برز في السنوات الأخيرة حديث مستجد عن أهمية الإسراع في برامج الخصخصة أو أنظمة التخصيص في دول مجلس التعاون الخليجي، في ظل سعيها للإصلاح الاقتصادي وإعادة النظر في دور كل من القطاعين الخاص والعام في التنمية الاقتصادية. أبرز ما جاء هو تقارير صندوق النقد الدولي الدورية لدول الخليج، والتي تصدر على إثر مراجعة دورية ونقاشات بين الصندوق والحكومات الخليجية. ولعل ما أعاد الحديث إلى الواجهة مجددًا هو التراجع الحاد في أسعار النفط في العام الماضي، والتوجه العالمي إلى مرحلة ما بعد النفط مع بروز أهمية الاعتماد على الطاقة المتجددة.
يلاحَظ تصدر المملكة العربية السعودية في تسريع وتيرة التخصيص مؤخرًا، من خلال العمل في إطار استراتيجية جديدة وإقرار مجلس الوزراء في المملكة نظام التخصيص الجديد في شهر مارس من العام الحالي. ولعل هذا الإقرار والعمل متسارع الوتيرة الذي تشهده السعودية في إطار التخصيص يعيد التساؤل حول برنامج التخصيص في دولة الكويت. ومن هنا يهمنا في هذا المقال مقارنة الخطط الموضوعة للتخصيص والأنظمة الموجودة والاختلاف في إدارة هذا الملف بين البلدين. وعليه، فمن أهم الأسئلة التي نطرحها هو كيف يكون تقييم العمل على التخصيص في الكويت مقابل ما تم ويتم تحقيقه في المملكة؟
يعود النقاش حول التخصيص والجدل القائم إلى الثمانينيات القرن الماضي، وأخذ يزداد زخمًا في التسعينيات، حين بدأت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة في عمليات الخصخصة، إلى أن تبعتها بقية الدول. وفي مفهومها البسيط، الخصخصة عبارة عن تسليم إدارة منفعة أو مؤسسة أو خدمة تديرها الحكومة أو القطاع العام إلى القطاع الخاص. الجدلية القائمة حول التخصيص تُعنى بالغايات المنشودة من عمليات التخصيص، وهل سيسهم التخصيص فعليًا في إصلاح اقتصادي وتنويع الدخل وتحقيق الكفاءة وتخفيف الأعباء على القطاع العام أم لا. وقد اتسمت قوانين الدول المختلفة بترجمتها الخاصة لمفهوم التخصيص وكيفيته. ومن خلال مقارنتنا للبرنامجين في السعودية والكويت، سنوضح المفهوم الخاص الذي استند عليه كل من القانونين.
برنامج الخصخصة السعودي: إعادة تصور جديدة
ظهر أول تشريع لقانون الخصخصة ووُضع برنامج التخصيص على جدول الحكومة في المملكة في العام 1997، حين وافق مجلس الوزراء السعودي على القرار رقم 60 بالموافقة على الخصخصة.
وبعد عقدين من الزمن جرى إطلاق وإعادة تفعيل برنامج التخصيص في العام 2018، من خلال إطلاق المركز الوطني للتخصيص وثيقة برنامج التخصيص، والتي وضعها المركز الوطني للتخصيص في السعودية بناء على ثلاثة ركائز: إرساء الأسس القانونية والتنظيمية (التي تحققت من خلال إقرار مجلس الوزراء قانون الخصخصة الجديد في مارس الماضي)، وإرساء الأسس المؤسساتية، وتوجيه مبادرات البرنامج الرئيسية. ولعل من المهم التوقف عند الإنجاز والإقرار السريعين للقانون الجديد، لكونه وقتًا قياسيًا يدل على أولوية وجدية في التنفيذ وقرارًا حاسمًا للمضي في تطبيق البرنامج.
مفهوم التخصيص الذي استند عليه القانون الجديد وبرنامج التخصيص وحددته وثيقة برنامج التخصيص السعودية يعنى بنقل ملكية الأصول من الحكومة إلى القطاع الخاص، ويشمل ذلك عقود بيع الأصول بشكل كامل أو جزئي، وعقود الشراكة بين القطاعين، والتي يمكن أن تأخذ أشكالًا متعددة. ويسري التخصيص على الخدمات التي تقدمها الحكومة، وعلى الأصول التي تملكها الحكومة بغرض تقديم الخدمات. وعليه، بُني برنامج وقانون التخصيص على مبدأين أساسيين، هما إتاحة الأصول المملوكة للدولة أمام القطاع الخاص، وتخصيص خدمات حكومية محددة.
