في الحياة معلومات نحفظها عن ظهر قلب، نعتقد أنها تحمل الحقيقة الكاملة، وقد لا نصدق أن تلك الحقيقة التي آمنَّا بها لسنوات طوال قد تكون لها زوايا أخرى، لا نراها ولم نسمع بها من قبل.
الحرب العالمية الثانية، حين نذكرها، تقفز إلى أذهاننا سريعًا العداوة بين ألمانيا والحلفاء، وأبرزهم إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، ونتذكر حرب الفوهرر أدولف هتلر على اليهود ومعسكرات الإبادة الألمانية النازية. لكن من شِبه المستبعَد أن تتخيل أنه في الوقت الذي كانت أجساد اليهود فيه تُكدَّس في معسكرات الهولوكوست الألمانية، كان هناك يهود آخرون يحملون السلاح للدفاع عن «الرايخ» و«الفوهرر»، أو أن جيوش الحلفاء كان من أمهر محاربيها ألمان وقفوا وجهًا لوجه ضد أبناء بلدهم.
إنه الوجه الآخر للحرب العالمية الثانية الذي لا يعرفه كثيرون.
منذ صعود هتلر إلى سُدَّة الحكم بدأ طريق اليهود يتمهد إلى مصيرهم الأسود، ومع مرور السنوات، كانت تمتلئ معسكرات الإبادة شيئًا فشيئًا، يحوم فيها ملك الموت يقبض الروح وراء الأخرى. لكن، ووسط هذا الجنون والاضطهاد، كان يهود آخرون يحاربون على بعد مئات الكيلومترات على أرض فنلندا، لصالح عدو يحارب كل من يعتنق دينهم.
عدو عدوي صديقي: التحالف الغريب بين يهود فنلندا والألمان
يونيو 1941، الحرب المشتعلة تنضم فيها فنلندا إلى صفوف دول المحور عملًا بمبدأ «عدو عدوي صديقي»، وكان عدو فنلندا الأول هو الاتحاد السوفييتي.
تحت وطأة الموقف، كان 300 من الجنود الفنلدنيين في وضع غريب، فديانتهم يهودية، وعليهم أن يحاربوا تحت راية الدولة التي ترغب في إبادتهم من على وجه الأرض، ففي التحالف معها الأمل الوحيد في استرداد أرضهم المحتلة من السوفييت، في ما أُطلِق عليها «حرب الشتاء».
اليهود في فنلندا كانوا دائمًا ما يُنظَر إليهم نظرة شك، وبعضهم كان لا يراهم فنلدنيين من الأساس. لذا، فكانت أيضًا فرصة لإثبات انتمائهم إلى بلادهم.
«كان عليَّ أن أؤدي واجبي مثل جميع الجنود. لم نكن يهودًا نحارب في الجيش الفنلندي، كنا مواطنين فنلنديين، جنودًا فنلنديون، نحارب من أجل بلادنا»، بهذه الكلمات برَّر «آرون ليفسون»، أحد الجنود الفنلديين اليهود الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، قتاله إلى جانب الجيش الألماني.
بالنسبة إلى ليفسون، الذي تحدث إلى صحيفة «تلغراف»، كانت فنلندا وألمانيا تخوضان حربين مختلفتين، فالأولى تحارب للدفاع عن النفس، أما الثانية فكانت تخوض حرب احتلال: «لم تكن لي علاقة بالألمان، لم يكن هناك ألمان حيث خدمت، كانوا على بعد 200 كيلومتر شمالًا من كتيبتي».
ربما كان ليفنسون محظوظًا بعدم مشاركته أرض المعركة مع الألمان والاحتكاك معهم بشكل مباشر، لكن غيره من اليهود في الجيش الفنلندي لم يملكوا الحظ ذاته.
في كاريليا على الحدود الروسية، حارب الفنلنديون جنبًا إلى جنب مع الألمان، وكان على اليهود أن يتعاملوا مع العدو المرابط في وجههم والعدو الكائن بين صفوفهم.
وفيما تملَّكهم الخوف أحيانًا من اكتشاف الجنود الألمان حقيقتهم، كانت المفاجأة أن جنود هتلر لم تكن ردود أفعالهم عنيفة حين اكتشفوا حقيقة بعض الجنود الفنلنديين، ورأوا أن هؤلاء الرجال ليسوا سوى فنلنديين يحظون بكامل مساندتهم. ورغم صدمتهم أحيانًا من القتال بجانب يهود، لم يملك الألمان السلطة للتخلص منهم، بل على العكس، كانوا يؤدون التحية للضباط الأعلى رتبة منهم، حتى وإن كانوا يهودًا.
