعومات ردة في مستويات عدالة توزيع الدخل، لأن الارتفاع الواضح في مستويات تقليص الفجوة الاجتماعية في الثمانينات كان نتاجًا لسياسة دعم الشرائح الفقيرة والمتوسطة، التي بدأت خلال فترة الانتعاش النفطي في السبعينيات.
مؤخرًا، أُشبعت مسألة الدين العام في الكويت جدلًا ما بين الحجة والحاجة لها، ولكن سقطت سهوًا مناقشة أثرها على العدالة الاجتماعية.
للتدليل أكثر على ذك، تطرح التجربة البريطانية نفسها كمثال مهم في مجال العدالة الاجتماعية للنظام الضريبي، لمرورها بمنعطفات انتقالية خلال حقبتين من الزمن. أفضت سياسات رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر منذ نهاية السبعينيات إلى التسعينيات إلى زيادة لافتة للنظر في مستويات نمو الطبقية بالمجتمع البريطاني وصلت إلى 47%، نتيجة لخفضها الأعباء الضريبية على التجار بالتزامن مع انخفاض الإنفاق على المساعدات الاجتماعية.
لكن هذا الحال تغير دراماتيكيًا مع استلام حزب العمال لقيادة الحكومة منذ عهد توني بلير في أواخر التسعينيات حتى 2010، إذ ازداد الإنفاق على المساعدات الاجتماعية أكثر من ذي قبل، واستُحدث نظام ضريبي تصاعدي وموَسع على أصحاب الدخل العالي، فكان لهذه السياسات الأثر الملموس على مجريات العدالة الاجتماعية بانخفاض الفجوة الطبقية إلى 35%.
الدين العام: كل مواطن مديون
مؤخرًا، أُشبعت مسألة الدين العام في الكويت جدلًا ما بين الحجة والحاجة لها، ولكن سقطت سهوًا مناقشة أثرها على العدالة الاجتماعية مثلما جرت العادة في كل النقاشات.
هبوط أسعار النفط الذي اقترن مؤخرًا بتداعيات جائحة كورونا عمل على تشكيل ضائقة على الملاءة المالية للدولة، التي يرسمها الحساب العام الذي سبق شرحه أعلاه. هذه الحالة حدت بالحكومة إلى تقديمها لمشروع قانون «الدين العام»، والذي يسمح لها بالاقتراض من الأسواق المحلية والعالمية للوفاء بسداد مصروفاتها المستقبلية وفق إطار الحساب العام دون إحداث عجز مالي فيه.
خيار الاستدانة يمثل اتجاه أغلب الدول في حالات العجز كحل تمويلي للمدى المتوسط، وهبوط أسعار الفائدة العالمية إلى مستويات تاريخية ومغرية في هذا الوقت يمثل مسوغًا للاتجاه الحكومي نحو الاستدانة، لكن لهذا القرار تبعاته الطويلة على المواطنين في الحالة الكويتية خصوصًا.
كيف ستحافظ الحكومة على استدامة الدين العام وتقليل مخاطره؟ وعلى حساب من؟ هذه الأسئلة لها أجوبة فورية في أغلب نماذج الدول المقترضة التي تختلف تركيبتها الاقتصادية عن نظيرها الكويتي المُعتل.
إن التوجه نحو الدين السيادي يتطلب حزمة من الإجراءات لضمان استدامته، بوجود بيئة خالية من الفساد بحوكمة حصيفة، إذ ترتكز استدامة الدين العام إما على خفض الإنفاق الحكومي أو رفع الضرائب، وهذا ما لا نراه في النموذج الكويتي بشكله الحالي، وإن حصل قد نرى ما لا تحمد عقباه.
التوجه الحكومي نحو الاستدانة بمبلغ 20 مليار دينار يعني تعميم الدين ومخاطره على الجميع، إذ سيبلغ نصيب كل فرد من هذا الدين 14 ألف دينار. وتتجلى المخاطرة بالدين العام في أنها تأتي على حساب المصروفات الحكومية في ظل غياب الضرائب، ويعني هذا إما تقليل الإنفاق الاستثماري أو تخفيض أجور العاملين ومصاريف المنافع الاجتماعية والاستهلاكية.
