شهدت قطر مساء 9 أغسطس 2021 انطلاقَ أول اعتصامٍ سياسي في البلاد منذ عقود، احتجاجًا على قانون نظام انتخاب مجلس الشورى، الذي ينظم عملية الانتقال من مجلس شورى معين إلى أول انتخابات تشريعية يشارك فيها الشعب، وذلك في أكتوبر القادم.
فوجئ عدد كبير من المواطنين باستثنائهم من حق التصويت والترشح، مما دفع بإحدى كتل المجتمع التي شملها الحرمان إلى التحرك سلميًا ضد القوانين التي توصف بالتمييزية، والتي تصنف القطريين إلى «أصلي» و«مجنس». وأفرز هذا الحراك جملة من النقاشات المهمة حول مفهوم المواطنة، والمشاركة الشعبية، وشروط الانتقال المدني إلى الديمقراطية.
وبناء عليه، نحاول هنا استعراض تلك النقاشات، عبر الوقوف على جذور الإشكالات وأسباب المطالب، ودوافع اللجوء إلى الاعتصام كوسيلة للتعبير عنها، وهذا يلزم بالضرورة الوقوف على اختصاصات مجلس الشورى المنتخب وصلاحياته، ووضع قوانين الجنسية والانتخاب في سياقها التشريعي والتاريخي.
لا يسعنا هنا التطرق إلى كل الإشكالات المتداولة في الأيام الماضية، لكننا نسعى بالدرجة الأولى إلى توثيق ما حدث وفق سردية نقدية تنطلق من مبدأ المساواة الذي نص عليه الدستور الدائم لدولة قطر. ولنذكر أن الخلل الأساسي ينبع من البنية القانونية التي تعيد إنتاج الهويات الفرعية وتسييسها من خلال الإقصاء، وتنفي عن المجتمع القطري النظرة الاستشراقية التي ترى باستحالة انتقاله الديمقراطي، بسبب تعاملها مع القبيلة بطريقة جوهرانية لا كمبنى اجتماعي يتحول بالفعل السياسي ويتأثر به.
وعليه، لا يمكن التعاطي مع القبيلة كثابت مفسر للمتغيرات الاجتماعية أو السياسية، إلا أنه في ذات الوقت لا يمكن الاستهانة بها في حال سادت كبنية وثقافة سياسية، أو استثمرت كعصبية للحفاظ على نظام حكم ما، أو حتى في التعبئة ضده. القبيلة ليست نواة تاريخية غير متغيرة كما يفترض ابن خلدون، بل هي كما يقول العروي، متغيرة، وقد تحولت من حالة التنقل إلى حالة الاستقرار، كما أنها أضمحلت في كثير من حالات التاريخ المدني الطويل، ومن ناحية أخرى استمرت وتغيرت ملامحها ووظائفها بشكل جعلها متأثرة ببنى اجتماعية وسياسية غير عشائرية.
مجلس الشورى: قوانين الجنسية والانتخاب
ينص الدستور الدائم لقطر على تولي مجلس الشورى سلطة التشريع وسن القوانين، مما يشمل إقرار الموازنة العامة للدولة. ويختص المجلس كذلك بممارسة الرقابة على السلطة التنفيذية، ويتيح لهم مساءلة الوزراء واستجوابهم.
حدد الدستور الدائم عدد ممثلي مجلس الشورى، إذ يتألف من «خمسة وأربعين عضوًا. يتم انتخاب ثلاثين منهم عن طريق الاقتراع العام السري المباشر، ويعين الأمير الأعضاء الخمسة عشر الآخرين من الوزراء أو غيرهم. وتنتهي عضوية المعينين في مجلس الشورى باستقالتهم أو إعفائهم».
