صراع السلطة: هل أعادت وثيقة شباب الأسرة رسم دورهم السياسي؟

التصميم: منشور

فريق منشور
نشر في 2022/10/16

«لقد حاول نفر من أبناء عمنا وإخواننا الاجتهاد ولم شمل الأسرة في إطار منظم دونما نتيجة، فهل يعقل ألا يتشاور أبناء النظام في مصيرهم وأمتهم، وألا يجتمعوا ليبحثوا ذلك في مثل ما مررنا به من تجربة؟ وما هي الدروس التي تعلمناها؟ وكيف لنا أن ندافع عن قرار أو رأي لأفراد السلطة نحن لم نُستشر فيه، بل ولم نعرف عنه شيئًا من قبل؟ وهل للحكم فلسفة أو رؤية جديدة وواضحة بعد هذه المحنة؟ وهل علينا دائمًا أن نضع النظام درعًا واقيًا وساترًا لأخطاء الحكومة، بدلًا من أن تكون هي الدرع الذي يقيه؟».

وردت هذه العبارات في ما عرف بـ«وثيقة شباب الأسرة»، التي أصدرها مجموعة من أبناء الأسرة الحاكمة في الكويت عام 1992 في أعقاب الغزو العراقي للكويت، يعربون فيها عن عدم رضاهم عن أسلوب إدارة الدولة، ورغبتهم في نهج جديد للحكم أكثر ديمقراطية وعدالة.

أبرز الموقعين على الوثيقة كانوا الشيوخ: جابر مبارك الحمد الصباح، وناصر صباح الأحمد الصباح، وأحمد فهد الأحمد الصباح، ومحمد محمد السلمان الصباح، ومبارك جابر الأحمد الصباح، وسالم صباح الناصر الصباح، وعلي فهد السالم الصباح، وسالم العبد الله الأحمد الصباح، وعبد الله محمد الجابر الصباح، وخالد فهد المالك الصباح، وعبد الله فهد المالك الصباح.

كانت الوثيقة لسنوات مضت، وربما حتى اليوم، مثالًا يضرب للحركات التصحيحية في الأسرة الحاكمة كلما شعر البعض أن الظروف تستلزم تصحيحًا للمسار السياسي في البلاد، فيستشهد بها كنموذج للتقدم والإصلاح في مواجهة وضع جامد وغامض عادة ما يغلف عمل الأسر الحاكمة. وقد يتذكر العديدون هذه الوثيقة في الكويت اليوم وهي تعيش حالة جمود سياسي وسط ضبابية الرؤية حول المستقبل.

في دولة تملك زمامها أسرة حاكمة، لا بد أن يلقي أي صراع بين أفرادها بظلاله على سائر أجهزة الدولة، لذلك عند استحضار الوثيقة علينا ألا نراها بمعزل عن صراعات أفراد الأسرة في ما بينهم على تراتبيتهم في الحكم أو المناصب، فقد أتت وثيقة 1992 في فترة حرجة بعد تحرير الكويت من كارثة الغزو، كما كانت انعكاسًا لخلافات عميقة بين الأجنحة الرئيسية في الأسرة، ممثلة في الشيخين الراحلين سعد العبد الله وصباح الأحمد.

وسط غياب التواصل بين طرفي المعادلة الدستورية ممثلة في الحكم والشعب، واحتقان العلاقة لتصل إلى ما هي عليه اليوم، تبرز تساؤلات مثل: أين نحن اليوم من وثيقة كهذه؟ وأين الحركات التصحيحية داخل الأسرة؟

ظروف وثيقة 1992

الصورة: @fawazfarhan

«من الضروري هنا أن نفهم الظروف التي سبقت الوثيقة حتى نفهم السياق العام، فنادرًا ما يكون هناك حدث ليس رد فعل على ما سبقه»، هكذا يؤكد لـ«منشور» الكاتب محمد اليوسفي، صاحب سلسلة كتب «الكويت؛ من النشأة إلى الاستقلال - من الدستور إلى الاحتلال - من التحرير إلى الاختلال». 

