في مطلع القرن الثالث للهجرة/التاسع الميلادي، خرج الخليفة المأمون مع وزيره الفضل بن سهل وولي عهده الإمام علي بن موسى الرضا من مدينة مرو في تركمانستان الحديثة يقصدون العراق.
أنهى المأمون ووزيره الرحلة ووصلا بسلام إلى مقصدهما؛ أما الإمام الرضا فمات على الطريق في مدينة طوس ودُفن في خُراسان. والمأثور أن المأمون قتله؛ كحادث نمطي في تاريخ علاقة الدولة العباسية المتوترة بالشيعة.
لكن شهادة ثامن الأئمة الاثني عشر لم تنتهِ إلى حادث على هامش التاريخ الشيعي، إذ شاءت الأقدار التي ساقَت «غريب الغرباء»، الإمام الرضا ليُدفن في مدينة مَشهد بخُراسان شمال إيران أن يُصبح ضريحه قبلة للشيعة الاثنى عشرية.
واليوم، يزور ضريح الإمام عشرون مليون حاج سنويًا، يأتون من إيران والعراق ولبنان ودول الخليج العربي وأفغانستان ويُشكِّلون مصدر دخل لا يمكن الاستهانة به في إيران.
إنها عُقدة أخرى للدين والتجارة إذًا، والصحفي والباحث في الشؤون التركية والإيرانية «أولريش فون شفيرين» (Ulrich von Schwerin) زار ضريح الإمام وكتب لموقع (Qantara) عن الحج إلى مشهد؛ كيف يُثري قلوب المؤمنين به وجيوب المنتفعين منه.
تعلَّم شيئًا جديدًا عن الله
يزور قبر الإمام الرضا في مدينة مشهد نحو 56,000 ألف حاج يوميًا، يُقبِّل الحجاج باب الضريح وجداره بينما ينتحب بعضهم كما لو أن الإمام قُتل البارحة. ومن بين هؤلاء الحجاج كان مُحسن، وهو طالب علم في منتصف عشريناته، قابله «فون شفيرين» وتحدث معه.
تأخذ زيارة الضريح بأيدي المؤمنين لتقربهم إلى الله، فالناس العاديون لا يستطيعون رؤية النور الإلهي بمفردهم ودون استعانة بالأئمة، بحسب محسن، الذي يشرح أن هذا هو السبب في وجود الأئمة الاثني عشر في العقيدة الشيعية؛ ليأخذوا بأيدي الناس ويدلُّوهم.
الذهب يحمل إشارة إلى الدور الكبير للضريح في اقتصاد مشهد.
يأتي محسن لزيارة قبر الإمام خمس أو ست مرات كل عام، ويتعلم «شيئًا جديدًا عن الله كل يوم». يقضي أيامه القليلة عند الضريح قارئًا أو متأملًا يبحث عن النور الإلهي. ورغم أنه في بداية رحلته فقط، وهي رحلة لن تنتهي أبدًا في اعتقاده، فإن لمعة يلاحظها «فون شفيرين» في عينيه تشهد على عمق التأثير الذي يتركه الإمام في نفوس زواره.
اقرأ أيضًا: التمرد على التقاليد في إيران.. رجال محجبون ونساء سافرات
للذهب أكثر من دلالة
يروي كاتب المقال الصورة النقيض للضريح، والتي يمكن رؤيتها من جهة نظر أقل انغماسًا في العبادة. فبينما تكتظ حجراته الداخلية بالحجاج يقف خارجه عمال في ملابس رسمية يقومون على رعايته وخدمة زواره.
ويمتد بهو الضريح واسعًا حتى يصل إلى أربع بوابات فخمة وعالية مزينة بالبلاط الملون والزخارف المُتقنة، أما بوابة الحجرة الداخلية التي تحتوي قبر الرضا فيغطيها الذهب بالكامل في إشارة لهيبة الإمام وقدسيته.
لكن الذهب يحمل إشارة أخرى كذلك ليست بالغة القداسة وهي الإشارة إلى الدور الكبير للضريح في اقتصاد مشهد وإيران عمومًا.
وتتولى مؤسسة «آستان قدس رضوي» مسؤولية الضريح بالكامل، ويتولى هو إثراءها بالتبعية. وُلدت «آستان قدس رضوي» حين مات الإمام الرضا لتتولى رعاية قبره والإشراف على زيارته وتضخمت إلى إمبراطورية اقتصادية ضخمة عقب الثورة الإيرانية عام 1979 وكشفت عن توجه تجاري وربحي واضح، فهي تمتلك استثمارات في العراق وسوريا ولبنان على سبيل المثال.
«آستان قدس رضوي» نوع من المؤسسات المعروف في إيران باسم «بنياد»، وهي جمعيات خيرية مستقلة ماليًّا وإداريًّا تُشكِّل التبرعات القسم الأعظم من مصادر دخلها، و«آستان قدس رضوي» من أقدم هذه الجمعيات في إيران على الإطلاق.