وينص قانون رقم 6 لسنة 2021 بشأن نظام انتخاب مجلس الشورى على أنه يتمتع «بحق انتخاب أعضاء مجلس الشورى كل من كانت جنسيته الأصلية قطرية وأتم 18 سنة ميلادية، ويستثني من شرط الجنسية الأصلية (...) كل من اكتسب الجنسية القطرية، وبشرط أن يكون جده قطريًا ومن مواليد دولة قطر». ويتعين على المرشح أن تكون «جنسيته الأصلية قطرية، ولا يقل عمره عند قفل باب الترشح عن 30 سنة».
تعود جذور الإشكالية القائمة في قانون نظام انتخاب مجلس الشورى (2021/6) إلى كونه مستوحى من قانون رقم 38 لسنة 2005 بشأن الجنسية، والذي يحدد القطريين بصفة «أصلية/أساسًا» بكل من توطنوا في قطر قبل عام 1930، أو من ثبت أن له أصول قطرية بقرار أميري، أو رُدت لهم الجنسية. علاوة على ذلك، يستثني هذا القانون فئة القطري بالتجنيس من المشاركة السياسية، إذ يشير إلى أنه «لا يكون لمن اكتسب الجنسية القطرية حق الانتخاب أو الترشيح أو التعيين في أي هيئة تشريعية»، ويضيف إلى ذلك أنه «يعتبر قطريًا بالتجنس من ولد في قطر أو في الخارج لأب قطري بالتجنس».
وهنا، كما يوضح حسن السيد أستاذ القانون الدستوري في جامعة قطر، لم يُحرم أبناء المتجنس من ممارسة حق الترشيح والانتخاب وحسب، بل إن صفة التجنيس تنسحب على ذريته والأجيال المتعاقبة من بعده، مما يوسع نطاق المحرومين من الحقوق السياسية بشكل أبدي، ويجعل قطر تمثل حالة استثناء في ما يتعلق بقوانين الجنسية، فلا توجد دولة أخرى تورث صفة التجنيس.
ومن ناحية أخرى، فإن الدستور الدائم لدولة قطر يمنح أحكام الجنسية الصفة الدستورية، ويعني ذلك بحسب ما تبين المذكرة التفسيرية للدستور القطري أن أحكام قانون الجنسية تأخذ حكم المواد الدستورية من حيث الحصانة، ويستدل بأن المشرع جعل مواد القانون في مصاف المواد الدستورية، ولا يمكن إجراء التعديل عليها إلا بعد مضي عشر سنوات من بدء العمل بالدستور، وبذات الإجراءات التي تُعدَّل من خلالها نصوص الدستور، والتي جاءت بها المادة 144 من الدستور حين قصرت حق اقتراح التعديل على الأمير وثلث أعضاء مجلس الشورى، بينما يتعين لإقرار هذا التعديل موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشورى، ولا يسري التعديل إلا بعد مصادقة الأمير.
تجدر الإشارة إلى أن الاعتراضات على قانون الجنسية (2005/38) لم تتوقف منذ صدوره، بعكس المتداول الآن من أنها طارئة وجديدة، بل نبه كثيرون على ضرورة معالجة مواطن التمييز التي تتخلله عبر إلغائه والعودة إلى قانون الجنسية (1961/2) أو إصلاحه، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر د. علي خليفة الكواري، والروائية القطرية نورة آل سعد، ود. حسن السيد، ومحمد القحطاني، ومحمد هلال الخليفي.
لا يمكننا التطرق إلى مسألة الاعتراضات على قانون الجنسية لسنة 2005 دون أن نستعرض الإشكال المتعلق بطرق الطعن في دستوريته، إذ أن هنالك قيود تحول دون رقابة المحكمة الدستورية على دستورية قانون الجنسية، لأن قانون السلطة القضائية ينص في المادة 13 على أنه «ليس للمحاكم أن تنظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في أعمال السيادة ومسائل الجنسية». وعليه، فإن المشرع القطري قد أخرج مسائل الجنسية من ولاية القضاء، وذلك لاعتبارات عديدة بحسب رأي البعض، من قبيل أنها تعتبر من أعمال السيادة التي تصدر من السلطة باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة، وبهذا فلا طريق أمام المحكمة الدستورية لمد رقابتها إلى القرارات المتعلقة بمسائل الجنسية، ومن ثم النظر في شبهة عدم دستوريته وإلغائه.