يوضح اليوسفي أن «هناك معلومتين يجب الانتباه لهما، الأولى هي أن الوثيقة قد صدرت في 1992 بُعيد تحرير الكويت من الغزو، وكانت أجواء ما بعد الصدمة مليئة بالتوتر والغضب الشعبي حول فشل السلطة في توقع الغزو والاستعداد لمواجهته، وهذه الأجواء شجعت شباب الأسرة آنذاك بقيادة الشيخ جابر المبارك (أكبرهم سنًا) والشيخ ناصر صباح الأحمد (المحرك الرئيسي لهذا الجهد) على إصدار الوثيقة». أما المعلومة الثانية، بحسب اليوسفي، فهي أن الاختلاف في وجهات النظر بين الشيخ سعد العبد الله (ولي العهد ورئيس الوزراء آنذاك) والشيخ صباح الأحمد (نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وقتها)، كان قد وصل إلى درجة خروج الأخير من الحكومة لأسباب غير معروفة، ولأول مرة منذ التحرير. 

يشير اليوسفي إلى أنه لا توجد معلومات مؤكدة عن أسباب الخلاف بين الشيخين صباح الأحمد وسعد العبد الله أثناء أو بعد الغزو العراقي، لكن من الواضح أنه كان لكل منهما خطته وفلسفته المختلفة، وقد كان صدور وثيقة من أبناء الأسرة يتصدرها توقيع الابن الأكبر للأول، الشيخ ناصر صباح الأحمد، إشارة إلى أنها قد تكون جزءًا من الخلاف الدائر آنذاك حول نهج الحكم.

يقول الدكتور أحمد الخطيب في مذكراته: «أهم ما ورد في الوثيقة هو الحديث عن الإخلال بالصيغة الكويتية للحكم، التي تميزت بالتشاور بين النظام والشعب، والتي أدت إلى وضع دستور 1962 الذي قنن هذه الصيغة. وكيف أن الحكم قد أخل بهذه الصيغة وألغى الدستور، وحصر ولي العهد ورئيس الوزراء كل الصلاحيات لنفسه متجاهلًا حتى التشاور مع عائلة الصباح، مما كان السبب الأساسي لتدهور الأوضاع في الكويت وتعرضها لكوارث تاريخية متعددة».

«لقيت الوثيقة ترحيبًا كبيرًا من فئات الشعب، التي أغضبها تجاهل النظام للوعود التي قطعها على نفسه في مؤتمر جدة، إضافة إلى الأوضاع الفاسدة. نظمت السلطة عبر جماعاتها حملة في بعض دواوين الكويت، لتتهم هؤلاء الشباب بالجهالة والتطاول على رمز العائلة (رئيس الحكومة). وصادف أني كنت موجودًا في إحدى الديوانيات حين كان أحد الوزراء السابقين يشن حملة شعواء على هؤلاء الشباب. وقد كان هذا الوزير "حافيًا" عند دخوله الوزارة، وخرج منها بعد ست سنوات من أصحاب الملايين الكثيرة في الكويت».

هل كانت خطوة نحو الإصلاح؟

«إننا كشريحة من أبناء النظام الحاكم مؤمنون بأن التفرد بالسلطة ومركزيتها هما الخطوة الأولى من الطريق المعاكس لمسيرة جدنا الكبير جابر رحمه الله ... ونحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بإصلاح هذا المسار، وتقديم المشورة والنصح والضغط بما يحقق ذلك، وضمن الأعراف والمفاهيم الدستورية والقانونية للدولة وفي إطار حقوقنا كمواطنين فيها، هدفنا صيانة شرعية الحكم وهيبته والحفاظ عليه بالترفع عن الصغائر، والعدالة، والحيادية، والتطور، والرعاية».

