«كمصورة صحفية غطت أفغانستان لعقدين، رأيت كيف حاربت النساء بضراوة ﻷجل حرياتهن، وكيف كسبن، والآن هن على وشك خسارة كل شيء» - لينزي أداريو، مصورة صحفية حائزة على جائزة البوليتزر ومؤلفة كتاب «عن الحب والحرب».
عادت طالبان إلى حكم أفغانستان بعد 20 عامًا من الغزو الأمريكي للبلاد، وأعلنت الحركة نهاية الحرب بعد مغادرة الرئيس أشرف غني البلاد ودخول جنودها العاصمة كابول.
وبحسب ما تؤكده أداريو في مقالها المنشور بمجلة ذي أتلانتك، فإن المكتسبات التي جنتها المرأة الأفغانية منذ 2001 على صعيد التعليم والعمل والتمثيل السياسي، باتت تواجه مستقبلًا مجهولًا بعد عودة طالبان إلى شوارع المدن الأفغانية.
باركزاي ذات الطلاء الأحمر
في صباح أحد أيام صيف 1999، استيقظت شكرية باركزاي تشعر بالدوار والحمى. وبالنظر إلى أنها كانت تحت حكم طالبان في ذاك الوقت، فقد كانت بحاجة إلى محرم، ذكر قوَّام، ﻷجل مغادرة المنزل وزيارة الطبيب. كان زوجها في العمل، وليس لديها أولاد، لذا حلقت رأس طفلتها ذات العامين، وألبستها ملابس الصبيان كي يُعتقد أنها محرمها، وانسلت في البرقع مخفيةً في طياته أطراف أناملها، المطلية بالأحمر في مخالفة لحظر طالبان طلاء الأظافر.
طلبت من جارتها أن تسير معها إلى الطبيب وسط كابول. ونحو الساعة الرابعة والنصف مساء غادرت عيادة الطبيب ومعها وصفة طبية. كانتا في طريقهما إلى الصيدلية عندما توقفت مركبة محملة بالمسلحين من وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جانبهما. عادة ما كان رجال طالبان يقودون شاحنات نقل في أنحاء كابول، يبحثون عن أفغان كي يهينوهم علانية ويعاقبوهم على انتهاك العرف الأخلاقي.
قفز الرجال من الشاحنة وبدأوا في جلد باركزاي بكابل مطاطي حتى وقعت، فاستمروا في جلدها. وعندما انتهوا، وقفت، وهي تبكي. كانت مصدومة ومهانة. لم تكن قد تعرضت للضرب من قبل أبدًا.
تشير أداريو إلى أن باركزاي تعزي حياتها كناشطة إلى هذه اللحظة، فقبل أن تسقط العاصمة الأفغانية في براثن الحرب الأهلية عام 1992، كانت باركزاي تدرس الأرصاد الجوية المائية وفيزياء الأرض في جامعة كابول، عندما خرجت طالبان منتصرة في 1996، وقد كانت ميليشيا حديثة نسبيًا حينها، وأجبرت النساء على ترك الدراسة.
ومع تعافي باركزاي من الضرب، اتخذت قرارًا: ستنظم فصولًا سرية للفتيات في مجمع سكني واسع حيث كانت تعيش وعائلتها، والذي يسكنه نحو 45 أسرة. لاحقًا، ستساعد باركزاي في صياغة دستور أفغانستان، وتخدم لفترتين في البرلمان.
طالبان تطبق تفسيرها للشريعة
تروي المصورة الصحفية في مقالها أنها كانت في السادسة والعشرين من عمرها حين ذهبت لأول مرة إلى أفغانستان في مايو 2000، بعد أن كانت تعيش في الهند وتغطي القضايا النسائية في جنوب آسيا كمصورة صحفية، وكان لديها فضول لمعرفة كيف تعيش النساء تحت حكم طالبان.
كانت أفغانستان حينها تخرج من نزاع ضاري استمر 20 عامًا، أولًا الاحتلال السوفييتي، ثم الحرب الأهلية الطويلة التي غربلت كابول وجعلت القليل من البنية التحتية صالحًا.
تقول أداريو إنه في أواسط التسعينيات، تعهدت طالبان بوضع نهاية للعنف الدائر، والكثير من الأفغان، المنهكون من سنوات الاضطراب والدمار المستمر، لم يقاوموا الجماعة الأصولية الإسلامية، غير أن السلام جاء على حساب الكثير من الحريات الاجتماعية والسياسية والدينية.