المطالبات بالمساواة القانونية وحق المشاركة الشعبية
في نهار 8 أغسطس، أرسلت اللجنة المشرفة على الانتخابات ما يفيد قبول ورفض طلب المواطنين الذين أتموا عملية التسجيل في جداول الانتخاب، وذلك بعد أن حددت فترة التسجيل بين 1-5 أغسطس.
نتج عن هذه الخطوة من جهة استنكار أفراد من مختلف شرائح المجتمع، أعربوا عن يأسهم وإحباطهم تجاه كل من العملية الانتخابية وقانون الجنسية، ومن جهة أخرى أثار اعتراض قطاع واسع من قبيلة آل مرة ضد الانتقاص من مواطنتهم، فأعلنوا رفضهم لآلية العملية الانتخابية، باعتبارها تسلب حقهم في المواطنة الكاملة والمشاركة الشعبية. وتساءل البعض عن دوافع اعتراض هذه القبيلة تحديدًا، وهل هم الاستثناء الوحيد الذي يقصيه القانون؟
مقومات الحشد المتوفرة لدى آل مرة، التي كان من أهمها تعداد القبيلة ونسبة الذين لم تنطبق عليهم شروط الناخب، وفرت لهم آليات التعبئة بشكل لم يتوفر عند قبيلة أخرى.
في الحقيقة، لا تعلن قطر أرقام مَن يوسَم بالصفة القانونية «أصلي» و«مجنس»، وتأسيسًا على ذلك، لا يمكن لنا إلا أن نسلط الضوء على الخلفية الاجتماعية لمحاولة تفسير ما حدث.
لم تكن قبيلة آل مرة وحدها من تضرر جراء القانون، بل كشفت عدة قرائن أن ما يزيد عن نصف المواطنين قد شملهم الحرمان القانوني، واتضح من خلال الاستقصاء أن الضرر طال مختلف شرائح الشعب من عوائل وقبائل حضرية وبدوية. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من هذه العوائل والقبائل انقسمت بين قطريين أصليين ومجنسين (حسب تصنيف الدولة)، وهو شيء قابل لأن ينتج آثارًا اجتماعية خطيرة داخل هذه العوائل نفسها.
ومع ذلك، فإن مقومات الحشد المتوفرة لدى آل مرة، لأسباب من أهمها تعداد القبيلة ونسبة الذين لم تنطبق عليهم شروط الناخب، وفرت لهم آليات التعبئة بشكل لم يتوفر عند قبيلة أخرى، وعلى نحو غير متوقع. تدفق في ذلك اليوم سيل من المواقف التعبيرية على وسائل التواصل الاجتماعي ضد ما أُجمع على أنه «قانون تمييزي وعنصري»، من الرسائل المتفرقة ومقاطع الفيديو، التي لم يقتصر نطاق انتشارها على آل مرة وحدهم، إلا أن الحراك اقتصر في أرض الواقع عليهم فقط.
الخط الزمني للاعتصامات
«ختامًا، لا أملك إلا أن نقول أنتم من دفعتمونا لذلك، وأنتم من وضعتم هذه القوانين غير الدستورية لتُرفض، وسنطالب بحقوقنا وكرامتنا في هذا الوطن ومن داخل الوطن حتى لو كُتب لنا الموت في سجونه، نموت بكرامتنا ولا نعيش في ذل الانتقاص» - من خطاب د. هزاع أبو شريدة المري إلى سمو الأمير تميم بن حمد آل ثاني.
