أكثر ما يتكرر باستمرار في الكويت وبين الكويتيين أننا «ديرة دستور»، وأننا نتمتع، بخلاف غيرنا، بحقوق وحريات سياسية فريدة من نوعها في المنطقة. تتميز الكويت عن جاراتها الخليجية بأنها أول دولة وضعت دستورًا يضمن مشاركة شعبية واسعة، لكن ماذا يعني ذلك؟ هل الكويت ديمقراطية كاملة؟
نصوص الدستور ترسم البنية السياسية في الكويت، ولمعرفة تفاصيل ذلك يجب علينا تحديد أبرز «اللاعبين» في المشهد السياسي، ومدى نفوذ كل منهم، وعلاقاتهم ببعضهم البعض.
ما هي السلطات الثلاث؟
كل دولة تتشكل من ثلاث «سلطات»، وهذا معناه أن كل سلطة لها دور رئيسي في الدولة، والاستغناء عن إحداها قد يسبب خللًا في النظام نفسه. هذه السلطات هي:
- السلطة التشريعية: تتمثل في مجلس الأمة، وهي المسؤولة عن تشريع القوانين التي تدير شؤون البلد وتؤثر بشكل كبير على حياة المواطن، وكذلك مراقبة أعمال السلطة التنفيذية ومحاولة تقويم مسارها، والتصويت على تعيين أمير البلاد.
عادة ما تكون السلطة التشريعية ممثلة لاتجاهات عديدة من المجتمع، ويحرص الدستور على أن تتمتع بشرعية عالية عند المواطنين، وكلما زادت اتجاهات أعضائها زاد تمثيل نسبة المواطنين فيها. ولهذا فإن تقسيم الدوائر الانتخابية وعدد الأصوات له تأثيره الكبير على وصول الشرائح المجتمعية وتنوعها، وفي هذه النقطة تحديدًا تظهر مشكلة سياسية كبيرة متعلقة بطريقة تقسيم الدوائر التي تتحكم فيها السلطة التنفيذية، وبالتالي تضمن وصول الشرائح والفئات التي ترغب فيها.
خلق مرسوم «الصوت الواحد» الصادر في 2012 نظامًا انتخابيًا شبه مشوه لا يمثل الناخبين بشكل دقيق، وأثر ذلك على أعمال مجلس الأمة بشكل كبير. أنتجت كل انتخابات أُجريت وفق هذا النظام نتائج تمثل أقلية في الدوائر الانتخابية، وأدت إلى تفتت الفئات التي كانت تتكتل، وبرز بشكل كبير الصوت «الفردي» للنائب على حساب العمل الجماعي لتحقيق دور المجلس في تقويم الأداء الحكومي.
غيّر نظام الصوت الواحد من طبيعة أعضاء مجلس الأمة وسلوكهم السياسي، فبعد إقرار النظام قل بشكل ملفت وجود الكتل البرلمانية التنسيقية، وزادت الممارسات النيابية الفردية على حساب الأهداف المشتركة بين الأعضاء بسبب الطبيعة الفردية للحملات الانتخابية، رغم بعض المحاولات الأخيرة للتغيير.
- السلطة التنفيذية: تتمثل في مجلس الوزراء، وهي السلطة المسؤولة عن تنفيذ القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية، وفي الديمقراطيات الكاملة تكون هذه السلطة منتخبة. أما في الكويت فالسلطة التنفيذية معينة، وجزء منها من أعضاء مجلس الأمة المنتخبين، ولهذا يُطرح سؤال إذا ما كانت الكويت ديمقراطية كاملة.
بحسب المادة 80 من الدستور فإن أعضاء الحكومة، وعددهم 16 كحد أقصى، يشكلون ما يقارب ربع أعضاء مجلس الأمة. وبسبب طبيعة التضامن الحكومي، الذي يجعلها كتلة تصويتية موحدة داخل المجلس، تحتاج الحكومة إلى أن تنسق مع ثلث الأعضاء المنتخبين فقط للسيطرة على غالبية قرارات مجلس الأمة. يستثنى من ذلك التصويت على سحب الثقة وإعلان عدم إمكان التعاون، إذ منع الدستور مشاركة الوزراء فيهما. وللحكومة أيضًا اليد العليا في تشكيل مكتب المجلس ولجانه.
يُصدر مجلس الوزراء قرارات وزارية تتراوح أهميتها من منح الجنسية الكويتية وسحبها، إلى تنظيم التراخيص التجارية، إلى بناء المنشآت والشوارع والجسور.
