من جحيم الحرب الأهلية في سوريا هرب، ترك أهله خلفه يبغي إعداد حياة لهم في بلد يعاملهم كآدميين، وليس مجرد أرقام تلقى حتفها كل ساعة في نشرة الأخبار. حين حكى لـ«منشور» حكايته، فضَّل ألا يستخدم اسمه خوفًا على عائلته، التي لا تزال في سوريا، من الانتقام، لكنه لم يدَّخر وسعًا في رواية تفاصيل رحلته..
رحلة الخوف
يتباهى ذلك الأحدهم بصوره عند برج إيفل في فرنسا، أو حديقة أمستردام الوطنية، أو جبال السويد المكسوة بالثلوج، التي كانت حلمًا لا تشاهده إلا على شاشة التليفزيون، أو عند بوابة النصر في برلين، فيبدأ شعور البحث عن حلٍّ ينقذك أنت وأسرتك الصغيرة، علمًا أنك قبل الحرب في سوريا كنت تتباهى بأنك لن تغادرها أبدًا، فرزقك موفور وحياتك بخير وعملك يسير على قدم وساق.
تبدأ الرحلة مع ساعات الفجر الأولى وأنت صائم، هذا اليوم يصادف التاسع من رمضان، تركب مع سائق تاكسي يعمل على نقل المسافرين من الحدود السورية-التركية وإليها، وفي وسط الطريق تجد عسكريًّا من الجيش السوري يقف، يشير إليك ويقول:
– توقف يا أخي، دوِّر سيارتك وارجع.
– لماذا، كفى الله الشر؟
– هناك هجوم على أول حاجز من حواجزنا من المسلحين الإرهابيين، وهم يقصفوننا بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة.
تطلب من السائق أن يعود إلى الاستراحة قبل مئة متر وينتظر ريثما ينتهي الاشتباك. كان هناك ما يدفعني إلى العودة إلى البيت حيث غادرت عائلتي مُكرهًا، ولم يتسنَّ لي توديع أطفالي لأنهم كانوا نائمين، ودَّعت فقط زوجتي التي امتزجت مع دموعها ابتسامة أمل. ساعات قليلة وتهدأ حدة الاشتباكات ويخرج الضابط ليقول: «تحرك يا أخي وتابع سيرك بالسلامة»، فيتجدد الأمل والتفاؤل.
دقائق قليلة بعد أن تقطع الحاجز الأخير في اتجاه الحدود التركية ويأتي الصوت: «توقف». تشاهد سيارات دفع رباعي تحمل رشاشات ثقيلة وراءها ملثمون: «أهلًا بك، أنت في حدود الدولة الإسلامية». بضع دقائق ويبدأ رمي المدفعية من الجيش السوري، ويصرخ السائق: «الله يسترنا، شوف يا أخي، بمجرد ما أعد للعشرة ننزل من السيارة أنا وأنت ونركض إلى جهة الغرب ونختبئ وراء الساتر».
الحقيقة أنني لم أشعر بأي خوف أو توتر، كنت مطمئنًّا بسبب دعوات والدتي وصلاة الاستخارة التي أديتها قبل يوم. يُفتح الطريق فجأة ونتابع السير، ساعات أخرى وحاجز جديد، «توقف»، إنه حاجز تنظيم «جبهة النصرة» و«أحرار الشام». تفتيش دقيق ثم تتابع السيارة طريقها. ساعات أخرى ويبرز الأمر من جديد: «توقف»، إنه حاجز «الجيش الحر».
17 ساعة من السفر المتواصل حتى تصل إلى الحدود التركية، ويصرخ «الجندرمة» التركي: «قف»، ويقول صاحب السيارة: «أخي العزيز، إلى هنا وتنتهي مهمتي»، فتعطيه الأجرة ويعود إلى حيث أتى بينما تعبر أنت الحدود التركية لتصبح..
مجرد «نفر» لا قيمة لك
عند الحدود التركية، تبدأ المرحلة الأولى من مراحل الذل والمهانة: شتم وضرب، كبار وصغار وعجائز وأطفال. للأسف هم أبناء جلدتنا المتعاملون مع «الجندرمة» التركية، أو بالأحرى أوباش وقاذورات من أبناء وطني يرتدون لباسًا عسكريًّا مموهًا ويضعون عِصابات على رؤوسهم. تدخل الأراضي التركية بعد أن تكون قد شبعت لكزًا ونهرًا، وبعد صلوات ودعاء كي لا تُقفل الحدود عند الساعة الرابعة، لأنك ستضطر إلى قضاء ليلتك في العراء حتى اليوم التالي.
