كولونيل «سيرغي سكريبال»، ضابط متقاعد من المخابرات العسكرية الروسية. في بداية عمله، كانت مهمة سكريبال التجسس لصالح روسيا داخل الأراضي الأوروبية. لكن يُعتقَد أنه لاحقًا انقلب على بلاده، وأفشى معلومات تخص ثلاثة جواسيس روسيين داخل الأرض البريطانية، مقابل بعض النقود.
لم يمر انقلاب سكريبال بسلام، إذ ألقي القبض عليه عام 2000، وحُكم عليه بـ13 سنة من الأعمال الشاقة. في 2010، جرى إطلاق سراحه في عملية تبديل مسجونين بين روسيا وبريطانيا، انتقل بعدها سكريبال للعيش في مدينة ساليسبري البريطانية.
لكن القصة لم تنته هنا. وُجِد سكريبال وابنته «يوليا» على عتبات الموت، في الرابع من مارس 2018، جالسيْن على مقعد خارج أحد المطاعم، وفي حالة إعياء شديدة. أحد الضباط الذين تولوا حالته وابنته دخل المستشفى أيضًا، إضافة إلى 48 شخصًا آخرين يُعتقد أنهم تعرضوا إلى نفس المادة التي جرى تسميم سكريبال بها.
اقرأ القصة كاملةً في هذا الموضوع |
سكريبال هو المقصود
ترى الشرطة البريطانية أن اليوم الثاني لوصول سكريبال وابنته، هو الذي جرى فيه تلويث واجهة المنزل باستخدام زجاجة عطر على سبيل التمويه.
أفادت التحقيقات أيضًا بأن أول تعرُّض لهذه المادة، كانت على عتبات منزل سكريبال، عند الباب الأمامي. ما حدث لاحقًا كان سلسلة من تبادل الاتهامات بين روسيا وبريطانيا.
«ألكسندر بيدروف» و«رُسلان بوشيروف» كانا المتهمين الأساسيين في هذه العملية. يُعتقد أيضًا أنهما عضوان قديمان في الاستخبارات العسكرية الروسية، وأن هذين الاسمين مجرد تمويه لشخصيتهما الحقيقية.
وصل بيدروف وبوشيروف إلى لندن بجواز سفر روسي، اتجها إلى ساليسبري في اليوم التالي لوصولهما، ثم غادراها في اليوم الثالث.
ترى الشرطة البريطانية أن اليوم الثاني لوصولهما، هو الذي جرى فيه تلويث واجهة منزل سكريبال. وتعتقد أن المتهمَيْن استخدما زجاجة عطر على سبيل التمويه، من أجل رش المادة السامة على عتبة بيت سكريبال، وأن هذه المادة لا بد من أنها حظيت بالموافقة عليها من مستويات عليا داخل الحكومة الروسية.
روسيا تنفي، لكنها لا تنفي حقًّا
نفت روسيا كل هذه الاتهامات وقابلتها بسخرية، ولم تسلم المتهمَيْن لبريطانيا، لعدم وجود اتفاقية تسليم مجرمين بين الدولتين.
في المقابل، خرج المتهمان في مقابلة على قناة «روسيا اليوم» الحكومية، من أجل الحديث عن نفسيهما وتبريء اسميهما. المقابلة التي لم تلق سوى كثير من الإنكار والتهكم.
الحكومة البريطانية علقت على هذه المقابلة بأنها «إهانة لذكاء الشعب»، بينما علق محرر دبلوماسي بقناة «BBC» بأن هذه المقابلة واحدة من أكبر أخطاء حرب المعلومات على الإطلاق، علق آخرون بأن هذه المقابلة ما هي إلا «مسرحية هزلية». فيما انطلقت الانتقادات على المقابلة من كل صوب.
لكن «أندرو هيغينز»، الكاتب في جريدة «نيويورك تايمز»، له وجهة نظر مختلفة. إذ يذكر في مقال له أن هناك عددًا من الأسباب الأخرى التي ربما من أجلها حدثت هذه المقابلة.