على الجبهة نشأت علاقات صداقة بين اليهود الفنلنديين والجنود الألمان. «جون سايمون»، الذي أجرى عددًا من الحوارات مع المحاربين القدامى للحرب العالمية الثانية، يروي لتلغراف أنه سمع قصة «عن جندي يهودي كان في طريقه للعودة إلى المعسكر مع جندي من نفس الرتبة في الجيش الألماني. قال اليهودي حينها للألماني: عندما نعود إلى المعسكر لا تقل لأحد إنني يهودي. رد عليه الألماني: لكن لن يحدث لك شيء، أنت جندي فنلندي، أنا من ستحدث له مشكلة».
لم يتوقف الأمر عند علاقات الصداقة، بل امتد إلى علاقات الحب أيضًا. ينقل تقرير تلغراف أنه في المستشفى الرئيسي في أولو شمالي هيلسينكي العاصمة، وقع أحد المصابين الألمان في غرام ممرضته الفنلندية اليهودية «شاي شتاينبك»، وكتب لها خطابًا قال فيه: «إلى حبيبتي، أخبرتك ماذا تعنين بالنسبة إليَّ، أما ماذا أعني أنا لك، فلم أسألك قط، لا أريد أن أعرف، لا أريد أن أسمع، لأن المعرفة الزائدة عن الحد قد تدمر سعادتي. سأقول لك شيئًا واحدًا، سأعطيك كل ما يتمناه قلبك، أنت المرأة التي أحببتها أكثر من أي شيء آخر، وحتى الآن لم أكن أصدق أن شيئًا من هذا القبيل موجود».
احتفظت الممرضة بالخطاب إلى جانب عدد من خطابات الحب الأخرى من الجنود الألمان المصابين. وتحكي ابنتها أن «النساء غير الآريات لم يكن من المفترض أن يعتنين بالرجال الآريين، والألمان كانوا يعلمون أن والدتي يهودية. لكن، ورغم ذلك، أعجبوا بها».
ربما حارب يهود فنلندا إلى جانب الألمان، لكن الثلاثة الذين قررت ألمانيا تكريمهم فاجأوا القيادة الألمانية برفض التكريم.
الحال نفسه كان مع مساعدة التمريض الفنلندية اليهودية «دينا بولياكوف»، التي تركت انطباعًا قويًّا عند المصابين الألمان، حتى قررت القيادة الألمانية تكريمها بأحد أعلى الأوسمة العسكرية: الصليب الحديدي.
لم تكن بولياكوف اليهودية الوحيدة التي قرر هتلر تكريمها، فالفوهرر كرم الطبيب «ليو سكارنيك» أيضًا، الذي خدم ضمن الكتيبة «53 مشاة» إلى جانب كتيبة من قوات «SS» الألمانية، في منطقة شهدت اشتباكات عنيفة وإصابات كبيرة في صفوف رجال المحور.
وكطبيب في قلب المعركة، لم يفرق ليو بين المصابين الألمان والفنلنديين، ودخل مناطق خطرة رفض ضباط ألمان دخولها لإنقاذ زملائهم المصابين. كانت شجاعته مبهرة للألمان، ما جعل قيادتهم تقرر تكريمه إلى جانب الجندي الفنلندي اليهودي «سالامون كلاس»، الذي أظهر شجاعة كبيرة واستطاع فتح الطريق للتعزيزات الألمانية للصعود أعلى أحد التلال.
لا تزال فكرة مساعدة يهود فنلندا للألمان تثير توترًا بين صفوف المحاربين الذين خاضوا تلك المعارك حتى الآن. «لم نساعد الألمان. كان لدينا عدو مشترك هو الروس، وكانت هذه هي المسألة كلها»، هكذا يقول «كينت نادبورنك»، رئيس رابطة قدامى المحاربين اليهود الفنلنديين، لتلغراف.
رغم إصرارهم على أنهم غير نادمين على القتال بجانب الألمان في تلك الحرب الدموية، يوضح «بول كينديل»، صحفي تلغراف الذي أجرى الحوارات، يوضح أن الأثر النفسي الذي تركته الحرب عليهم واضح بشدة كلما فُتح الحديث عنها.
ألمان في مواجهة النازي
مثلما لعب اليهود الفنلنديون دورًا غير مألوف في الحرب العالمية بالقتال إلى جانب عدوهم، كان آخرون يفعلون الشيء نفسه في الجهة الأخرى: هناك شباب يحملون الجنسية الألمانية، هربوا من بلادهم ومعسكرات الإبادة والمحارق، لينضموا إلى جيوش الحلفاء يحاربون ضد النازية، من أجل إسقاط زعيمها.