وللسلطة التنفيذية كذلك صلاحيات استثنائية في إصدار قوانين عن طريق مراسيم ضرورة في حال غياب مجلس الأمة، ولكن المجلس لم يحدد هذه الصلاحيات عن طريق قانون، وتركها لتقدير السلطة التنفيذية، مما نتج عنه إصدار مرسوم بتعديل قانون الانتخاب عام 2012.
بشكل عام، ترسم السلطة التنفيذية ممثلةً في مجلس الوزراء السياسة العامة للدولة، وتؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية للفرد في الكويت. يُصدر مجلس الوزراء قرارات وزارية تتراوح أهميتها من منح الجنسية الكويتية وسحبها، إلى تنظيم التراخيص التجارية، إلى بناء المنشآت والشوارع والجسور. أداة الحكومة الرئيسية لرسم السياسة العامة هي برنامج العمل، الذي يلزم تقديمه إلى مجلس الأمة.
- السلطة القضائية: بخلاف دورها في الفصل في القضايا المرفوعة من الأفراد ضد بعضهم والتي ليست محل البحث هنا، فإن دور هذ السلطة المتعلق بالشأن السياسي يتمثل في المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية، إلا أنها عادة تكون محايدة في الأمور السياسية، ولا تتدخل إلا حول الخلافات القانونية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. يتركز دور المحكمة الدستورية في تفسير نصوص الدستور التي تختلف عليها السلطتان، وتحديد دستورية بعض القوانين التي ينشأ عنها خلاف حاد بين المشرع والمنفذ. وللمواطن دور مباشر في تفعيل دور المحكمة الدستورية عن طريق رفع دعاوى أمامها، وهو ما أُقر في عام 2014.
هذه السلطات الثلاث تعمل وفق مبدأ الفصل بين السلطات الذي نصت عليه المادة 50 من الدستور، بحيث يكون لكل سلطة صلاحياتها التي لا يجوز أن تتنازل عنها للأخرى، مع وجوب تعاون هذه السلطات في العمل.
هذا جزء من المواجهات السياسية في الكويت، إذ رغم وجود مبدأ فصل السلطات، فإن أعضاء الحكومة على سبيل المثال يكونون أعضاء أيضًا في مجلس الأمة ويصوتون على القوانين واللوائح ومنصب رئيس المجلس وغيره، وأعضاء النيابة العامة (الخطوة الأولى للتعيين كقضاة) تعينهم السلطة التنفيذية ابتداء بواسطة وزارة العدل، وتتولى الوزارة جزءًا مهمًا من العمل الإداري في المجلس الأعلى للقضاء، كأن يحل وكيل وزارة العدل مقعدًا فيه، أو أن ينظر المجلس الأعلى للقضاء في تعيين القضاة وترقيتهم وندبهم ونقلهم بناء على طلب وزير العدل، وذلك بحسب قانون تنظيم القضاء.
وبناء على تجارب تاريخية مرت على الكويت، تستطيع السلطة التنفيذية تعليق بعض مواد الدستور المتعلقة بصلاحيات مجلس الأمة لعدم وجود رادع قانوني يمنعها، بالإضافة إلى غياب النص القانوني الذي يجرم محاولة تعطيل مواد الدستور. وفي السابق، استطاعت السلطة التنفيذية تحقيق غياب مجلس الأمة لعدة سنوات عن طريق تعطيل المواد 107 و174 و181 من الدستور.
هذه السوابق تؤكد أن السلطة التنفيذية تستطيع أن تعطل وجود المجلس بأكمله، وتؤكد كذلك أنه من الممكن أن تعطل السلطة بعض المواد الأخرى التي تعطي أعضاء المجلس رقابة واسعة على أعمال الحكومة، مما يؤدي إلى تعطيل «جزئي» للمجلس بدل أن يكون تعطيلًا كاملًا.
وعلى هذا تُثار الكثير من النقاشات حول تداخل بعض أعمال السلطات مع بعضها، مما يتيح مجالًا للعب السياسي، فتأتي المطالبة بفصل كامل وأكبر بين هذه السلطات كأهم مبدأ في الديمقراطيات.
رئيس السلطات الثلاث
يعتبر الأمير رئيس الدولة حسب نص المادة 56 من الدستور، ولديه صلاحيات واسعة جدًا، لكنه لا يمارس صلاحياته بشكل مباشر، بل من خلال وزرائه. أما الصلاحيات المباشرة فلا يمارسها إلا من خلال إصدار الأوامر الأميرية، والتي تستخدم نادرًا. ومن أمثلة الأوامر الأميرية: ترشيح ولي العهد، وتعيين رئيس مجلس الوزراء. كذلك، حدد الدستور طريقة تعيين الأمير عن طريق مجلس الأمة، لذلك فلا يستطيع الأمير دستوريًا تعيين ولي العهد، أي الأمير المستقبلي، دون موافقة أغلبية أعضاء المجلس.