يقول أندرو إنه وسط امتعاض الآخرين على المقابلة وقناعتهم بأنها خدعة فجة، لم يلتفت هؤلاء إلى أن الغرض من المقابلة لم يكن المصداقية.
يورد آندرو رأي «بيتر بومرانتسيف»، مؤلف كتاب «لا شيء حقيقيًّا وكل شيء ممكن»، ويحكي فيه ذكرياته إبان عمله في التلفزيون الروسي، إذ يرى أن هذه المقابلة لم تكن سوى صفعة على وجه الغرب، وأن روسيا توقفت منذ زمن بعيد عن محاولة إقناع أي أحد بأنها تقول الحقيقة.
يُكمل أندرو مقاله قائلًا إن الكرملين يعمل جاهدًا من أجل الإرباك وصرف الانتباه، وإقناع أي شخص داخل روسيا أو خارجها، بأن الرئيس بوتين قوي بما يكفي ليصنع حقيقته الخاصة به ويفرضها على الآخرين.
خلال المقابلة التي استمرت 25 دقيقة، استعمل الكرملين أفضل استعاراته المجازية من أجل دعايته الخاصة. أول استعارة أن روسيا تُتهم بجرائم لم ترتكبها، وتعبر عن هذا بالرجلين الروسيين الذين لم يريدا سوى الاستمتاع بمعالم أوروبا الأثرية، ليقابلا مصاعب لا ترقى لتطلعاتهما العالية، هذه المصاعب هي الطقس الإنجليزي السيئ كما ورد في المقابلة.
أيضًا حاول الكرملين اللعب بورقة «فوبيا المثليين»، إذ تسرب عدد من التصريحات التي تقول إن هذين الرجلين مثليان. هذا الاتهام يعني أنهما لا يمكن أصلًا أن يكونا من أفراد الاستخبارات العسكرية، ﻷنه يُنقص من رجولتهما اللازمة لعملية قوية كالاغتيال، حسبما يورد آندرو هيغينز في مقاله.
«كونستنتين فون إيغربت»، المعلق السياسي والمحاوِر السابق في تلفزيون «إندبندنت»، علق على أن ظهور الرجلين على التلفاز، لم يكن من أجل إقناع أي أحد ببراءة روسيا، وإنما لإيصال رسالة إلى المدن الأجنبية والخصوم المحليين، بأن لا شيء يمكن قوله أو فعله ليغير أي شيء.
يضيف إيغريت قائلًا إن الكرملين يوصل رسالة إلى الغرب مفادها: «نعم، فعلنا. ونعم، نحن سنكرر الأمر إذا أردنا».
ليس هذا فقط، بل في الغالب أن الرئيس بوتين هو من خطط لهذه المقابلة بنفسه، فقد خرج في اليوم السابق للمقابلة، في مؤتمر اقتصادي، وتحدث عن براءة الرجلين، وأنهما ربما عليهما الخروج والحديث عن قصتهما. في نهاية هذه الليلة أجرى الرجلان اتصالًا برئيسة تحرير «روسيا اليوم»، «مارغريتا سينوميان»، وجلسا من أجل الإجابة عن أسئلة طفولية لم تحاول التطرق ﻷي موضوع جاد، مثل: «كيف تمكنت الشرطة البريطانية من إيجاد آثار غاز النوفيتشوك، وهو أحد غازات الأعصاب، في غرفة الفندق التي أمضى فيها الرجلان ليلتهما بلندن؟».
اغتيال الجواسيس الروس: ليست المرة الأولى
الأخطاء الواضحة في تنفيذ المهمة، جعلت البعض يعتقد أن بوتين طلب من الرجلين الخروج على الهواء عقابًا لهما على عدم تنفيذهما المهمة بطريقة سليمة.
