يشهد كثير من الدول العربية انتهاكات متزايدة ومستمرة لحقوق الإنسان وحجرًا على حرية التعبير والاحتجاج، في صورة اعتقالات غير قانونية وعمليات تعذيب للنشطاء والفاعلين الحقوقيين المعارضين لها، وذلك بعد أن كان الأمل معقودًا على الثورات لتجاوز مخلفات الأنظمة القمعية، التي كانت متحكمة في عدد كبير منها.
في تونس، وبعد المكتسبات التي حققتها الديمقراطية منذ سقوط حكومة بن علي في 2011، يهدد مشروع قانون جديد، سيحول أفراد قوات الأمن إلى مواطنين فوق العادة لا يمكن انتقادهم أو محاسبتهم أو مساءلة سلوكهم التعسفي، بإعادة البلاد إلى عهد الدولة البوليسية كما كانت في عهد بن علي.
وفي المغرب، عقب الاحتجاجات المطالبة بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها منطقة الريف، والتي تبعتها اعتقالات في صفوف أبرز قياديي ونشطاء هذا الحراك، لم تتورع قوات الأمن عن استخدام القوة والعنف لفض الاحتجاجات السلمية في عدد من المدن، رغم أن الدستور يكفل للمواطنين حق التجمع.
كذلك، في يونيو 2017، تعرض متظاهرون ضد اتفاق الحكومة اللبنانية على تمديد فترة ولاية البرلمان للضرب والتعنيف على يد عناصر من الجيش اللبناني وسط بيروت، مع أن المحتجين لم يواجهوا أفراد الأمن وكانوا غير مسلحين، وهو ما يذكِّر بالاستخدام غير القانوني للقوة من قِبل الأجهزة الأمنية في أغسطس 2015.
لا ينحصر استعمال القوة المفرطة والتدخل العنيف في حق المتظاهرين والمعتقلين على الدول العربية فقط، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، أظهرت دراسة أن الشرطة الأمريكية قتلت قرابة ألف شخص خلال عام 2015، الأمر الذي استجاب له المواطنون بالخروج إلى الشوارع للاحتجاج على عنف الشرطة المتزايد تجاه الأمريكيين السود.
استجاب المسؤولون الحكوميون في أمريكا لمطالب الشارع بإنشاء فرق عمل متخصصة للتوصية بأفضل الممارسات التي يجب تبنيها من طرف قوات الأمن، والتحقيق مع مراكز الشرطة المضطربة، وتنفيذ الإصلاحات المقررة، وأُنشئت أيضًا وكالات مراقبة مستقلة للحد من إساءة استخدام قوات الشرطة لسلطاتها.
قد يبدو أن هذه السياسات المقررة يمكن أن توقف الممارسات التعسفية لقوات الأمن، لكن مقالًا منشورًا على موقع «The Conversation» يرى أن الإصلاحات التي تطول أجهزة الشرطة غالبًا ما تفشل، ويضرب أمثلة على هذا بالسياسات الإصلاحية في عدد من دول أمريكا اللاتينية، التي أخفقت لأسباب سياسية واجتماعية عدة.
السياسة تتعارض مع الإصلاح
في عامي 1993 و1998، أجرى مسؤولون حكوميون في كولومبيا وبوينوس آيرس عاصمة الأرجنتين إصلاحات على مؤسسات الشرطة، استجابةً لارتفاع معدلات الجريمة وانتشار استعمال العنف بين رجال الشرطة واستشراء الفساد.
وُضعت قوانين شاملة لإصلاح مؤسسة الشرطة بعد إجماع سياسي واسع، إذ سَنَّ المشرِّعون في الكونغرس الكولومبي والهيئة التشريعية الإقليمية في بوينوس آيرس قوانين لتجريد قوات الشرطة الوطنية من السلاح.
لكن هذا التحسن لم يدم طويلًا، فبعد مرور عام واحد من إقرارها، تعهد الرئيس الكولومبي المنتخب حينها، «إرنستو سامبر»، بأن يتخلى عن هذه الإصلاحات، معلنًا أن حكومته ستسمح للشرطة الوطنية بتنظيم ذاتها.
أثبتت التجارب أن انتخاب سياسيين يروجون لاستراتيجيات بوليسية صارمة يرتبط بتزايد عمليات القتل وقمع المواطنين بعنف.
حدث الأمر نفسه في بوينوس آيرس بعد انتخاب «كارلوس روكوف» عام 1999، ومع أنه ترك الإصلاحات التي طالت نظام الشرطة على حالها، فإن أسلوب مكافحة الجريمة الذي روج له اعتمد على استخدام الأسلحة لصد المجرمين.
في كلا البلدين، استغل السياسيون مخاوف المواطنين من ارتفاع معدلات الجريمة من أجل الدعوة إلى استقلالية الشرطة، ولكي تكون أكثر صرامة في التصدي للجريمة.