من بين قرابة 10 آلاف لاجئ ألماني ونمساوي استقروا في الأراضي البريطانية، تطوع عدد لارتداء الملابس العسكرية للبحرية الملكية وسلاح الجو الملكي والجيش البريطاني، للوقوف في وجه الفكر النازي المسيطر على بلادهم، كما تروي الكاتبة المهتمة بالحرب العالمية الثانية «هيلين فراي»، في كتابها «The King's Most Loyal Enemy Aliens».
«اندلعت الحرب، وشعرنا بأنها تخصنا كما تخص جميع الأطراف. كنا ندين لبريطانيا بإنقاذ حياتنا. لم أكن معارضًا لألمانيا، كنت بالتأكيد مهتمًّا بمحاربة النازيين»، هكذا يروي «كلاوس أشر»، الذي غيَّر اسمه في بريطانيا إلى «كولين أنسون» والتحق بالقوات البريطانية متطوعًا وهو في الثامنة عشر من عمره، رغم أن والده من قدامى المحاربين الألمان في الحرب العالمية الأولى، ووالدته الشقراء كانت تنتمي إلى العرق الآري.
كان هروب الفتى الألماني من بلاده نتيجة معارضة والده لسياسة هتلر، ما قاد الأب إلى معسكر الإبادة في داتشاو، ليقُتل عام 1937. وقبل إتمامه السابعة عشر، غادر كلاوس ألمانيا إلى بريطانيا، تاركًا والدته التي لم تستطع اللحاق به.
خاض جنود ألمان عمليات خلف خطوط العدو وأعمال استخباراتية في صفوف القوات البريطانية، وشاركوا في إنزال نورماندي.
في بريطانيا عام 1940، تطوَّع الشاب في الوحدة الوحيدة التي سُمح للاجئين بالالتحاق بها، والتي أطُلق عليها وحدة «الأعداء الأجانب الأكثر ولاءً للملك». ولم يكن أشر الألماني الوحيد الذي تطوع في الجيش البريطاني حينها، بل تطوع معه «هورست هيرسبيرغ» الذي أصبح في بريطانيا «بيل هاورد»، و«إيغناس شفارس» الذي صار «إيرك ساندرس»، و«هيلمت روسيتينشتاين» الذي غير اسمه إلى «هاري روسني»، وآخرون.
خاض جنود ألمان عمليات خلف خطوط العدو وأعمال استخباراتية في صفوف القوات البريطانية، وشاركوا في إنزال نورماندي، الذي يعد أشهر معارك الحرب وأهمها.
في عام 1942، سُمح لكتيبة الألمان بالالتحاق بأفرع أخرى من الجيش البريطاني، واستطاع أشر الانضمام إلى قوات «المارينز» البحرية الملكية، ليخوض معركة غزو جزيرة صقلية الإيطالية، إلا أن سفينته تعرَّضت للقصف من الطيران الألماني وأصيب في رأسه، لكنه استطاع إكمال الحرب، ليلتقي والدته مجددًا بعد نهايتها، ويجلبها لتعيش معه في بريطانيا.
لم يكن أشر يهوديًّا، لكن معظم الألمان الذين التحقوا بالجيش البريطاني كانوا يهودًا. تُقدر هيلين عددهم ما بين 85% و90%. توضح فراي أن «معظمهم فقد أشخاصًا من عائلاتهم في الهولوكوست، أما غير اليهود، فكانوا من أعداء النازية أو الفنانين الثوريين». جميعهم يقول إنهم كانوا يشعرون بأنهم ألمان في البداية، ثم وجدوا أنفسهم يحاربون على الجهة الأخرى، لكنهم بمجرد ارتدائهم الزي العسكري، كانوا مصرين على أن يصبحوا بريطانيين. «بعض من حاورتهم في كتابي لم يحكوا حتى لعائلاتهم عن الأمر، هذا الوطن (بريطانيا) عليه أن يكون ممتنًّا لهؤلاء الأبطال الصامتين».
تنقل هيلين فراي كذلك أسماء بعض أشهر الألمان الذين شاركوا في الحرب بالزي العسكري البريطاني، مثل السير «كين آدم»، الطيار الألماني الوحيد في سلاح الجو الملكي، الذي أصبح مصمم إنتاج لأكثر من 70 فيلمًا، من بينها سبعة أفلام من سلسلة «جيمس بوند»، والحاصل على جائزة الأوسكار. وكذلك اللورد «كلاوس موسر»، الرئيس السابق لدار الأوبرا الملكية، و«جون لانغفورد»، الذي كان الحارس الشخصي لتشرشل، إضافة إلى «هورست بينشيفر»، الذي غير له الجيش اسمه إلى «جوفري بيري»، وكان مسؤولًا عن الإيقاع بأشهر خائن في بريطانيا، المذيع «ويليام جويس».