تكرار الأمر يثير التساؤل. فمبجرد الإعلان عن أن محاولة اغتيال رجل الاستخبارات المنشق ترتبط بروسيا، حتى تَذكَّر الناس حالة الجاسوس الروسي السابق «ألكسندر ليتفينينكو»، الذي تعرَّض للاغتيال عام 2006 بواسطة مادة غير معروفة، وإن كان يرجَّح أنها مادة «البولونيو-210 مشعة».
كان ليتفينينكو اختلف مع إدارة بوتين بشكل كبير، فسافر إلى بريطانيا هاربًا عام 2000، وحصل هناك على اللجوء السياسي، وأقام فيها حتى اغتياله.
نتيجة هذه الحادثة، على العكس من حالة ليتفينينكو، لم يكن مقتل سكريبال، إذ خرج هو وابنته بسلام بعد عدة أيام في المستشفى، ثم نقلتهما الاستخبارات البريطانية إلى جهة غير محددة.
هذه الأخطاء في تنفيذ المهمة، جعلت بعضهم يعتقدون بأن بوتين طلب من الرجلين الخروج على الهواء عقابًا لهما على عدم تنفيذهما المهمة بطريقة سليمة. لكن هذا التصرف لم يُلحظ عن بوتين تجاه الحرس القديم، مهما تكن فداحة ما اقترفوه.
في المقابلة مع المتهمين، كان هناك كثير من الوقت يتحدثان فيه عن سوء الأحوال الجوية، وكيف أن الثلوج كانت تصل إلى منتصف أقدامهم، وأنهما لم يتمكنا من زيارة أي أماكن من التي قررا الذهاب إليها. الأمر الذي دعا أحد كتاب «الغارديان» إلى التصريح بأن الكوميديا أصبحت شأنًا دبلوماسيًّا الآن.
السبب وراء هذا هو حقيقة أن الثلوج التي تساقطت حينها لم تكن بتلك الشدة المذكورة، ولم تكن بأي حال أصعب من تلك الثلوج التي اعتاد عليها رجلان من روسيا، حيث الثلوج الشديدة هي إيقاع الحياة النمطي. قصة الرجلين بالطبع لم تفز أمام قصص أخرى من البريطانيين، ولم تحسن صورة روسيا بأي حال. بل إنها جعلت عددًا من المتعاطفين يهزون رؤوسهم في حيرة بعد هذه المقابلة. علق «بومرانتسيف» على أن هذه المقابلة تمكنت من تحويل المأساة إلى مسرحية هزلية.
ظلت روسيا تدافع عن الرجلين وتؤكد براءتهما، في نفس اليوم الذي أعلنت فيه صحيفة معارضة أن الرقم المُدرَج تحت اسم بيتروف، في التقارير الرسمية، يعود إلى وزارة الدفاع الروسية. وفي تحقيق بواسطة المنصة الإلكترونية «بيلنجكات»، أفاد بأنه لا توجد أي أوراق رسمية تعود إلى بيتروف وبوشيروف، في أي قاعدة معلومات رسمية خاصة بالمواطنين قبل عام 2009، إضافة إلى أن ملف بيتروف موضوع تحت خانة «شديد السرية».
كل هذه المعلومات لم تقابلها الحكومة الروسية سوى بمزيد من الإنكار، مشددة على أن الروس الأبرياء وقعوا مجددًا فريسة التضليلات الأجنبية. بل استدعت وزارة الخارجية السفيرين السويسري والهولندي من أجل الشكوى حول موقف بلادهما، وأنهما يسعيان ﻹفساد العلاقات مع روسيا. حدث هذا على خلفية التقرير الذي أرفقته هولندا بطرد جاسوسين روسيين حاولا التلاعب بنتائج تحليل غاز الأعصاب المستخدَم في عملية تسميم سكريبال.
«نريد فقط أن يتركانا في حالنا». كان هذا مطلب بيتروف وبوشيروف الوحيد، إضافة إلى اعتذار من الحكومة البريطانية على الأسى الذي سببته لهما.