الجميع، وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، يُعرفون أنفسهم بالانتماء القومي. يمكن القول إن القومية هي المرض التطوري الأكثر ظهورًا للحداثة، وحتي إذا حمل بعضنا نقدًا أو توجسًا من هذه الفكرة، فإنه في النهاية عليه الانتماء إلى قومية ما.
ثمة فارق، لكنه ليس كبيرًا، بين فكرة القومية والأيديولوجيا القومية، ويمكننا اعتبار الأيديولوجيا القومية الشكل الأكثر تطرفًا للفكرة، لكن الانتماء القومي نفسه يُرى وبشكل واسع كظاهرة طبيعية في الدولة الحديثة، تشكلت من خلاله الدولة وأخذت شرعيتها عبره في أحيان كثيرة.
يشكل الانتماء القومي نوعًا من بناء المعنى الشخصي والعام للإنسان، ويعرف الإنسان موقعه من العالم من خلال هذا الانتماء في أحيان كثيرة.
ليست القومية صلة دم أو قرابة طبيعية حتى يمكننا الانتماء إليها كما ننتمي للأسرة والقبيلة. وفقًا للمؤرخ الإنجليزي «بنديكت آندرسون»، صاحب كتاب «الجماعات المتخلية»، فالقومية «تخيل اجتماعي بأدوات واقعية. يمكن للمرء أن يتخيل أشياء من العدم، لكن الخيال الاجتماعي لا يتخيل كذلك، التخيل الكلي لجماعات متنافرة لا تربطها أي قرابة طبيعية لا بد أن يكون بأدوات واقعية، وهذا ما يعطي القومية بعدًا واقعيًّا جدًّا، لأنها تُتخيل من خلال أدوات واقعية، ولأنها تتجلى واقعيًّا في الخطابات اليومية للسياسة والاجتماع البشري».
عبرت القومية عن نفسها بوصفها متلازمة مع الدولة الحديثة، لكن الأهم وما يجعلها أكثر قوة هو استعارتها لفكرة المساواة المفترضة من الدولة الحديثة، وتطوير تلك الفكرة. فأبناء البلد الواحد سواء أمام القانون الواحد، لأنهم جميعًا أصحاب تاريخ مشترك، وبغض النظر عن التفاوتات الاجتماعية، في النهاية الجميع داخل حدود التخيل واحد، أما ما هو خارج حدود تلك القومية فلا يهم كثيرًا.
لا تعني تلك المساواة أن القومية تحمل في طياتها قِيمًا عالمية من قبيل الحرية والمساواة، التي جاءت مع عصر الأنوار، فالقومية ترسخ الانتماء إليها عبر تلك المساواة المفترضة أمام القانون. في السياسة كانت فكرة المساواة غائبة، فليس لكل المواطنين حق الانتخاب، العبيد والنساء ليسوا كذلك حتى بعد اختراع القومية.
الفكرة القومية بشكل عام هي نتاجات ثقافية من نوع محدد، وكي نفهمها نحتاج لأن نمعن النظر في كيف ظهرت تلك الفكرة لحيز الوجود التاريخي، وكيف أسهمت الحداثة في تسهيل عملية التخيل، وكيف تغيرت معاني القومية وتجلياتها الثقافية بمرور الزمن.
القومية كخيال اجتماعي واسع
ثمة حداثة موضوعية تبدو عليها الأمم في عين المؤرخ، في مقابل القِدم الذاتي والأصالة المتجاوزة للتاريخ نفسه في أعين القوميين. يرى المؤرخ الأمة كمفهوم حديث مرتبط بالحداثة والدولة والخطاب السياسي، بينما يرى القوميون أن رابطًا روحيًّا شكَّل هذه الأمة، ومن ثم صاغ تلك القومية.
يُعرف آندرسون القومية بأنها جماعة سياسية متخيلة ومحددة وسيدة.
لم يُستخدم مثلًا مصطلح القومية على نطاق واسع وعمومي قبل نهاية القرن التاسع عشر، ولا يرد ذكرها كثيرًا (كما تقول عالمة الاجتماع الفنلندية «أيرا كيميلاينين» في كتابها الشهير «القومية: مباحث في الكلمة والتصنيف») في معاجم القرن التاسع عشر المعتمدة. وإذا كان «آدم سميث» قد استخدمها في كتابة «ثروة الأمم»، فإنه لم يعنِ بالمصطلح سوى المجتمع أو الدولة.