هذا ما كتبه الموقعون على الوثيقة، فهل يمكننا أن نصدق أن تلك الوثيقة كانت خطوة جادة نحو الإصلاح، خاصة أن أحد الموقعين عليها الشيخ جابر المبارك، الذي لم يكن مميزًا على صعيد الإدارة والتطلعات أثناء رئاسته للحكومة منذ 2011 وحتى 2019؟

لم تسفر الوثيقة، التي انتشرت عبر أجهزة الفاكس في ذلك الوقت رغم عدم التخطيط لخروجها إلى العلن، عن حلول واضحة وآنية، لكنها كشفت عن وجود آراء «تقدمية» في أوساط الأسرة، ورغبة لدى الجيل الثاني في إيصال صوتهم عبر طرح مطالب شعبية (مثل الابتعاد الكامل عن أي ساحة انتخابية نأيًا بالحكم)، في تكرار لما جرى في الخمسينيات عندما أيد الشيخ جابر الأحمد والشيخ جابر العلي والشيخ صباح الأحمد وآخرون فكرة وضع الدستور، رغبة منهم في عدم استئثار الكبار من الأسرة بالحكم، وخوفًا من عدم وجود تمثيل لهم في دوائر القرار. كانوا وقتها يرون في وجود الدستور ضمانًا لمشاركتهم في السلطة مقابل استمرار نظام ما قبل الدولة الحديثة، والذي كانت تسيطر فيه مجموعة من الشيوخ الكبار على مقاليد الحكم في البلاد.

شواهد التاريخ القريب تبين لنا صحة ذلك، فالشيخ أحمد الفهد، أحد الموقعين على الوثيقة، سبق له أن أعلن نيته خوض الانتخابات في أكتوبر 1995، ثم تراجع في يونيو 1996 بعد أوامر من الأسرة الحاكمة، ومُنح منصبًا وزاريًا في 2001 في الحكومة التي شكلها الشيخ صباح الأحمد.

اثنا عشر مطلبًا رومانسيًا

الصورة: العرب

تضمنت الوثيقة 12 مطلبًا:

أولًا: نبذ أي تمييز طائفي، أو عائلي، أو مذهبي، وأن يكون كل مواطني الكويت سواسية كما حدد الدستور ونظمت القوانين.

ثانيًا: إننا نرفض التصنيف الفئوي للمجتمع بتمييز الكويتيين إلى درجتين، وندعو إلى توحيد الحقوق والواجبات على الجميع.

ثالثًا: إننا نؤمن بأن الدستور الذي اتفق عليه أهل الكويت قد أنصف الحاكم والمحكوم، ولا بد من التمسك به والحفاظ عليه عقدًا يجسد الشرعية والعدالة.

رابعًا: إننا نعيش في عالم متغير متطور، الإنسان محوره والمعاني الإنسانية والحضارية منهجه، ومن ثم فإن الحرية والديمقراطية مسألة تتطلب التواؤم والتلاؤم معها بعقل أكثر انفتاحًا، وبمنهج أكثر انضباطًا وحيادية.

خامسًا: إننا متفقون على أن توسعة القاعدة الشعبية وتعزيزها هدف من أهداف الحكم الأساسية، ولا تأتي بغير تشجيع مبدأ الانتخاب وتعميمه.

سادسًا: إن الاتجاه الديمقراطي العالمي المعاصر يتطلب تهيئة واعية لمجتمع واع بحقوقه وواجباته الدستورية، وهذا يتطلب وعيًا كاملًا من أبناء النظام (بالدرجة الأولى) وكافة الشعب بالدستور والقوانين المتعلقة بالحريات والحقوق والواجبات، وضرورة أن يأخذ الإعلام الرسمي دورًا أكبر في تحقيق ذلك.

سابعًا: ضرورة العمل على بناء دولة المؤسسات، التي يحكمها نظام وبناء مؤسسي لا يتغير بتغيير الأفراد.

ثامنًا: إن القانون وعدالته وحزمه صمام الأمان للمجتمع، ويجب أن يطبق القانون على الجميع ودونما تمييز أو مفاضلة، ونحن مطالبون أكثر من غيرنا بالتمسك به.

تاسعًا: إننا نطالب بالحفاظ على مدخرات الدولة وصيانتها وتطويرها، ونرفض ما تتعرض له احتياطياتنا من هدر ونزف مع بداية الدولة، وندعو إلى ضبط ذلك، فالحفاظ على المال العام جزء لا يتجزأ من الحفاظ على الحكم نفسه.