القصة نفسها تكررت في الولايات المتحدة، فبعض اليهود الألمان أَرسلوا أبناءهم بعيدًا إلى القارة الأمريكية هربًا من بطش هتلر ورجاله. ورغم المعاناة التي لاقوها في البداية لكسب ثقة الأمريكان، الذين ملأهم الشك ناحية أبناء العدو، فإن القيادات الأمريكية سرعان ما أدركت قدر الاستفادة التي يمكن أن يقدمها هؤلاء للجيش الأمريكي.
يروي الكاتب الأمريكي «بروس هندرسون»، في كتابه «Sons and Soldiers»، أن «الجيش عيَّن قرابة ألفين من هؤلاء، وأُرسلوا للتدريب في معسكر ريتشي بولاية ميريلاند، وأُطلق عليهم أولاد ريتشي».
تدرب «أولاد ريتشي» على جمع المعلومات، واستُخدموا في استدراج الأسرى الألمان والحصول على معلومات منهم، وتدربوا على استخدام الحرب النفسية في أرض المعركة ضد النازي.
لكن تبقى أغرب المعارك تلك التي خاضها جنود ألمان بزي قوات «الفيرماخت» التابعة «للرايخ»، جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية (العدو الرئيسي) في قلعة «إيتر» بالنمسا.
كانت القلعة، في الأيام الأخيرة للحرب، تابعة لمعسكر الإبادة الألماني «داتشو»، ومعتقلًا لكبار الشخصيات الفرنسية، وداخلها جلس رئيسا وزراء فرنسيان: «إدوارد دلادييه» و«بول رينو»، وكذلك «ماري»، الشقيقة الكبرى للجنرال «شارل ديغول».
كان شهر مايو من عام 1945 قد حل، وبدت الحرب في طريقها إلى النهاية حين هرب الحراس الألمان للقلعة، إلا أن المساجين كانوا لا يزالون عالقين بالداخل، محاصَرين بوحدات قوات «SS» و«الغستابو»، فأَرسل المساجين الفرنسيون اثنين منهم على دراجات لطلب المساعدة، كما يروي «ستيفن هاردينغ» في كتابه «The Last Battle».
تواصل أحدهما مع رائد ألماني يدعى «جوزيف غانغل»، ولحسن حظه كان ضابط قوات «الفيرماخت» قد أصبح معارضًا للنازية، بل ومتعاونًا مع المقاومة النمساوية. وبحسب هاردينغ، أدرك غانغل أنه «ليس باستطاعته حماية المساجين، فلم يكن متبقيًا معه سوى 20 رجلًا يدينون له بالولاء، لذا حمل علمًا أبيض، وذهب لمقابلة أقرب كتيبة أمريكية»، وكانت الكتيبة «23 دبابات» التابعة للوحدة «12 مدرعات»، بقيادة النقيب «جاك لي».
جنبًا إلى جنب، تحركت الكتيبة الأمريكية مطعمة بالضابط الألماني ورجاله من «الفيرماخت» إلى القلعة. وفي الخامس من مايو، هاجمتهم قوات «SS» الألمانية وفجرت دبابة أمريكية. سقطت ضحية واحدة فقط من الجانب الأمريكي/الألماني: جوزيف غانغل، الذي قُتِل برصاصة قناص.
أما المعركة فاستمرت لساعات، وشاهدها الصبي «هانز فوكس»، ذو الـ14 عامًا حينها، من مزرعته القريبة من القلعة ليحكي أن «صوت المدافع الآلية استمر لساعات، رأينا سُحبًا ودخانًا». وبمجرد انتهاء إطلاق الرصاص، ركض الصبي نحو القلعة: «كانت الدبابة لا تزال تحترق، رأيت ما يقرب من مئة رجل SS واقعين في الأسر، كان عليهم تسليم كل شيء معهم، ونُقِلوا بعدها على متن شاحنات».
لم ينسَ التاريخ غانغل، الضابط الألماني الذي اختار الوقوف ضد القوات النازية لمنعهم من قتل الأسرى الفرنسيين، فدُفن في بلدة فورجيل القريبة من موقع المعركة، وأُطلق اسمه على أحد الشوارع.
أما هاردينغ فيقول في كتابه إن معركة قلعة إيتر كانت فاصلة في التاريخ: «لو دخلت القوات الألمانية القلعة وقتلت الشخصيات الفرنسية المهمة، لتغيَّر تاريخ فرنسا بعد الحرب. هذه الشخصيات شكلت السياسات التي حملت فرنسا إلى القرن الحادي والعشرين. من يعلم ماذا كان سيحدث إذا قُتِلوا حينها». أما الفضل في إنقاذهم فيعود إلى الضابط الألماني الذي حارب ورجاله كتفًا إلى كتف مع خصمهم المفترض.