بالنسبة إلى مستهدفات مشاريع التخصيص المفصلة الواردة في المادة الثالثة من قانون الخصخصة الجديد، فقد حددت أربعة أهداف تسعى الحكومة في المملكة لتحقيقها، تتمحور حول رفع كفاءة الاقتصاد الوطني، وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للجهات الحكومية وجعلها أكثر فعالية، بالإضافة إلى تحفيز القطاع الخاص المحلي والأجنبي على الاستثمار والمشاركة الفاعلة في الاقتصاد الوطني، وزيادة حصة القطاع الخاص في الناتج المحلي بما يحقق نموًا في الاقتصاد الوطني. أما أهم الأهداف التي شدد عليها النظام فهو العمل على توسيع نطاق مشاركة المواطنين في ملكية الأصول الحكومية، وزيادة فرص العمل والتشغيل الأمثل للقوى الوطنية العاملة، بالإضافة إلى تحديد القطاعات في قانون الخصخصة، مثل الصحة والتعليم والطاقة والإعلام وغيرها.
الأهم من ذلك هو التفصيل في المبادرات التي تتعلق بالقطاعات المختلفة في الوثيقة، ومنها «المدارس المستقلة» و«تحويل المواني إلى شركات» و«تحسين منظومة النقل» و«البرنامج الوطني للطاقة المتجددة» و«تخصيص قطاع الإنتاج في المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة»، إلى جانب العديد من المبادرات والتي بلغ عددها 30 مبادرة.
من ضمن هذه المبادرات الثلاثين هناك ثلاث مبادرات محورية تتسم بالأولوية وتحظى باهتمام خاص لتنفيذها، وهي «تحويل المواني إلى شركات» و«تخصيص قطاع الإنتاج في المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة» و«تطوير النهج التنظيمي لكشاف الفرص (لكشف المشروعات المحتملة في الشراكة بين القطاعين العام والخاص ومشروع بيع الأصول)». وعمدت الخطة إلى تحديد الأثر المتوقع، ولو أنها لم تشمل تحديدًا للآثار المالية الدقيقة، إلا أنها حددت الآثار العامة كتحقيق وفورات وعوائد حكومية ورفع مستوى الخدمات أو التشغيل وغيره.
برنامج الخصخصة الكويتي: مع وقف التنفيذ
استغرق إصدار وإقرار قانون الخصخصة بعد «انقطاع ووصل ومن بين مد وجزر»، حسب ما وصفه بيان غرفة تجارة وصناعة الكويت، 16 عامًا. أُقر القانون رقم 37 في شأن تنظيم برامج وعمليات التخصيص بصيغته الحالية في العام 2010. وفي العام 2015، وُضعت اللائحة التنفيذية للقانون. ومنذ ذلك الوقت حتى العام الحالي لم تشهد الكويت تسارعًا أو تقدمًا ملموسًا في عمليات التخصيص، بل ما هو أقرب إلى شبه توقف، إذ أكدت وزارة المالية في ردها على أسئلة نيابية طرحتها اللجنة المالية البرلمانية في العام 2019 أنها لم تخصخص أي مرفق منذ إقرار القانون 37 لسنة 2010. ولعل غياب الإطار الزمني في القانون الأساس أحد الأسباب الرئيسية في في تأخر الخصخصة والذي أعده بيان غرفة تجارة وصناعة الكويت من أهم الثغرات التي تضعف قدرة القانون على تحقيق أهدافه.
وبالرغم من طرح وثيقة إصلاح اقتصادي في العام 2016 تشمل خطة لإصلاح قانون الخصخصة، بالإضافة إلى تقدم الحكومة بمرسوم بقانون لتعديل قانون تنظيم برامج وعمليات التخصيص في العام 2019، فإنه لم يحدث أي تقدم يذكر في هذا الملف.
رغم انقضاء 11 عامًا على إقرار قانون الخصخصة، لا يزال الإطار العام والخطة العامة للتخصيص مبهمة وغير معلنة على المستوى الرسمي.