تتذكر أنه مع زيارتها الأولى كانت طالبان قد طبقت تفسيرها للشريعة، أو القانون الإسلامي، بتحريم تعليم النساء والفتيات تحت معظم الظروف، وعدم السماح لهن (باستثناء مختارات، طبيبات حظين بالموافقة) بالعمل خارج المنزل أو حتى مغادرته دون محرم، وإلزام الخارجات منهن بارتداء البرقع.
حظرت الحركة كذلك كل سبل الترفيه على الجميع: الموسيقى، التلفزيون، التعامل الاجتماعي بين الجنسين خارج نطاق الأسرة. معظم الأفغان المتعلمين فروا إلى الجارة باكستان وأماكن أخرى، ومن بقي غيروا حياتهم كي تتلاءم مع تعليمات النظام القمعي.
تقول لينزي أداريو إنها كامرأة أمريكية عزباء، كانت في حاجة ﻷن تجد طريقًا للتحرك في أنحاء أفغانستان مع زوج مزيف، من أجل التقاط الصور دون اكتشافها، مضيفة أن تصوير أي شيء حي كان محرمًا تحت حكم طالبان. تواصلت لينزي مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي كانت إحدى المنظمات الدولية القليلة التي لا تزال تعمل في أفغانستان، ومع البرنامج الشامل للمعوقين في أفغانستان، وهو وكالة تابعة للأمم المتحدة لإعادة تأهيل المصابين من الألغام الأرضية المنتشرة في البلاد.
رتبت أداريو مع المجموعات كي يرافقها رجال، إلى جانب سائقين ومترجمين، عبر محافظات غزنة ولوجار ووردك وننكرهار وهراة وكابول، لكي تصور وتجري لقاءات خلسة مع النساء الأفغانيات. وسريعًا ما أدركت ميزة أن تكون مصورة صحفية، فبرغم التحديات، كان لديها حرية النفاذ إلى النساء في مساحات ممنوعة على الرجال، سواء ثقافيًا أو شرعيًا.
بين مايو 2000 ومارس 2001، وعلى مدار ثلاث رحلات منفصلة، سافرت لينزي وزارت المنازل الخاصة، ومستشفيات النساء، والمدارس السرية للفتيات، وحضرت أعراس مختلطة سرية تتردد فيها موسيقى فيلم تيتانيك بين الجدران الإسمنتية للأقبية، بينما الرجال يرقصون مع النساء ذوات الزينة الكثيفة وطلاء الأظافر في بهجة صافية كما تصفهم، في متعة بسيطة كانت تعاقب بالإعدام تحت النظام الذي يتحكم في الشوارع بالخارج.
كانت حركة طالبان قد صرحت بعد سيطرتها على البلاد بأنها ستسمح للنساء بالعمل «في إطار احترام مبادئ الإسلام». وذلك رغم أنه حين سألت منظمة مراسلون بلا حدود ذبيح الله مجاهد المتحدث باسم الحركة، عن مصير الصحفيات، قال إن «المجتمع الأفغاني مسلم كما تعلم، ولأجل إرساء القواعد والأحكام الدينية، عانينا من وقوع كثير من القتلى. والصحفيات مسلمات أيضًا، لذلك سننشئ إطارًا قانونيًا يختص بالملابس، حتى لا يتعرضن للمضايقة في الشوارع أو أماكن العمل. لكن حتى كتابة هذه النصوص، أسألهن أن يبقين في المنزل دون توتر أو خوف، وأوكد لهن أنهن سيرجعن إلى وظائفهن».
كان مجاهد قد أعلن في 2019 أن الحركة «ليست ضد عمل المرأة في المنظمات الحكومية أو ضد أنشطتها الخارجية، لكننا سنكون ضد ملابس الثقافة الأجنبية التي ترتديها النساء، والتي دخلت بلادنا».
وإبان حكم طالبان 1996-2001، كانت النساء تعاني من قيود على حرية التنقل وممارسة الحقوق السياسية ومتابعة التعليم، بالإضافة إلى إجبار القاصرات على الزواج.
صمت تحت حكم طالبان
تقول أداريو إن صمت الحياة تحت طالبان هو أكثر ما ظل معها أكثر من شيء آخر. كانت هناك سيارات قليلة، لا موسيقى، لا تلفزيونات، لا هواتف، لا محادثات عابرة على جوانب الطرقات. الشوارع المتربة كانت مزدحمة بالأرامل اللاتي فقدن أزواجهن في الحرب المطولة، ممنوعات من العمل، وسيلتهن الوحيدة للعيش هي التسول.