قد يهمك أيضًا: كيف تستفيد الأنظمة من رهبة الشعوب؟
تبع هذا فترات شهدت إصلاحات مضادة لتلك التي أُقرت سابقًا، وأفرزت الإصلاحات الجديدة زيادة استقلالية الشرطة، وغياب المساءلة والمحاسبة، وارتفاع معدلات التسلح في صفوف رجال الشرطة، وأيضًا عمليات قتل خارج نطاق القضاء.
تتفق هذه النتائج مع عدد من البحوث التي أُجريت على نظام الشرطة في أمريكا اللاتينية، فقد أثبتت أن انتخاب سياسيين يروجون لاستراتيجيات أكثر صرامة في ما يخص عمل رجال الشرطة يرتبط بتزايد عمليات القتل، وكذا قمع المواطنين بعنف.
تبين هذه الأمثلة صعوبة التوفيق بين أهداف إصلاحات الشرطة طويلة الأمد وأهداف السياسيين قصيرة الأجل، ممَّا يؤدي غالبًا إلى تطبيق سياسات متعارضة تلغي واحدة الأخرى مع انتخاب حاكم جديد.
توقف الدعم الشعبي والسُّلطة المضادة
يشير المقال كذلك إلى أن امتناع قوات الشرطة عن الالتزام بالإصلاحات يرجع إلى قدرتها الكبيرة على التدخل لتقويضها، ففي بوينوس آيرس، نجح مسؤولون في الشرطة في إلغاء نظام تجمعات يسمح للمواطنين بمراقبة عمل رجال الشرطة، بعد الضغط على المحافظ ووزير الأمن كي يقللا التمويل وعدد الموظفين اللازمين لتشغيله.
تكسب الحملات السياسية التي ترفع شعار الضرب بقوة وصرامة على يد الجريمة في العادة دعمًا واسعًا بين صفوف الناخبين.
على النقيض من ذلك، أُنشئ نظام تشاركي في ساو باولو البرازيلية استمر لثلاثة عقود، دُمجت فيه الشرطة مع الهيكل الإداري للمجالس المحلية، ممَّا سمح بخلق علاقة أكثر تعاونية بين المواطنين وقوات الأمن. ونتيجةً لهذا، صار ضباط الشرطة يرون في هذه المنتديات مناصرين لهم، الأمر الذي أسهم في استمرار هذه المساحات التشاركية، رغم أن المواطنين لا يتمتعون فيها بأي سلطة رقابية على عمل الشرطة.
تتضرر هذه الإصلاحات أيضًا بسبب توقف المؤيدين عن دعمها، ففي بوينوس آيرس وكولومبيا، ظلت منظمات حقوق الإنسان نشطة عندما بدأ السياسيون في عكس مضامين القوانين التي صودق عليها سابقًا، غير أن الغضب المجتمعي المشترك الذي حقق الإصلاح في المقام الأول تبدد تدريجيًّا، ومعه تلاشى الزخم الذي كان لازمًا للحفاظ على الإصلاحات على المدى الطويل.
إصلاح الشرطة مستحيل في غياب المجتمع المدني
تكسب الحملات السياسية التي ترفع شعار الضرب بقوة وصرامة على يد الجريمة في العادة دعمًا واسعًا في صفوف الناخبين، ويشير المقال كذلك إلى بعض الأبحاث التي تكشف أن الائتلافات المؤيدة لسلطة القانون، الممثلة في منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والسياسيين المدافعين عن سيادة القانون والنظام، لها قدرة كبيرة على تعبئة الموارد والحصول على دعم شعبي.
الفشل في الحفاظ على هذه الائتلافات يعني تلاشي القوة المقابلة التي يمكنها مواجهة الضغوط السياسية المستمرة، وغياب دعم داخلي من مسؤولي الشرطة الذين لديهم مصلحة في الحفاظ على الإصلاحات يجعل من غير المرجح استمرارها لمدة طويلة، ويعني هذا أن ضعف المجتمع المدني وغياب مصلحة الشرطة في الإصلاح يؤدي بالضرورة إلى فشله.
قد يعجبك أيضًا: نظرة إلى جذور العنف في منازلنا ومجتمعاتنا
يحذر معارضو الإصلاح في الولايات المتحدة مثلًا من أن الجريمة ستتفاقم في الفترة القادمة، ويصرحون بأن التدقيق المستمر في عمل رجال الشرطة وإخضاعهم للمراقبة يجعل تدخلاتهم لكبح الجريمة ضعيفة ومترددة، وهي الحجج التي تدفع المواطنين في كل مكان إلى الاعتقاد بأن إصلاح مؤسسة الشرطة يجعلها أقل فعالية في مكافحة الجريمة.
بنفس الطريقة، ترى الحجة المضادة لإصلاح الشرطة في الدول العربية، وفي أي مكان آخر في العالم، أن هذا الإصلاح يعني بالضرورة تحييد أجهزة الشرطة وإلغاء دورها، ويصبح هذا الإصلاح مستحيلًا إذا لم تقف خلفه منظمات مجتمع مدني قوية وفعالة.