تقليل الإنفاق الاستثماري سيصل ضرره الكلي إلى خفض معدلات النمو الاقتصادي وجودة الخدمات العامة. أما سيناريو تخفيض مصروفات العاملين والدعومات عند الاستدانة فيفضي إلى أن يكون المواطن الضحية الأكبر للدين العام، وسيجر ذلك الفجوة الاجتماعية إلى مراحل أعمق مما هي عليه الآن بدلًا من ردمها.
يدلل كثير من المحللين على خطوة النرويج الأخيرة نحو الاقتراض ويقارنها بوضع الكويت كمسوغ لإقرار قانون الدين العام. هذا النوع من التحليل المقارن ملائم للخطوط العامة للنموذجين النرويجي والكويتي، لكن يسقط ضمنيًا لتنافره عن الواقع الاقتصادي لعدة حقائق.
صحيح أن الصناعة النفطية ووجود صندوق سيادي هما الجامع المشترك بين النرويج والكويت، لكن الاختلاف الجوهري يكمن في استخدام النرويج لعوائد النفط كأداة لتمويل صندوقها السيادي وميزانيتها العامة، تقوم على إيرادات الضرائب التي تمثل خمسي ناتجها القومي، والقانون هناك يسمح للحكومة سنويًا باستقطاع 4% من الصندوق السيادي لتمويل عجز الميزانية. والأهم من هذا وذاك أن مستويات العدالة في توزيع الدخل بالنرويج هي الأعلى في العالم.
النموذج الكويتي بعكس النرويج تمامًا، فمعدلات الفجوة الاجتماعية في الدخل والثروة تتزايد كل عام وتقترب من المنطقة الحمراء. وغير ذلك، عوائد النفط هي المهيمن الرئيسي على الإيرادات، والقاعدة الضريبة غائبة ولا تمثل إلا 1.5% من الناتج المحلي، والأصول السيادية بأرباحها مقدسة ولا تُمس وفق القانون. يتضح من ذلك أن النرويج لجأت إلى الدين العام بعد استنفاد كل وسائلها المالية في ظل بيئة تعزز عدالة توزيع الثروة، أما الحالة الكويتية فأشبه بالهرولة نحو الاستدانة من دون التدرج التمويلي، أو حتى مراعاة تدني العدالة الاجتماعية فيها.
قبل فوات الأوان
اصطحبت جائحة كورونا معها أهمية التزود بالدراسات العلمية بسبل محاصرة الوباء وحماية الأرواح لدى صناع القرار، وهكذا هو الحال الذي يستوجب التعامل معه بالمسائل الاقتصادية، فنظريات علم الإقتصاد وتطبيقاته ترتهن مصداقيتها بتحليل عملي مبني على أسس علمية. من هذا الأساس، تداعى العديد من أكاديميي العلوم الإدارية على إطلاق رؤية اقتصادية بعنوان «قبل فوات الأوان».
قدمت رؤية «قبل فوات الأوان» حُقنًا غير تقليدية لمكامن الاعتلال في الجسد الاقتصادي المحلي، من أهمها الاسترشاد بالدليل العلمي وربط مسألة العدالة الاجتماعية بالقرار الاقتصادي. إذ دائمًا ما تكون الاجتهادات الحكومية في الملف الاقتصادي بعيدة عن سياق العدالة الاجتماعية ومن دون بحث علمي، فلا يستقيم أن يأتي الإصلاح من استشارات أجنبية بعيدة عن دهاليز الواقع المحلي وأشبه بنسخ كربونية. ولا يصح رسم البرامج الاقتصادية في «جلسات الشاي»، وتجاهل القياس الاقتصادي المبني على طرق علمية وكمية.
اقتصاديات العالم الحديث قائمة على الرأسمال البشري. وعليه، يعتبر ضمان ديمومة الرفاه الاجتماعي وردم الفجوة الطبقية مطالبة عاجلة في أي إصلاح قادم، قبل أن يصل «الموس على كل الرؤوس» ويسحق في جريرته الفقير قبل الغني.