ويرى «فون شفيرين» أن «آستان» تُطلعنا على التشابك الوثيق بين الدين والمال والسلطة في إيران؛ فالضريح، كالنظام السياسي ذي الصبغة الدينية، يكتسب شرعيته من تقوى الحجاج وإيمانهم، وهي التقوى التي تمده بالمال اللازم لتثبيت سلطته.
ومن جهة أخرى، يلجأ النظام للاستثمار في المعالم الدينية ويسعى لدعم سياحة الحجاج الدينية إلى مشهد وغيرها من الأماكن المقدسة؛ من أجل تعزيز صورته كممثل للإسلام ووارث للأئمة ودعم الخطاب الديني الرسمي للدولة.
وكما نتوقع، لقي حرم الضريح توسعات كبيرة منذ الثورة الإيرانية شملت إضافة غرف وساحات جديدة إلى الغرف والساحات التي بناها «الصفويون» و«القاجاريون» في القرنين السابع عشر والتاسع عشر، لاستيعاب أعداد الحجاج المتزايدة، واشتملت كذلك على «مولات» جديدة ومواقف سيارات فسيحة تحت الأرض.
من ورث سُلطة الإمام الرضا؟
تملك «آستان قدس رضوي»، بحسب «فون شفيرين»، عددًا غير قليل من الفنادق المحيطة بالضريح مع «مولات» ومصانع وبنوك، من بين أملاكها التي تبلغ نصف عقارات مشهد، بالإضافة إلى معظم المنطقة المحيطة بالمدينة من مقاطعة خُراسان. هذه ثروة هائلة بالتأكيد.
وينقل الكاتب قول أحد سكان مشهد الذين قابلهم خارج الضريح مباشرة، وهو مهندس مدني رفض ذكر اسمه أن «الجمعية تأخذ ما تريده عنوة». لا يمكن منازعة «آستان» إذا طلبت لنفسها قطعة أرض أو مبنى من مباني المدينة، حسب رأيه، كما أن العمل بها يتطلب بالضرورة «واسطة».
ورغم أن الجمعية معفاة من الضرائب ومستقلة عن الحكومة، فهي لا تُسهم بأي نشاط خيري ويبغضها معظم السكان.
وعلى قمة «آستان قدس رضوي»، كما هو الحال بالنسبة لأي مؤسسة دينية، يقف آية الله علي خامنئي المُرشد الأعلى للثورة الإيرانية والحاكم المطلق للبلاد. لكن «كاثرينا مولر» (Katharina Müller)، التي تدرس طبيعة الجمعية وبنيتها ترى غياب أي سُلطة حقيقية لخامنئي على «آستان»، وكذلك الأمر بالنسبة للحكومة.
تكتسب الجمعية مركزها المميز في رأي «مولر» من واقع أنها لا تتبع الدولة بصورة مباشرة، فهي مؤسسة قائمة بذاتها وحرة في حركتها ولها مع ذلك تأثير سياسي واسع، يسمح لها بمتابعة أغراضها التجارية والسياسية الخاصة.
بلغ الأمر بسلطة الجمعية أن سُمي إمامها السابق، آية الله عباس واعظ طبسي: «إمبراطور خُراسان».
قد يهمك أيضًا: رغم التناقض الظاهر: 9 تشابهات بين السعودية وإيران
فكُّ العقدة
تنظر الجمعية لنفسها كما لو كانت حارسًا لقيم الثورة الإسلامية وتقاليدها، كما يرى «فون شفيرين»، وترفض، وفقًا لهذه الرؤية، أي تحديث للسياسة أو الثقافة الإيرانيتين أو أي محاولات لإضفاء صبغة ليبرالية على مجتمع إيران.
ويشير الكاتب في هذا السياق إلى نقدها اللاذع لخطوات الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني نحو الانفتاح، وربما يعود هذا إلى تهديد الانفتاح لعدد كبير من شركات «آستان» ومصانعها، بحسب «فون شفيرين»، أيضًا فهي لا تستطيع العمل في رأيه إلا مع عزلة البلاد وانفصالها عن السوق العالمية إذ إن وجودها يعتمد على الاحتكار لا المنافسة التي قد تودي بها.
ورغم وقوف الضريح شاهدًا على الدور المؤثر للدين في سياسة إيران وحياة سكانها، فإن المهندس الذي تحدث إلى «فون شفيرين» يقف على الجانب المقابل مع كثير ممن يشبهونه، ليشهد على حدث مُختلف: إذا كان فكُّ عقدة الدين والسياسة يبدو مستحيلًا، عادةً، من عند طَرف السياسة، فإن قطاعًا من الشباب الإيراني بدأ ينظر بشك، في ضيقه بالعقدة، إلى «الطرف الآخر».