بعد نشر المقطع، وعدد آخر من المقاطع، قررت الجهات المختصة في وزارة الداخلية إحالة سبعة أشخاص إلى النيابة العامة بحجة «نشر أخبار غير صحيحة وإثارة النعرات العنصرية والقبلية». وفي اليوم التالي، تجمع أفراد القبيلة في مجلس حمد بن سالم بوشهاب المري، ومن ثم توجهوا إلى مجلس د. هزاع الذي تصدر الاعتصامات منذ يومها الأول، والتي انتقلت من منطقة معيذر إلى منطقة أم الزبار في قطر، حيث احتشد جمع غفير من آل مرة للنقاش حول مطالبهم وتوجيه خطابات للقيادة بضرورة تحسين الوضع القائم. وقد شدد وقتها د. هزاع على أن هذا التجمع سلمي، ولا يهدف إلى زعزعة أمن واستقرار الدولة، إلا أن قوات الأمن اتجهت إلى موقع الاعتصام بهدف الاستطلاع.
في ذات الليلة، تعرض د. هزاع للتوقيف والاحتجاز أمام منزله، ولم يُفرج عنه حتى كتابة هذه السطور. وانعكس اعتقاله على وتيرة الحراك الذي سرعان ما تزايد، وهذا أمر متوقع لمتابعي الحركات السياسية والاجتماعية، فكلما زاد ضغط السلطة زادت الحركات من حدتها وتنظيمها. كما أن السلطة تواجه معضلتين سياسيتين، الأولى: أن أي محاولة للتراجع عن هذه القرارات نتيجة الضغط الشعبي ستقود إلى رفع مستوى السقف السياسي لدى الشعب. والثانية: أن الاعتصام حتى وإن لم يدفع باتجاه تحقيق أهدافه، سيكون قد أسس لذاكرة احتجاجية لدى الجمهور.
استمرت الاعتصامات السلمية، والتي أكدت أنها لن تتراجع إلا بضمانات تتعلق بـ:
- تغيير قانون الجنسية
- الإفراج عن المعتقلين وعلى رأسهم د. هزاع أبو شريدة
كما دعت الاعتصامات إلى كفالة حرية الرأي والعدالة الاجتماعية بين المواطنين.
وفي اليوم الثالث من الاعتصامات، استدعى نائب سمو الأمير عبد الله بن حمد آل ثاني وجهاء قبيلة آل مرة، من أجل امتصاص الاحتقان الدائر، عبر طمأنتهم إلى جدوى الوسائل القانونية المتوفرة. ومن الجدير بالذكر أن نائب الأمير قابل الوجهاء كل على حدة، وفي هذا التصرف دلالة سياسية مهمة لكيفية التعامل مع المطالب الجمعية، كما سبق وذكر د. علي خليفة الكواري في مذكراته «العوسج»، حين سرد كيفية التعامل مع المطالب الجمعية في الستينيات من القرن الماضي.
الوسائل القانونية التي طُلب من آل مرة استخدامها تمنحهم خيارًا وحيدًا يتمثل في تقديم طلبات تظلم بخصوص الإقصاء من العملية الانتخابية. وجاء الرد من قبل لجنة الاعتصام، والتي شُكلت في اليوم الثاني من الاعتصامات، برفض إجراء التظلم لأن الإشكالية تكمن في اعتبارهم مواطنين بالتجنيس، لا في حرمانهم من حقوق الانتخاب والترشح بموجب قانون الانتخاب. وينتج عن هذا حرمانهم وذريتهم من طائفة من الحقوق المقررة للمواطن القطري بصفة أصلية، ومنها على سبيل المثال: حق الانتفاع بالإسكان، وحق تولي الوزارات. وعليه، أصر الحراك على أن الحل سياسي وليس قانونيًا، إذ لا يسع آلية التظلمات أن تحله.
استمر الاعتصام في يوم 10 أغسطس، وقد شهدنا فيه احتفالًا خطابيًا وشعريًا للتعبير عن مطالب الاعتصام. وفي يوم 11 أغسطس رُفضت وساطة أعيان القبيلة، قبل الاستجابة للمطالب. شاع انطباع عارم بين صفوف المعتصمين بأن الوساطة ليست في صالحهم. وحضر في ذلك اليوم أفراد من قوات لخويا (قوة الأمن الداخلي القطري)، الذين اكتفوا بالاستطلاع على مقر الاعتصام.