لم تمنع تلك الحداثة النسبية للمفهوم أن يتجلى سياسيًّا في أشياء وأحداث كبيرة في القرن العشرين، وفي مقابل القدرة السياسية التي تتمتع بها القومية يقع فقرها الفلسفي. فالقومية، بخلاف عديد من المدارس الفكرية الأخرى لم تنتج مفكرين كبار (خصوصًا في نموذجها الأوروبي). ليس لديها «هوز» أو «ماركس» أو «فيبر». يمكن أن يفسر هذا جزئيًّا لماذا يشعر المثقفون الليبراليون واليساريون على حد سواء بنوع من التعالي على القومية نفسها كفكرة.
يُعرف آندرسون القومية في كتابه بوصفها «جماعة سياسية متخيلة ومحددة وسيدة أصلًا».
سياسية لأنه لم يكن ممكنًا لها التخيل في انعدام المجال السياسي الحديث، كانت ممكنة فقط بعد نزع الشرعية الإلهية والحق الإلهي عن الملوك. متخيلة لأن أفراد أي أمة، مهما كانت صغيرة، لا يمكن أن يعرفوا معظم نظرائهم المعرفة اليومية الضرورية كما في الأسرة والقبيلة. سيدة لأن مفهوم الأمة ولد في عصر كان يطيح فيه التنوير بسيادة أفكار الحق الالهي للملوك. وهي جماعة لأن الأمة يجري تصورها دائما كعلاقة رفاقية أفقية عميقة، فهذه الأخوة هي ما مكن ملايين البشر خلال القرنين الماضيين لا من أن تقتل وحسب، بل من أن تموت راضية في سبيل هذه التخيلات المحددة.
لا يقصد آندرسون بالقومية، حين يُعرفها بأنها جماعة سياسية متخيلة، المعنى السيئ للخيال: الخدعة، مثلما يرى الأناركيون مثلًا القومية كخداع من أجل السيطرة على الشعوب، بل يقصد أنها خيال بالمعني الجيد للخيال، أن هذا الخيال يشكل الانتماء ويبني المعنى.
افتراض أن القومية بوصفها جماعة متخيلة هي خدعة ينطوي على افتراض أن هناك جماعات أخرى أكثر تحققًا وأصالةً منها، والحقيقة أنه حتى أصغر الجماعات يتطلب خيالًا ما، حتى أبسط القُرى القائمة على الاتصال اليومي والمباشر بين سكانها، هي أيضًا جماعات متخيلة.
لا يمكن أيضًا أن تتخيل جماعة بدون أن يرسم المرء حدودًا لها. للخيال حدود عقلية في أغلب الأوقات، يلزم إذًا التخصيص، أو ببساطة الاجابة عن سؤال «ما الذي يجعل تلك الجماعة المتخيلة متمايزة عن الجماعات المتخلية الأخرى؟». لا يشمل تعيين الحدود تخصيص الأرض والحدود الجغرافية، بل تعيين وتفصيل حدود اللغة، والتاريخ المشترك، وكل شيء. تحاول القومية أن تقدم ما يمكن أن نسميه سردية جماعية لأفرادها، قد تتداخل مع سردياتهم الفردية أو تتضمنها في أحيان أخرى.
القومية والهوية القومية عند آندرسون نتاج تقاطع معقد بين عدة قوى تاريخية بدأت في الظهور بنهاية القرن الثامن عشر الأوروبي. إنها نتاج مباشر للتفاعل بين الرأسمالية الصناعية، وأفكار التنوير والإصلاح الديني، والتغيرات التي أنتجها الاثنان في طبيعة المجتمعات الأوروبية.
الذي مكَّن من إعادة تعريف «الأمة»، وهو المفهوم السابق على الفكرة القومية، لم يكن الانتماءات الدينية أو العرقية، بل معايير أخرى حديثة. لقد جرى الاستعاضة عن العالم المسيحي بالقومية الألمانية في نظر الألمان، وعن العالم الإسلامي بالقومية المصرية في نظر المصريين، وعن العالم البوذي الواحد بعدة دول قومية لاحقة أسهم الاستعمار في نشأتها وتعيين حدود لها، كما في حالة معظم الدول المستعمرة في القرن التاسع عشر.