«أشرطة كاسيت بنية لامعة ترفرف على الأشجار والأسلاك واللافتات والأعمدة في كل مكان، تحذيرًا لهؤلاء الذين يجرؤون على تشغيل الموسيقى سرًا».
وتتابع القول إن المباريات التي كان استاد غازي يستضيفها حل محلها الإعدامات العلنية في أيام الجمعة بعد الصلاة، واستخدم مسؤولو طالبان الروافع أو الدبابات لهدم الحوائط على الرجال المتهمين بالمثلية، وقطعوا أيدي من يسرق، ورجموا المتهمين بالزنا حتى الموت.
عزيمة وأمل
تحكي أداريو أنها خلال تلك الرحلات شهدت قوة وعزيمة النساء الأفغانيات. وتقول إنها عادة ما كانت تسأل نفسها: ماذا ستصبح أفغانستان لو سقطت طالبان؟ تخيلت ما إذا كان الرجال والنساء الذين قدموا لها تلك الضيافة الكريمة، والمزاح، والقوة، سوف يزدهرون، وأن الأفغان الذين فروا من بلادهم سيكونون أخيرا قادرين على العودة إلى الديار.
«بعد شهور من هجمات 11 سبتمبر 2001، وبعد الغزو الأمريكي لأفغانستان، سقطت طالبان، وسريعًا ما أثبتت النساء أنه لا غنى عنهن في العمل لإعادة بناء البلاد وإدارتها».
تصف المصورة أنه كانت هناك دفعة كبيرة من التفاؤل والعزيمة والإيمان بتطوير أفغانستان ومستقبلها، لكنها تضيف أنه حتى مع اختفاء طالبان في نسيج المدن والقرى، بقي الكثير من قيمهم المحافظة ذات الجذور العميقة في المجتمع الأفغاني.
وتذكر أنها صورت هزيمة طالبان في قندهار أواخر 2001، وعادت إلى البلاد بكاميرتها على الأقل عشر مرات في العقدين التاليين. من كابول إلى قندهار إلى هراة إلى بدخشان، صورت النساء اللاتي يرتدن المدارس ويتخرجن في الجامعات، ويتدربن كجراحات، ويعملن قابلات وطبيبات للتوليد، ويترشحن للبرلمان ويخدمن في الحكومة، ويقدن السيارات، ويتدربن حتى يصبحن ضابطات شرطة، ويمثلن في الأفلام، ويعملن صحفيات، ومترجمات، ومذيعات، وفي المنظمات الدولية.
من اللاتي قابلتهن أداريو في رحلاتها كانت مانيزا نادري، إحدى مؤسسات منظمة نساء من أجل النساء الأفغانيات، والتي ساعدت على مدار أكثر من عقد على تأسيس شبكة من الملاجئ وخدمات الوساطة الأسرية والمساعدة القانونية للنساء الأفغانيات اللاتي تعانين من مشاكل أسرية، وكن ضحايا للإيذاء، أو دخلن السجن دون تمثيل قانوني. تعيش نادري حاليًا مع عائلتها في نيويورك، وتقول أداريو إنها سألتها عما إذا كانت تظن أن الأمور قد تحسنت بالنسبة للنساء الأفغانيات على مدار العقدين الماضيين: «قطعًا»، هكذا أجابت نادري.
ثم أضافت: «قبل أن تغزو الولايات المتحدة أفغانستان، لم يكن هناك شيء، لا بنية تحتية، لا منظومة قانونية، لا نظام تعليمي، لم يكن هناك شيء. وفي العشرين عامًا الأخيرة، كل شيء أعيد بناؤه في البلاد، من التعليم، إلى المنظومة القانونية، إلى الاجتماعية، وإلى الاقتصاد. كسبت النساء كل شيء. وليس فقط النساء، بل الأفغان في العموم كسبوا الكثير».
والآن، تخشى أداريو أن هذه المكتسبات قد تتبدد. فمؤخرًا، ومع انسحاب الجيش الأمريكي، استولت طالبان على كل مدينة كبرى تقريبا في البلاد، واجتاحت قواتها كابول، وفر الرئيس الأفغاني أشرف غني من البلاد.
«لست خائفة من الاغتيال.. أخاف أن تسقط البلاد إلى الفوضى مجددًا»
فوزية كوفي، امرأة أخرى عرفتها أداريو في أفغانستان، وتقول إنها كرست حياتها لبلادها منذ صعود طالبان إلى السلطة في 1996، وإنها أيضًا كانت قد بدأت شبكة سرية لتعليم الفتيات في التسعينيات، في محافظتها بدخشان. كانت كوفي عضوة في البرلمان منذ 2005 إلى 2019، وكانت واحدة من ممثلي الجمهورية الأفغانية في مفاوضات السلام مع طالبان قبيل مغادرة القوات الأمريكية البلاد.