في اليوم الذي يليه، توجه أعيان قبيلة آل مرة إلى مجلس د. هزاع (مقر الاعتصام) في محاولة لإقناعهم بفض الاعتصام، وهو ما قوبل بالرفض، فأكدت الجموع أن الاعتصام لن ينتهي إلا بضمانات استرجاع الحقوق لأهلها. وفي منتصف نهار ذلك اليوم، انتقلت إلى موقع الاعتصام مجموعة كبيرة من قوات مكافحة الشغب، إذ أبصر المجتمع برمته سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ قطر المعاصر، حين أغلقت القوات مداخل الموقع واحتشدت أمامه في لحظات خالطها الكثير من التوتر، ثم فاوض الضباط قادة الاعتصام من أجل إنهائه، قبل أن ينسحبوا دون التوصل إلى حل. حينها سرى بين عموم المواطنين انطباع يشي بأنها خطوة زادت «الطين بلّة»، وأدى ذلك إلى ازدياد المحتشدين وانكبابهم في المشهد، وعزم من كان في الموقع على المبيت حتى تحقيق المطالب.
في اليوم اللاحق، بدا أن الاعتصام في طريقه للتمدد والانتشار، حتى وجه الأمير أمرًا بفض الاعتصام، مع تأكيد أنه سينظر في المطالب، منهيًا بذلك حراكًا استمر لخمسة أيام متواصلة، لم تشهد مثله البلاد منذ الستينيات.
الحق في المساواة والمواطنة الكاملة
من الضروري بمكان القول بأن عملية البناء الهوياتي وأدواتها المستخدمة لبناء تخيل مشترك لا يمكن أن تستقل عن الخطاب المنتج في سياق ما. وخلال السنوات القليلة الماضية، استطعنا رؤية كيف رسمت الدولة الحديثة الشكل الذي يجب أن تبدو عليه القبيلة بالنسبة للدولة، فهي اليوم بعد أن فرَّغت القبيلة من دورها السياسي أصبحت تحاول ضبطها، وإعادة إنتاجها بأشكال مختلفة.
يمكن القول إن الحكومة في قطر قد نجحت في هذا: أي قطع الحركة على أساس جغرافيا القبيلة، وإلزامها بحدودها السياسية الوطنية، إلا أنها في ذات الوقت ما زالت تتعامل مع المجتمع بوصفه مجموعة من الأسر والقبائل، وهو الأمر الذي تترتب عليه مجموعة من الاستحقاقات المادية التي تعيد إنتاج هذه المنظومة بشكل مستمر، لا كمكون اجتماعي فحسب، وإنما كوسيط ما بين المواطن ودولته.
بعد هذا التوضيح، ثمة ما يستلزم الإشارة إلى تنامي مستويات الوعي الدستوري في النقاش الأخير الذي لازمه مع الأسف صعود لغة عنصرية، هي بالأساس تجسيد للبنية السياسية-القانونية، التي أنتجت وتعيد إنتاج هذه المفاهيم العنصرية والتمييزية بتمسكها بمفهوم «الأصالة»: الذي يحرف النقاش من نقاش سياسي قائم على مفهوم العضوية في الجماعة السياسية، إلى نقاش تاريخي بل وعرقي. وقد استغلت اللغة العنصرية هذه اللحظة للتمييز والإقصاء بالبناء على مفهوم الأصالة، والذي نشهد أقصى مراحل تجلياته في قانون الجنسية 2005.
