بعد استقلال الكويت عام 1961، دخل شباب الأسرة الحاكمة آنذاك في العمل السياسي بعد اتساع ميدانه، فكان الشبوخ جابر الأحمد وسعد العبد الله وجابر العلي في واجهة السلطة، بينما كان للكبار الشيوخ عبد الله السالم وصباح السالم دور التوجيه والنصح. وفيما كان الشيخ جابر الأحمد يطمح إلى ولاية عهد الشيخ عبد الله السالم، إلا أنه لم يتسلم زمام قيادة الحكومة إلا في ظل الشيخ صباح السالم.
يقول د. أحمد الخطيب في كتابه «الكويت: من الإمارة إلى الدولة»، إن «صعود الشيخ جابر الأحمد السياسي لم يكن سلسًا. فهو خسر معركة الإمارة عام 1962 لمصلحة الشيخ صباح السالم. وتحالفه مع التجار الوطنيين في مجلس 1963 أطاح به الشيخ جابر العلي عام 1964. هذا التهديد من الشيخ جابر العلي جعله يتحالف مع الشيخ سعد العبد الله في هندسة الانتخابات المزورة عام 1967، عندما شعر بتهديد من الشيخ جابر العلي لطموحه في ولاية العهد كما اتضح».
ويضيف: «لم ينجرف الشيخ جابر العلي تمامًا مع الشيخ سعد، فبيانه الشهير الذي كان عبارة عن نقد ذاتي قبيل انتخابات مجلس 1971 أغضب الشيخ سعد العبد الله، فأوعز الأخير إلى جماعته في المجلس أن يحدثوا زوبعة غاضبة على هذا الخطاب، لكن ذلك لم يؤثر كثيرًا في الشيخ جابر الأحمد، وتمت الانتخابات في وقتها وبحرية معقولة من دون تدخل سافر من السلطة كالعادة».
وفي حديثه لـ«منشور»، يقول الباحث محمد اليوسفي: «بعد تولي الشيخ جابر الأحمد مسند الإمارة عام 1978، كان الحكم ثلاثيًا بين الأمير، وولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله، والنائب الأول ووزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد، الذين كانوا يتمتعون بذات الثقل السياسي وإن اختلفت رؤاهم لإدارة الدولة، وقد اشترك الثلاثة في إبعاد الشيخ جابر العلي عن المنافسة، ولم يعد للمناصب العامة بعد ذلك».
ما الذي قالته الوثائق البريطانية عن الصراع؟
إذا ما عدنا للوثائق البريطانية التي وثقت تلك الفترة، خلال وجود السفير البريطاني لدى الكويت آنذاك سيدني كيمبردج، نجدها تتوقع أن يكون عهد الشيخ جابر الأحمد طويلًا وأحاديًا إلى درجة يصعب التكهن بمضمونه، بسبب انغلاق تفكيره وتوجسه من الجميع بحسب قولها، وبسبب حصر أمور الدولة بيده، وسيطرته المطلقة على الشيخ سعد العبد الله ولي العهد ورئيس الوزراء، ولأنه لا يثق إلا في مجموعة محدودة من المحيطين به، ومن بينهم شقيقه وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد.
تنبه الوثائق إلى أنه من الجدير بالاهتمام ملاحظة كيفية تعامل الشيخ جابر الأحمد مع التوازنات بين الشيخين جابر العلي وسعد العبد الله وجناحيهما في العائلة وبين القبائل، علمًا بأن الشيخ جابر الأحمد يحبذ التعامل مع الشيخ سعد العبد الله لأنه «طيب القلب» كما وصفته.
وفيما كانت السنوات ما قبل تولي الشيخ جابر الأحمد مسند الإمارة تتسم بالحكم الجماعي، كانت الوثائق البريطانية ترى أنه بوفاة الشيخ صباح السالم وتولي الشيخ جابر الأحمد السلطة مباشرة وإحكام سيطرته عليها، بدأت مرحلة جديدة في الكويت من «الحكم الأميري المباشر والمطلق» بحسب وصفها، مشيرة إلى أن الحكومة الأولى في عهد الشيخ جابر حملت ملامح الشيخ جابر الأحمد وليس بصمات الشيخ سعد العبد الله.
يلاحظ السفير البريطاني بحسب الوثائق أن «الأمير الجديد يحكم بفعالية، وهو لا يشارك الشيخ سعد قراراته، كما يتخطاه في كثير من الأمور، ويستدعي الوزراء إلى مكتبه ويبلغهم أوامره مباشرة حتى قبل أن تناقَش في مجلس الوزراء»، مبينًا أنه «لم يعد الأمير كما كان في عهد الشيخ صباح السالم، فقط لتوقيع ما يقره مجلس الوزراء أو ما يراه رئيسه الشيخ جابر الأحمد».
وهو ما يؤكده الدكتور الخطيب في كتابه، فيقول: «فوجئت عندما كنت أبحث معه في بعض الأمور الحساسة بأنه يتخذ القرار بشأنها ولا يطلع الشيخ سعد العبد الله عليها. حتى أنني في إحدى المرات سألت الشيخ سعد العبد الله: ألا تتحادثان في مثل هذه الأمور؟ صمته الحزين أكد لي شكوكي في هذا الموضوع، لكن الشيخ سعد العبد الله يبقى الأقرب للشيخ جابر الأحمد من الشيخ جابر العلي».