تبدأ الرحلة الثانية من الأراضي التركية إلى مناطق التهريب، وأشهرها إزمير، وعندما تصل إلى منطقة بودروم تتصل بالمهرِّب أبو ناصر، وهو فلسطيني مشهور يُقال إنه اتخذ مهنة الاتجار بالبشر أبًا عن جد. تؤمِّن المبلغ المتفق عليه في مكتب يدَّعي أنه طرف ثالث، لكن في قضايا كهذه لا يوجد شيء اسمه شرف أو أمانة أو إيمان، فأنت ونقودك قشة في مهب الريح.
في منطقة التهريب توجد فنادق خمس نجوم و«بنسيونات» مقرفة، تتذكر عندما تشم رائحة غرفها مسلسل «ريا وسكينة» المصري.
أنت الآن مجرد نفر لا قيمة لك، وعليك أن تدفع ثمن نومك وتتحمل مصروفك حتى تحين ساعة الانطلاق. يومان فقط على الماء وحر الصيف يمزق أحشاءك، فتدعو الله أن يحين موعد الإفطار كي تتناول أول وجبة خلال ثلاثة أيام سفر. كنت تفكر في الأجر من الله لذلك لم تفطر، علمًا بأن الإفطار مباح في السفر.
تسعة أيام بلياليها وأنت تستمع إلى قصص تقشعر لها الأبدان عن أحوال الهاربين (النفرات) والمهربين، وقصص النصب والاحتيال.
فتاة تصرخ:
– عمو أبو بشر.
– خير يا أختي؟
– صاحب «البنسيون» حاول اقتحام غرفتي.
كانت فتاة فلسطينية من مخيم اليرموك، دفعتها المغامرة ذاتها إلى البحث عن الأمل المنشود في أوروبا. الخلاصة: لقد وقعتَ في أول شِرْكٍ من أشراك العنكبوت، وتتساءل: «لماذا أُساق وأنا المدرس الجامعي والمحاضر في أفضل جامعات القُطر كما تساق النعجة إلى الذبح؟ لِمَ لا أرجع إلى بلدي؟».
يرِدُكَ اتصال من العائلة: «اصمد، عليك الأمل معقود». عند أذان المغرب يتوجه الشباب السوريون إلى مطاعم سياحية لتناول الطعام، فلقد حان موعد الإفطار، وعند أول لقمة يأتيك اتصال هاتفي: «شباب، جهزوا حالكم».
هناك رحلة تتسع لسِتِّ أشخاص فقط وهم من دفعوا نقودًا أكثر، وتحمد الله أنك كنتَ واحدًا منهم (2500 يورو، رحلة خمس نجوم، زورق سريع من الضفة إلى الضفة). تنوي الصيام حتى اليوم التالي، ولا تعرف إن كنت ستفطر باليونان أو أنك ستغرق وتكون فطورًا للأسماك، لكنك تركب أنت وأصدقاؤك العشرة.
– اتفقنا على أساس ستة.
– اخرس مالك شغل، المركب لا يتسع لحمولة شخصين فقط.
تصمت مُرغمًا، فأنت في النهاية تختلف عن غيرك، أنت..
لاجئ خمس نجوم
تقرر أن تغفو وأنت تقرأ الآية الكريمة: «ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ»، ثم يأتيك صوت سائق المركب ينادي: «يالله، شبك شبك»، أي اقفز من المركب.
الشاطئ يبعد نحو مئة متر لكنك اتخذت استعداداتك، فأنت ومن معك «نفرات» خمس نجوم سُمح لكم باصطحاب عدة إنقاذ (Life Jacket)، على خلاف غيرك ممَّن قضى نحبه لأنه مُنع من شراء عدة الإنقاذ حتى لا تزيد الحمولة.
تصل إلى إحدى الجزر اليونانية وأنت مبلل بالماء وقد فقدت هاتفك المحمول في البحر رغم كل إجراءات الأمان. دائمًا غلطة الشاطر بعشرة كما يُقال. تطلب من أحد الأصدقاء أن يتصل بزوجتك ويخبرها أنك وصلت إلى اليونان، فيعتذر ويقول: «يا أخي فاضي الشحن، وبدِّي أحكي مع أسرتي أولًا، وإذا زاد شحن تتصل بأسرتك»، لكنه لا يزيد.