يرى قانون الجنسية أن لهذه الفئة (أي «الأصليين») وحدها دون غيرها الحق في المواطنة الكاملة. ويرى بعض من هذه الفئة أن في المطالبة بحق المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون مزاحمة لهم في امتيازاتهم، بل وحقهم «الأصيل» في أن يحظوا بهذه الامتيازات وحدهم، وهذا ينطوي على مفهوم خاطئ عن المواطنة أولًا، وعن الانتماء إلى دولة حديثة ثانيًا. ومن أشهر الحجج المتداولة مثلًا:
- لقد وُجدنا قبل الرفاه، وتحمل أجدادنا شقاء العيش في قطر وضنكه، وبهذا فإن المواطنة الكاملة مكافأة لنا، ولا عيب في ذلك
- من لا تعجبه قوانين الدولة فليعد من حيث أتى
- من الضروري لأمن واستقرار الدولة والحفاظ على النسيج الوطني ألا تُعطى لـ«المجنسين» حقوقهم الكاملة في المواطنة، ولا أن يتساووا مع «الأصليين»
يتضح من خلال هذه الحجج أن الانضمام إلى دولة حديثة وفق هذا المنظور يصوَّر وكأنه انضمام إلى ناد خاص، تقوم فيه العلاقة على أساس لحظة هي وليدة الصدفة، ويقرر هذا النادي نيابة عن بقية المجتمع مصيرهم المشترك اجتماعيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا. وهذا خطاب غالبًا ما يتصاعد مع كل أزمة في الخليج، حيث تطفح إشكاليات تتعلق بالمواطنة، وبثنائيات أصيل ومجنس، نحن والآخر.
إقصاء شريحة واسعة من المجتمع القطري من المشاركة الشعبية لا يعكس رغبة حقيقة في الانتقال الديمقراطي، فقوانين الجنسية الحالية تُناقض مفهوم المشاركة الشعبية القائم على مبدأ المساواة.
الإشكال الأساسي في هذا الخطاب ليس في كونه لحظة خطابية، وإنما يرتبط بنظرة السلطة للمجتمع الذي تحكمه بوصفه مجموعة من الرعايا لا مواطنين يمتلكون حقًا سياسيًا في تشكيل واقعهم، وتعيد إنتاج هذه النظرة عبر القوانين والفئات المستفيدة من الوضع القائم. وهذا ما يتطلب وقوفًا جادًا على مفهوم المواطنة. هنا أستعين بدراسة للكواري حول هذا المفهوم، يشدد فيها على ضرورة مراعاة المواطنة للمبدأ التالي:
«اعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، يتمتع كل فرد منهم بحقوق والتزامات مدنية وقانونية متساوية، كما تتوفر ضمانات قانونية وإمكانيات اجتماعية تتيح ممارسة كل مواطن حق المشاركة السياسية الفعالة وتولي المناصب العامة».
المأمول الآن التفكير في كيفية تجاوز الخطاب الذي يسيس الهويات الفرعية إلى خطاب وطني جامع، يشدد على ضرورة تحقيق العدالة والمساواة بين كل المواطنين والمواطنات الذين تربطهم بالدولة رابطة سياسية-قانونية، لا عرقية. وكذلك أن تشدد المطالب على إلغاء توزيع دوائر الانتخاب وفق أساس قبلي، وإنما على أساس العنوان الدائم للمواطنين، وأن يستمر النقاش حول ضرورة تعديل القوانين الحالية في حال كانت هناك رغبة حقيقية نحو الانتقال الديمقراطي، وهو ما تنص عليه دساتير دولة قطر منذ عام 1970، بوصف نظام الحكم القطري بأنه نظام حكم ديمقراطي.إن إقصاء شريحة واسعة من المجتمع القطري من المشاركة الشعبية لا يعكس رغبة حقيقة في الانتقال الديمقراطي، فقوانين الجنسية الحالية تُناقض مفهوم المشاركة الشعبية القائم على مبدأ المساواة. وبالتالي لا يمكن لمتابع هذه الأحداث إلا أن يخلص لنتيجة مفادها أن الانتقال إلى مجلس شورى «منتخب» في ظل القوانين الحالية ليس انتقالًا ديمقراطيًا، وإنما انتقال يسعى إلى إعادة إنتاج الوضع القائم وشرعنته من خلال مجلس شورى «منتخب».