عوضًا عن أن الأمير يمارس صلاحياته من خلال وزرائه، فهو أيضًا يوقع على القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية، أو يرفضها، فيعاد التصويت عليها من المجلس إذا ما أراد إقرارها رغم ذلك.
لفترة طويلة في تاريخ الكويت، كان ولي العهد يعيَّن رئيسًا لمجلس الوزراء بشكل تلقائي دون الالتفات إلى خيارات أخرى، لكن في عام 2003 فُصل بين المنصبين، واستمر الفصل حتى يومنا هذا. ترك الدستور اختيار رئيس مجلس الوزراء بيد الأمير، ولكن لم يحدد دائرة الاختيار في فئة محددة، أي أنه يجوز دستوريًا تعيين أي شخص، سواء من أعضاء مجلس الأمة أو من غيرهم. وألزم الدستور الأمير بإجراء «المشاورات التقليدية» قبل التعيين، ولكن لم يعطِ نتائج هذه المشاورات صفة إلزامية على قرار الأمير.
يتولى الأمير السلطات الثلاث، إذ تذكر المواد 51 و52 و53 من الدستور أن يتولى الأمير والمجلس السلطة التشريعية، ويتولي الأمير ومجلس الوزراء السلطة التنفيذية، وتتولى المحاكم السلطة القضائية باسم الأمير.
فعوضًا عن أن الأمير يمارس صلاحياته من خلال وزرائه، فهو أيضًا يوقع على القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية، أو يرفضها، فيعاد التصويت عليها من المجلس إذا ما أراد إقرارها رغم ذلك.
تناغم السلطات مع بعضها
بناء على المادة 57 من الدستور، يعاد تشكيل الحكومة بعد انتخابات مجلس الأمة. وهنا نصت المذكرة التفسيرية للدستور بأن على الأمير أن «يراعي عند إعادة تشكيل الوزارة في هذه الحالة الأوضاع الجديدة في المجلس النيابي»، أي أن التشكيل الحكومي يجب أن يراعي المخرجات الانتخابية لضمان الانسجام بين السلطتين.
يأتي هذا لكون التغيرات الشعبية يجب أن تواكبها تغيرات في الإدارة، وإن لم يتوافق تشكيل رئيس مجلس الوزراء لحكومته مع تحولات الشعب عبر ممثليه، يؤدي هذا لعدم انسجام بين توجهات السلطتين، مما يتسبب في العديد من المواجهات، وهو ما حدث مؤخرًا في انتخابات 2020 التي اعترض فيها كثير من نواب المعارضة على عدم توافق الحكومة مع التغير الشعبي في البرلمان.
معظم الخلافات والمواجهات السياسية تقع في هذه النقطة، التناغم والتجانس بين السلطتين. وبعيدًا عن القوانين والمواد الدستورية، تلعب السياسة هنا دورها الأكبر، في ترتيب المواجهات، والعمل على تهدئتها أو إثارتها. تقول الوزيرة السابقة أماني بورسلي لبرنامج «أما بعد»، إن المواجهات طبيعية جدًا وجزء من العمل الرقابي، مشيرة إلى أنه على العكس، من غير الطبيعي أن تكون الحالة بين المجلسين هادئة بشكل كامل، لكنها تخرج عن السيطرة والمنطق في بعض الأحيان بحسب رأيها.
وفي جزء التناغم هذا أيضًا يظهر دور اللاعبين السياسيين والأقطاب المختلفة خلف الكواليس، إذ قد يُخلق نوع من التحركات الحادة التي يسببها عدم الانسجام في التوجهات بين السلطتين. وبخلاف ذلك، ففي داخل مجلس الوزراء نفسه قد تجد عدم تناغم بين الوزراء أنفسهم، مما يضر مبدأ التضامن الوزاري.
تحدث الوزير السابق بدر الحميضي لبرنامج «أما بعد» عن تجربته مع أحد الوزراء، الذي هدده بعدم الوقوف إلى جانبه في الاستجواب إن لم يقدم له خدمة بالواسطة. ويشاع الكثير عن الخلافات داخل مجلس الوزراء بين بعض الأقطاب، وتجييش أعضاء مجلس الأمة كلٌّ ضد الآخر.
هذه الأسس التي عرضناها هي التي ينطلق منها فهمنا لما يدور حولنا في الوضع السياسي الكويتي، ولهذا أهمية كبيرة في تفكيك أفكارنا واستيعابنا لما يحصل.