تبدأ السير في اتجاه أول نقطة شرطة، ثم تُحتجَز في زنزانة في قسم الشرطة أشبه بمجرى صرف صحي لثلاثة أيام، وفي الرابع يُفرَج عنك وعمَّن معك وتُعطى مهلة ثلاث ساعات: إمَّا تُعاد إلى السجن، أو ترحل..
إلى أثينا
من الجزيرة إلى أثينا يبدأ الشِّرك الثاني من أشراك العنكبوت. تجول بين الفنادق بحثًا عن أرخصها. تشاهد النوم في الطرقات، ومدمني المخدرات واللصوص وبيوت الدعارة: هذه هي المنطقة التي يتجمع فيها كل المهاجرين إلى أوروبا، ثم تبدأ رحلة البحث عن مهرب، وتبدأ مغامرة جديدة.
تشتري هاتفًا محمولًا جديدًا بأضعاف أضعاف سعره في وطنك، وتتصل بأسرتك وأهلك بعد انقطاع خمسة أيام فيُغدقون عليك عبارات التشجيع والأمل.
السوري خزان نقود للعجلة الاقتصادية في اليونان وتركيا.
المحاولة الأولى للخروج كانت بعد عشرة أيام، لكن الموظف عند باب الطائرة يكتشف أن أوراقك غير أصلية، فيستدعي عنصر أمن:
– هل أنت سوري؟
– نعم، أنا سوري.
– سأسامحك هذه المرة، اذهب دون عودة.
الحمد لله، السوري محترم في مطارات أثينا. لا تعلم السبب، وكنت تتوقع أن تُضرب وتُسحل، لكن مرَّت على خير، السوري خزان نقود للعجلة الاقتصادية في اليونان وقبلها تركيا. تخطو إلى الطائرة وأنت لا تدري ما ينتظرك في هولندا، وأيُّ برٍّ ستكون..
بر اللا أمان
تخوض المحاولة الثانية مرددًا الآية الكريمة «وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ». تدعو أن تتأخر الطائرة، وتتدخل الإرادة الإلهية فتتأخر. قانون المهربين يقول إنه إذا تأخرت الطائرة فستُنقذ. نعم، صدق المهربون ولو كذبوا.
في الطائرة يقول لك المهرب: «نام ولا تحكي مع أحد، وعندما تصل هولندا أعطني الرقم السري كي أقبض المصاري من مكتب الأمانات». في هولندا تعتريك حالة من الضياع والخوف والدهشة والفرح، والعائلة سعيدة بعد الاتصال الأول: «الحمد لله على السلامة»، فرحة عارمة تهز الأوساط الأُسرية.
اللاجئون يسكنون في مدينة تبعد عن العاصمة أربع ساعات. تصل إلى هناك وتبدأ في التجرُّد من إنسانيتك حين تتجرد من ملابسك من أجل التفتيش، ثم تتسلم معدات وتجهيزات مؤقتة، وتُساق كما يُساق الخراف إلى المقصلة. هذه هي غرفتك، ستجلس مع عشرة أشخاص. لعن الله الرقم عشرة. تقف على الدور في الطابور وأنت تحمل صحيفة الطعام في انتظار دورك، وللمرة الأولى تدرك معنى نظام اللجوء، وتسمع من ينادي..
مرحبًا بك في أوروبا.. ابدأ من جديد
بعد مسيرة من العناء دامت سنةً تحصل على الإقامة، ولكنك مجرد رقم في دولة أوروبية لا تعترف بما تحمله من شهادات، ولا تعترف بمهاراتك وقدراتك. اللغة عائق كبير، ويجب أن تتقن لغة جديدة عمرها ألفي عام، وفرص العمل تكاد تكون معدومة.
مرحبًا بك في أوروبا، أنت مؤهل فقط لخدمة العجائز وأعمال التنظيف.
أنت وأسرتك غير سعداء، وتعاني الوحدة والانفصال عن الواقع المتقدم تقنيًّا وعلميًّا آلاف الكيلومترات، وتدرك أن شيئًا لا يعوِّض الوطن، ولا شعور يملأ حاجتك إلى الأمان.