المفهوم الذي بُني عليه قانون الخصخصة الكويتي يشبه في جوهره ما بني عليه قانون الخصخصة السعودي بشكل عام، وبشكل خاص ينص على إطار رئيسي واحد هو نقل ملكية المشروع العام بشكل كلي أو جزئي وفقًا لأحكام القانون المنصوص. لذا نجد أن تمحور أهداف قانون الخصخصة الكويتي 2010 جاء حول الكثير من النقاط المشتركة مع القانون السعودي، وأهمها زيادة كفاءة القطاعات الاقتصادية في الكويت ورفع مستوى جودة السلع والخدمات وزيادة إنتاجية وإسهام العمالة الوطنية في الاقتصاد الوطني وتوفير البيئة اللازمة لاستيعاب العمالة الكويتية الناشئة في القطاع الخاص. وكذلك تشجيع دور القطاع الخاص في الأنشطة الاقتصادية وزيادة إسهامه في دعم الاقتصاد الوطني وتنمية سوق رأس المال المحلي وجذب رؤوس الأموال الوطنية من الخارج لاستثمارها في داخل الكويت.
أما من حيث القطاعات المستهدفة، فاستثنت المادة الرابعة من قانون الخصخصة قطاع النفط والغاز، ومصافي النفط، ومرفقي الصحة والتعليم، وما هو مغاير للقطاعات المستهدفة في القانون السعودي.
ورغم انقضاء 11 عامًا على إقرار قانون الخصخصة، لا يزال الإطار العام والخطة العامة للتخصيص مبهمة وغير معلنة على المستوى الرسمي، ما يعكس نوعًا من غياب الجدية من جهة وعدم الشفافية من جهة أخرى، الشيء الذي يتعارض مع صلب البرنامج، الذي يرتكز في أحد بنوده على زيادة الاستثمار الخارجي في الكويت، وهو الأمر الذي يتطلب شفافية ووضوحًا حول التطورات التشريعية والتنفيذية في ما يتعلق بالبرنامج وقانون الخصخصة.
في مثال الكويت، نجد أن وثيقة الإصلاح الاقتصادي ظهرت في الصحف بشكل مختلف عما وضعته المملكة في المتناول العام. فكان من أهم بنود الوثيقة إطلاق قدرات المجلس الأعلى للتخصيص عبر تعديل قانون الخصخصة (رفع الحظر عن تخصيص الصناعات النفطية ومرفقي التعليم والصحة). ووضعت الوثيقة خطة لشمل مشاريع أكبر ضمن برنامج التخصيص، مثل المطارات والمواني ومطبعة الحكومة ومحطات توليد الطاقة وتوزيعها، إلى جوار بعض مرافق وأنشطة مؤسسة البترول الكويتية والبريد والاتصالات السلكية واللاسلكية ومراكز الصرف الصحي وإدارة المدارس والمستشفيات الحكومية.
بالإضافة إلى ذلك، وضعت الوثيقة إطارًا لدخول المواطنين شركاء في المشاريع التي تُطرح عبر برنامج الشراكة بين القطاعين العام والخاص أو برنامج التخصيص، والذي حدد تخصيص 40% من أسهم المشروعات المخصخصة ضمن البرنامج للمواطنين، وكذلك تخصيص 50% من رأس مال المشاريع التي تُطرح وفق نظام الشراكة بين القطاعين للمواطنين. إلا أن حكومة الكويت لم تأخذ أي خطوة ملموسة تجاه أي مما ذكرته الوثيقة
بين الاثنين: ما الذي نستنتجه؟
رغم المراحل التي قطعتها دولة الكويت في مسيرة التخصيص، لا تزال الخطة خجولة ومبهمة، وتقتصر على الاجتهاد الصحفي في طرح ما هو غير معلن للعامة. يُحسب للحكومة وجود الخطوط العريضة في وثيقة الإصلاح الاقتصادي، وهو مؤشر إيجابي، بيد أنها تبقى غير مكتملة التفاصيل، وتبقى الخطة البينية غير واضحة مقارنة بالتي وُضعت لتنفيذ برنامج التخصيص السعودي، والذي رغم التحفظ على بعض العموميات الموجودة فيه، فإنه يوفر قاعدة يرتكز عليها في التنفيذ.
ولعل البحث في هذا الموضوع أوصلنا إلى استنتاج الآتي: مشكلة برنامج التخصيص الكويتي ليست أنه قانون أجوف، بل إن السياسة التنفيذية وخطة المجلس الأعلى للتخصيص جوفاء، لكونها تعتمد على خطوط عريضة نظرية في ظل غياب الجدولة والدراسات المالية الدقيقة لما يُتوقع تحقيقه من عوائد.