تشكك كوفي في وعود الجماعة بالسماح للنساء الأفغانيات بحرية التعليم والدراسة خارج المنزل.
تتذكر أداريو أول مرة قابلتها في 2009، كانت كوفي وقتها تدور في أنحاء كابول، تتبعها مجموعة من المستشارين والحراس، إذ كانت عائدة إلى منزلها بعد أيام طويلة في البرلمان إلى صف من الناخبين على عتبات بابها، يلتمسون أن تسمع أصواتهم بشأن العديد من المشاكل. كما أنها تربي ابنتيها وحدها، فقد توفي زوجها بمرض السل في 2003، إثر إصابته به حين كان محبوسًا من قبل طالبان.
لا يبدو على كوفي أنها تتوقف أو تتعب أبدًا، كما تصفها أداريو. وقد حاولت طالبان اغتيالها مرتين. ودائمًا ما تحمل معها رسالة مكتوبة بخط اليد إلى ابنتيها، احترازًا.
حين هاتفتها قبل أسابيع في كابول، كانت طالبان تكسب أرضًا في أنحاء البلاد. تشكك كوفي في وعود الجماعة بالسماح للنساء الأفغانيات بحرية التعليم والدراسة خارج المنزل، مشيرة إلى وجود انفصال كامل بين ما يقوله مسؤولو طالبان خلال المفاوضات في قطر، وبين انتهاكات حقوق الإنسان. وعندما سألت أداريو كوفي عما إذا كانت خائفة، قالت: «صراحة، لست خائفة من الاغتيال، بل أخاف أن تسقط البلاد إلى الفوضى مجددًا».
«لا أعرف الإجابة»
في نهاية الأسبوع الماضي، ومع تطويق طالبان لكابول، سألت أداريو كوفي عما إذا كانت قد غادرت. كانت كوفي قد فرت من منزلها في أفغانستان وتختبئ الآن. تقول سائلة أداريو: «لا أحد يساعد، هل يمكنك الحديث مع الأمريكان؟». ليست كوفي فحسب، فأداريو تتلقى رسائل على واتساب يوميًا من مترجمات سابقات وممن التقتهن، يعربن عن الخوف ويطلبن الخروج من أفغانستان.
«لا يمكنني الإجابة، لا أعرف أين يمكنكِ الذهاب، لا أظن أن أمريكا ستساعد بعد الآن. لا أظن أنهم سيعطوكِ أو أخيك أو سائقي السابق منذ 11 عامًا فيزا للسفر، لا أعرف ماذا سيحدث للنساء في أفغانستان»، هذا ما تقوله أداريو.
«كل ما أعرفه أن النساء اللاتي قابلتهن على مدار تلك السنوات العشرين الماضية قد أذهلنني بعزمهن وفطنتهن، وجعلنني أنهار ضحكًا وبكاء».
جيل جديد من النساء الأفغانيات
تتذكر المصورة الصحفية وقت الأصيل المنعش في كابول عام 2010، عندما كانت في سيارة مع ممثلة أفغانية. «وجهها جميل بكامل الزينة، وشعرها مكشوف، وتشغل موسيقى إيرانية وترقص بيديها على عجلة القيادة. ثم تقود إلى نقطة تفتيش، حشد من البراقع، ورجال مشدوهون متهكمون. ضحكتْ وضحكتُ، وفكرت في المراحل التي قطعتها النساء الأفغانيات».
في رأيها، لا يمكن لطالبان أن تأخذ من النساء الأفغانيات ما حققنه خلال العشرين عامًا الماضية: تعليمهن، وقيادتهن، وتذوقهن للحرية. تشير لينزي كذلك إلى أن هناك جيل جديد من النساء الأفغانيات اليوم، نساء لا يتذكرن كيف كان الأمر تحت حكم طالبان: «مليئات بالطاقة والأمل والأحلام»، كما تخبرها شكرية باركزاي: «لسن مثلي، كما كنت قبل 20 عامًا، إنهن أكثر يقظة ويتواصلن مع العالم. هذه ليست أفغانستان التي أحرقتها الحرب الأهلية، إنها أفغانستان الحرة، ذات إعلام ونساء حرائر». وتضيف: «طالبان تأخذ الأراضي، لا قلوب الناس وعقولهم».