عاشرًا: إبعاد الحكم عن أي نزاعات أو صراعات سياسية أو انتخابية أو عائلية، بل العمل على نبذ الصراعات التي ترتقي إلى البعد العائلي أو الطائفي أو القبلي، والابتعاد الكامل عن أي ساحة انتخابية نأيًا بالحكم عن أي شائبة، كما أننا لا نرى مبررًا لذلك، ولم يكن الحكم مستهدفًا من أحد قط.

حادي عشر: إننا مؤمنون بضرورة تشاور أبناء النظام مع القائمين على السلطة فيه، ومشاركتهم الرأي في المسائل العامة والمهمة من خلال اجتماعات دورية ومنظمة.

ثاني عشر: إننا مؤمنون بأن هناك احتياجات مختلفة للأسرة يتطلب بعضها المال وتحسين الوضع الاقتصادي، ولذلك ندعوا لإنشاء صندوق معين من المال ليؤدي الأدوار المختلفة لمصلحة الأسرة والمجتمع.

يحلل اليوسفي المطالب قائلًا لـ«منشور»: «حملت الوثيقة كلامًا مثاليًا ورومانسيًا، ولم تتحول إلى خطة عملية»، مشيرًا إلى أن المؤمنين بالوثيقة على الأرجح كانوا مجموعة صغيرة من الموقعين، أما البقية فغالبًا ما وضعوا أسماءهم بغرض البروز أو رغبة في الحصول على مكانة أكبر في السلطة. ويلفت إلى أن أبناء الأسرة عادة ما يطرحون أطروحات شعبية لدغدغة مشاعر الناس حتى يلتفت لهم كبار الأسرة، مبينًا أن الشيخ ناصر صباح الأحمد ربما يكون الأصدق بينهم، إذ لم يسع لمنصب في السلطة رغم تعيينه مستشارًا لولي العهد ورئيس مجلس الوزراء آنذاك الشيخ سعد العبد الله في 1999.

هل أخلف من وعد؟

الصورة: كونا

من المهم أن ننظر إلى كل من وقع على الوثيقة، وما تحول إليه لاحقًا. فالشيخ جابر المبارك الصباح كُلف برئاسة الوزراء في 2011 بعد استقالة سلفه الشيخ ناصر المحمد الصباح، واستمر في رئاسة الوزراء حتى اعتذاره في نوفمبر 2019 بسبب شبهات أثارها وزير الدفاع آنذاك الشيخ ناصر صباح الأحمد، حول تجاوزات مالية في صندوق الجيش بلغت 240 مليون دينار كويتي، وهي القضية التي يحاكَم فيها الآن.

أما الشيخ أحمد الفهد فقد عين وزيرًا للطاقة في 2003، إلى أن خرج من الوزارة في 2006 بعد حملة «نبيها خمسة» لتعديل الدوائر الانتخابية والتي كان يناهضها، ثم عاد بعد ذلك في حكومة مايو 2009 نائبًا لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ووزيرًا للتنمية والإسكان، حتى استقالته بعد استجوابه في 10 يونيو 2011، واتُّهم بعدة قضايا مثل ما يعرف بقضية هاليبرتون، والتي حفظ البلاغ فيها من قبل محكمة الوزراء، قبل أن يدخل في صراع في التراتبية مع الشيخ ناصر المحمد في سنوات لاحقة.

إلا أن الشيخ ناصر صباح الأحمد، أحد المحركين الرئيسيين لوثيقة شباب الأسرة في 1992، كان الوحيد من قائمة الموقعين الذي له بصمات إصلاحية واضحة تسبق توليه المناصب العامة، واكتسب شعبية كبيرة بعد أن دخل في خلاف علني مع الشيخ جابر المبارك رئيس حكومته آنذاك وزميله في الوثيقة المذكورة، والشيخ خالد الجراح وزير الداخلية في نفس الحكومة، بعد أن أحال تجاوزات مالية لهما في صندوق الجيش المعني بتقديم المساعدات لمنتسبي الجيش الكويتي إلى النيابة العامة.

ولكن كيف أصبح الوضع بهذا الشكل؟ وهل قدر الدولة أن تكون رهنًا لهذه الصراعات؟

يمكنكم قراءة سلسلة «صراع السلطة: حضرت الكراسي وغابت الرؤى» كاملة على الرابط التالي

مواضيع مشابهة