هناك مؤشر سلبي آخر هو غياب المعلومات أو صعوبة الحصول عليها في ما يتعلق بتطورات برنامج التخصيص في الكويت، لعدم وجود وضوح في الرؤية بالرغم من مواصلة المضي في بعض المبادرات. وبالإضافة إلى هذا، هناك بطء عملية التشريع والتخطيط في ظل الشلل الذي وشهدته تشهده الكويت في مجال التخصيص. أضف إلى ذلك غياب الحديث عن برنامج التخصيص كليًا في وثيقة «قبل فوات الأوان»، التي تقدم بها عدد من المختصين والأكاديميين لمناقشة طرحهم للإصلاح الاقتصادي، وهو ما يدل على فجوة كبيرة بين أهل الاختصاص والجهات التنفيذية والجهة التشريعية. لذلك تعد الشفافية في الطرح أمرًا ملحًا لسد الفجوة بين ما تتقدم به الحكومة وما تتلقاه اللجنة المالية المعنية في مجلس الأمة، وما يمكن لأهل الاختصاص المشاركة في تقييمه.
لعل عدم استعجال مناقشة التعديل الذي تقدمت به الحكومة في 2019 (والذي لا يتضمن بندًا يخص المبادرة المقترحة في وثيقة الإصلاح) بالإجراءات المطلوبة لرفع الحظر عن تخصيص الصناعات النفطية ومرفقي التعليم والصحة، هو ترجمة للانقطاع التام بين هذه المكونات المعنية والاختلاف الجذري حول موضوع التخصيص بين الرؤية الإصلاحية للحكومة وما تُرجم فعليًا في التعديل المقترح. ويشير هذا سلبًا إلى إحداث أي تقدم في هذا الملف ككل، لما لهذا التعديل من أهمية في تحقيق الأهداف المرجوة من التخصيص، وأهمها زيادة موارد الدخل الحكومي وتنويعها.
وبالنظر إلى الماضي، فقد وصفت غرفة تجارة وصناعة الكويت هذا الاستثناء في القانون الحالي بأنه «جانبه التوفيق»، لأن هذه القطاعات وتحديدًا الصحة والتعليم تمثل أكبر أبواب الميزانية العامة تكلفة وقياسًا إلى المردود والجودة، مقارنة بالدول الأخرى. ولذلك فمن أهم خطوات تفعيل خطة التخصيص هي البت في تعديل القانون، والذي هو من أبرز المبادرات في وثيقة الإصلاح الاقتصادي، بما يتعلق ببرنامج التخصيص.
وعليه، فإن غياب مركزية القرار يعد أحد أهم العوائق في إنجاز برنامج التخصيص في الكويت، كما أن البطء الذي شهدته ولا تزال تشهده عملية التخصيص من حيث إنجاز التشريعات المتعلقة ووضع اللوائح التنفيذية وتحديد المسؤوليات، يتعلق في معظمه بالمؤسستين التنفيذية (الحكومة والمجلس الأعلى للتخصيص مع هيئة الاستثمار الموكل إليها وضع دراسات الجدوى للقطاعات والمشاريع المدرجة للتخصيص) والتشريعية (مجلس الأمة). كل هذا علاوة على هيمنة البيروقراطية وعدم الاستقرار على العملية السياسية، والذي يسهم عادة في إضعاف برنامج التخصيص.
حين بدأت الكويت في قانون الخصخصة منذ 16 عامًا، كان التخصيص خيارًا لها ولسائر دول الخليج، إلا أنه أصبح ضرورة وواقعًا يجب التعامل معه بجدية الآن، من أجل تحسين المناخ الاستثماري ورفع كفاءة المؤسسات العامة ورفع معدلات النمو الاقتصادي، الذي شهد تراجعًا في النمو منذ إنجاز القانون عام 2010.
وفي حين أن التباطؤ الاقتصادي الذي شهدته الكويت، من تراجع الناتج المحلي للقطاعات غير النفطية بنسبة 2% سنويًا منذ 2010 وحتى 2020، قد يسهم في مزيد من التعقيد وتأجيل بعض مبادرات التخصيص، إلا أنه بات من الضروري العمل على وضع خطة شاملة مبنية على الواقع والإحصاءات الاقتصادية، وتحديد المبادرات ذات الأولوية والأهمية القصوى، مثل التي حددتها المملكة العربية السعودية والتي أشرنا إليها آنفًا. ويبقى وضع جدول زمني لكل ما يتطلبه برنامج التخصيص وإصلاحه أهم منطلق للتطبيق الفعلي.