مع تأزُّم الوضع الاقتصادي في أوروبا عام 2013، هزت قضية التهرب الضريبي، التي تورط فيها وزير الميزانية الفرنسي «جيروم كاهوزاك»، الرأي العام الأوروبي.
الكشف المستمر عن فضائح سياسية واقتصاية يزيد من انعدام ثقة المواطن في نُخَبه السياسية، ويصب في نظرية «كلهم فاسدون». حينها تساءلت الصحيفة الفرنسية «لوموند» عن سبب تراجع ردود أفعال المواطنين الغاضبة «عندما يرون أن أكبر مسؤول مالي في الدولة يتنصل ببرود من التقشف والجهود التي يطلبها منهم»، في إشارة إلى الإجراءات التقشفية التى أُجبر عليها بعض بلدان جنوب أوروبا.
قبل فضيحة كاهوزاك بعام واحد فقط، أصدرت منظمة الشفافية العالمية تقريرًا بعنوان «المال والسلطة والسياسة.. مخاطر الفساد في أوروبا»، ناقشت فيه عمليات تشجيع الفساد وعرقلة استقرار الاقتصاد بسبب تزاوج المال والسياسة. حينها دعت المنظمة إلى الإسراع في تقنين عمل جماعات الضغط التي تؤثر في قرارات الحكومات، وتعزيز الشفافية بشأن تمويل الحملات الانتخابية، وتمكين مؤسسات مكافحة الفساد.
أصبح الفساد في بلدان أوروبا أمرًا روتينيًّا، ففي إيطاليا، هناك محاكمات في قضايا فساد بحق رئيس الوزراء السابق «سيلفيو برلسكوني»، وفي إسبانيا، تورطت العائلة الملكية في تحويل عدة ملايين يورو من الأموال العامة، ويلاحَق في تلك القضية «إينياكي أودنغارين»، زوج ابنة الملك الصغرى «كريستينا»، التي استدعيت شخصيًّا للمثول أمام القضاء.
أما في اليونان، تجري ممارسة التهريب الضريبي على نطاق واسع عبر شركات «أوف شور»، وتورطت ثلاث حكومات في «لائحة لاغارد»، التي تضم ألفي اسم ليونانيين لديهم حسابات مصرفية في فرع سويسري من بنك «HSBC».
وفي بلجيكا، أنشأت الملكة «فابلولا» (84 عامًا) مؤسسة خاصة في نهاية 2012 لتفادي دفع حقوق الإرث. وفي بريطانيا هناك فضائح تتعلق بنفقات النواب، والاحتيال على المعاشات التقاعدية في النرويج، والمحسوبية في التشيك ورومانيا، وتضارب المصالح في بلغاريا وفنلندا وسلوفينيا.
في نفس سياق تساؤل «لوموند» الفرنسية بشأن غضب المواطنين إزاء تنامي الفساد، أكدت استطلاعات رأي أعدها الاتحاد الأوروبي أن ثلاثة أرباع الأوروبيين لديهم اعتقاد قوي بتنامي الفساد الذي لا يمكن السيطرة عليه.
يرى النائب في البرلمان الأوروبي «دونيس دو جونغ» أن تمكين المواطنين من الحصول على المعلومات المتعلقة بكل المجالات التي تهمهم، سواء في بلدانهم أو على مستوى المؤسسات الأوروبية، يشكل ضمانًا ضد محاولات الفساد.
تأكُّد هذا العدد الضخم من مواطني الاتحاد الأوروبي من تأصُّل الفساد السياسي والاقتصادي، الذي يؤثر بشكل مباشر على حياتهم، يدفعهم بطريقة ما إلى البحث عن وسيلة لتغيير هذه الحقيقة بأنفسهم وبطرق قانونية، في وقت توانت فيه الحكومات لأنها قد تكون أحد أطراف الفساد، وعجزت مؤسسات محلية وإقليمية عن تنفيذ قوانين تحد من الفساد، وكُشفت فيه قضايا طالت شخصيات حكومية.
سرطان الفساد ينتشر في الجسد الأوروبي
تعمل دول الاتحاد الأوروبي على تحسين تدابير محاربة الفساد، لكن آليات التنفيذ غير الكافية تمثل أكبر عقبة نحو خطوات إيجابية على مستوى القارة بأكملها.