تضيف الوثائق أن الشيخ جابر الأحمد «أبعد شبح الشيخ جابر العلي الذي يكرهه كثيرون بين الأسرة الحاكمة وأبناء الكويت الأصليين، رغم تمتعه بالاحترام بين قبائل كبيرة في الكويت». وتشير إلى أن «الشيخ جابر العلي الذي كان نائبًا لرئيس الحكومة منذ 1965، كان كثيرون يعتبرونه بل ويعتبر نفسه الولي القادم للعهد، وكان يتصرف في أمور الدولة على هذا الأساس، لكن يبدو أن ما كان يدبره في الخفاء حتى ضد الشيخ جابر الأحمد نفسه، قلل من فرصه في الوقت المناسب لتولي المنصب والسلطة. ويبدو أنه منذ حل البرلمان تراجعت فرص الشيخ جابر العلي وأهميته، خصوصًا أنه كان يستطيع وضع العصى أمام سلطات الشيخ جابر الأحمد والمشاريع التي كان يريد تمريرها في مجلس الأمة».
يقول السفير كيمبردج إن الشيخ جابر العلي كان يتمتع بتأييد جيل من السياسيين القدامى وزعماء قبائل، ويتحكم في قراراتهم ضمن صراعه مع الشيخ جابر الأحمد، وفي جعل أيام الشيخ سعد العبد الله ومشاريعه في البرلمان أصعب وأكثر سوادًا. وقد أسهم حل البرلمان عام 1976، بعد مرض الأمير الشيخ صباح السالم، في فقد الشيخ جابر العلي لهذه الورقة القوية، ولم تعد له سوى علاقاته مع القبائل، لكن الأمير الجديد تمكن من كسبهم عبر مشاريع وإنفاق ووعود قيمة.
يروي السفير البريطاني كيفية التدبير الذي تم على الشيخ جابر العلي، إذ جمع الشيخ جابر الأحمد أفراد عائلة الصباح لاختيار ولي العهد، وقال لهم إنه يقترح ثلاثة أسماء على العائلة هم الشيوخ: جابر العلي، وسعد العبد الله، وصباح الأحمد، وإن عليهم الاختيار.
وفق رواية السفير والروايات المتداولة، وقف الشيخ صباح الأحمد على الفور معلنًا عدم رغبته في المنصب وتزكيته الشيخ سعد العبد الله لتولي ولاية العهد، وتوجه فورًا لتقبيل الشيخ سعد وإعلان مبايعته وولائه له، وكانت تلك كلمة السر، إذ تبعه مباشرة آخرون من أفراد العائلة، وسط دهشة الشيخ جابر العلي الذي كان آخر المهنئين.
يشكك السفير البريطاني في تقريره في أن يكون الشيخ صباح الأحمد قد تصرف من دون التشاور مع غيره من أفراد الأسرة، خصوصًا الشيخ جابر الأحمد، ويرى أنه أجرى «بروفة» لما سيفعل قبل الاجتماع الحاسم.
يشير السفير إلى أن استقالة الشيخ جابر العلي النهائية من الحكومة ستعني انشقاقًا في العائلة وأفول نجمه نهائيًا دون الحصول على شيء لأبنائه وأنصاره، وأن قبوله البقاء في منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام كان يعني أنه سينحني دائمًا أمام خصمه الشيخ سعد، وما يتبع ذلك من انعكاسات.
ويقول إن «الأمير وولي العهد كانا يريدان له البقاء في المنصب حفاظًا على تماسك العائلة، مع تأكيد قصقصة جوانحه عبر تعيين الشيخ صباح الأحمد في منصب النائب الثاني لرئيس الوزراء»، كمكافأة له باعتباره صانع الملوك بعد الدور الذي لعبه في اختيار الشيخ سعد، كما يأتي تعيينه نائبًا ثانيًا كمحاولة لدفع الشيخ جابر العلي إلى مغادرة الحكومة.
وقد أراد الأخير منصبي وزير الدفاع والداخلية خلفًا للشيخ سعد، الذي فضل أن يترك للأمير مهمة رفض الطلب. لكن حقيبة وزارة الدفاع مُنحت للشيخ سالم صباح السالم، بينما كُلف الشيخ صباح الأحمد بوزارة الداخلية بالوكالة، وتبقي جابر العلي في منصب النائب الأول ووزير الإعلام دون تغيير.
يوضح السفير أن الشيخ جابر العلي لم تعجبه الطريقة التي وقع بها الاختيار على الشيخ سعد العبد الله وليًا للعهد، وأنه اعتبر نفسه ضحية «تدبير ما في الأسرة». ويبين كيمبردج أن ما جرى يشير إلى أن الأمير جابر الأحمد كان يمسك أمور العائلة بيد من حديد، ويعكس رغبة بعض المؤثرين من أهل الكويت الذين يفضلون نزاهة ونظافة يد «أبو مبارك»، ولا يمانعون تأييد حكمه المطلق طالما احترم مصالح الجميع.
يمكنكم قراءة سلسلة «صراع السلطة: حضرت الكراسي وغابت الرؤى» كاملة على الرابط التالي