يُعاني جميع دول الاتحاد من الفساد دون استثناء، ووصفته «سيسيليا مالسروم»، ممثلة المفوضية الأوروبية للشؤون الداخلية، بأنه «أمر مرعب»، خلال مؤتمر صحفي بعد إعلان المفوضية تقرير الفساد.
تصل تكلفة الفساد إلى أكثر من 120 مليار يورو سنويًّا، أي ما يعادل ميزانية دول الاتحاد كلها. ويصف التقرير الأول من نوعه الصادر عام 2014 حالة الفساد في كل دولة على حدة، ويشمل إجراءات مكافحة الفساد والتدابير التي ثبت نجاحها والتي تحتاج إلى تحسين، إضافةً إلى الإمكانات اللازمة لمكافحة فعالة لمظاهر الفساد.
تتابع منظمة الشفافية الدولية استفحال الفساد، فقد أكد رئيس المنظمة «خوسيه أوغاز»، بعد التقرير الصادر عام 2016، أن الحكومات في أوروبا لا تحرك ساكنًا لتتبع الفساد، وأن أشخاصًا في سُدّة الحكم يستفيدون من هذا الوضع القائم، بينما يكمُن حل الأزمة في شفافية معلومات ملكية وإدارة الشركات التي تقدم الخدمات العامة.
استبعد أوغاز تحسن الوضع القائم طالما استمرت نفس النُّخب في شغل مناصب سياسية، ورأى أن الحل قد يكون في ضغط المواطنين لطلب معايير محددة من القادة، واستقلال القضاء كي يتمكن من محاسبتهم.
في المقابل، يشعر المواطنون بالضعف وقلة الحيلة أمام الفساد في بلادهم، ويمكن تلخيص الصورة بعملية «مقايضة السلطة بالأموال».
وبينما تعمل دول الاتحاد الأوروبي على تحسين تدابير محاربة الفساد خلال السنوات الأخيرة بشكل واضح، فإن آليات التنفيذ غير الكافية تمثل أكبر عقبة نحو إحداث خطوات إيجابية على مستوى الاتحاد بأكمله. وتعمل المفوضية الأوروبية جاهدةً على مراقبة التطبيق السليم للأدوات القانونية الخاصة بمصادرة الأصول في حالات الفساد والجريمة المنظمة.
كل التقارير والمؤتمرات التي تتخذ من فضائح الفساد السياسي والاقتصادي أُسسًا قوية لإيضاح الصورة، تُضفي خوفًا من عدم جدية الحكومات في محاربة الفساد. ومع عدم فعالية القوانين التي تصدرها مؤسسات لا تملك سلطة التنفيذ، يكون المواطن فقط بيده مفتاح الحل في التصدي للفاسدين، لأنه ببساطة الخاسر الوحيد في لعبة الفساد التي تُدار من النُّخب.
اقرأ أيضًا: الخريف الأوروبي: كيف يهدد اليورو وحدة القارة؟
كيف يشارك المواطن الأوروبي في رقابة حكومته؟
كان من المتوقع أن تُصدِر المفوضية الأوروبية تقريرًا عن حالة الفساد لعام 2016، لكن نائب رئيس المفوضية «فرانس تيمرمانس» ألغى ظهور التقرير بشكل مفاجئ.
هذه الخطوة تثير التساؤل عن ماهية تلك المعلومات، وعن وصول الفساد إلى حد أعلى مما كان عليه في السابق، وعن مدى فعالية حكم القانون.
يمثل إهدار المجهود الضخم المبذول لجمع معلومات لحالة الفساد في 28 دولة أوروبية تحديًا كبيرًا أمام المواطنين والمجتمع المدني، بشأن محاسبة المسؤولين وتتبع الفساد.
إذا كانت القوانين والمؤسسات بهذا الضعف، فالواجب على المواطن أن يشارك في التخطيط والمراقبة عن طريق المشروعات المحلية، كي يتمكن من تقليل فرص الفساد المحتملة. وفي نفس الوقت، يجب إعطاء الأولوية للانتخابات، واجتماع المسؤولين بالمواطنين للعمل على خلق برامج تناسب الحاجات المختلفة للأفراد، أو ما يُعرف بـ«الحوكمة المحلية».
يمكن أيضًا الاستفادة بتكنولوجيا المعلومات والإنترنت لفتح النقاش وتحسين أداء المسؤولين، بديلًا عن الانتظار لفترة انتخابية مستقبلية. يمكن أن يكون التقدم والتطور أطول بهذا الطريق، لكن التغيير بنتائج أفضل سيأتي لا محالة.