عبرت القومية عن نفسها منذ لحظة ظهورها بوصفها أقرب للدين، يمكن للمواطنين في الدولة الحديثة أن يشعروا بنفس الشعور الإيماني تجاه تلك الفكرة، ببساطة يمكن للمرء أن يموت من أجل دينه أو من أجل بلده، كما يقول الفيلسوف القانوني الألماني «كارل شميت» في مقاله الأشهر «اللاهوت السياسي»: «الدولة القومية تمثل عند بعض الناس الغاية أو الدين أو حتى الإله، إذ يحل الدستور محل الكتاب المقدس، ويمثل الجندي المجهول معنى الشهادة، ويحل العلم محل الشعار الديني، والنشيد الوطني محل الأناشيد أو الترانيم، والمواطنة محل أخوة الدين، وقراءة الصحيفة محل صلاة الصبح، والذهاب إلى العاصمة محل الحج».
كيف أمكن تخيل القومية؟
نمت القومية كفكرة عبر عدة جذور ورموز ثقافية، منها ما تم تخليه وإضفاء طابع واقعي عليه مع مرور الزمن، ومنها ما هو كامن في آليات بناء الدولة الحديثة لسرديتها التاريخية أو حتى طبيعة الاقتصاد نفسه.
استخدَمت القومية الحيلة الدينية القديمة، إذ عليك أن تُشعر البشر أن ثمة رابط بين الأحياء والأموات أكبر من أن يُفكَّك.
ليس ثمة رموز ثقافية للثقافة القومية الحديثة تفوق النصب التذكارية وأضرحة الجنود المجهولين في مجازيتها الشديدة. لا نعلم على وجه الدقة من الذي يرقد في هذا النصب التذكاري، وبعضها فارغ من الأساس. تتيح عملية الفضول والتخيل في محتويات تلك الأضرحة، التي تبقى تجربة جماعية ملهمة لجماعات كبيرة من البشر، إمكانية إضفاء نوع من القداسة على الأضرحة. تنزع ذوات الموتى منهم في تلك الحالة وتدمجها في مجموعات أخرى «مجهولة»، كي تبين للجميع أنه لا يهم من أنت، ولا من هو، لكن الأهم سؤال: من نحن؟
من هنا تُنشئ القومية كما الدين نوعًا من الرابط المقدس مع الماضي، رابط بين الأحياء والأموات. استخدمت القومية هذه الحيلة الدينية القديمة، عليك أن تُشعر هؤلاء البشر أن ثمة رابط بين الأحياء والأموات أكبر من أن يُفكَّك. شرط الدخول في تلك الرابطة في الدين هو الإيمان من أجل الخلاص بالتعبير الديني، لكن في القومية ليس ثمة شروط أخرى للخلاص القومي، فقط تقع في نفس الحدود الجغرافية أو اللغوية أو التاريخية لتلك الأمة.
استمدت القومية، رغم نشأتها الحداثية، فكرة أهم من الدين هي اللغة المشتركة، فالأديان تعتمد بالأساس على توحيد اللغة بين معتنقيها، حتى وإن لم يفهمها الجميع. الأديان الثلاثة الكبرى والأكثر انتشارًا (المسيحية والإسلام والبوذية) لها لغات حقَّة هي اللاتينية والعربية والصينية المكتوبة.
اللغة الحقة هي لغة النص المقدس، وبالتالي يمكن من خلال اللغة (التي هي في الأساس بحسب علم اللغة الكلاسيكي: نظام للعلامات يحمل دلالات محددة في عقول المستقبلين لها) توحيد المؤمنين. أتاحت تلك اللغات الحقة أو المقدسة أن يتخيل أبناء العالم المسيحي أنهم كيانات خلاصية واحدة، وأبناء الإسلام والبوذية كذلك.
لذلك لم تظهر القوميات الأوروبية في جيلها الأول (وهي القوميات السابقة على الثورة الفرنسية) سوى بتفكيك سطوة اللاتينية نفسها كلغة مقدسة وحيدة ومكتوبة. وعبر كتابة اللغات المحلية، مثل الإنجليزية القديمة والألمانية والفرنسية، أمكن تمييز كل أمة عن الأخرى، وبناء سردية تاريخ مشترك مكتوب لكل أمة عن غيرها.
رأسمالية الطباعة
بالرغم من أن تلك اللغات المقدسة جعلت جماعات مثل العالم المسيحي والإسلامي قابلة للتخيل، فإن المدى الفعلي الذي وصلته تلك الجماعات، والمعقولية التي تنطوي عليها، لا يمكن تفسيرها بالنص المقدس وحده.
نشأت اللغات المحلية كمحرك أساسي للقومية كفكرة.
قراء النص لم يكونوا سوى أقلية. كانت اللاتينية في العصور الوسطى الأوروبية لغة الدولة والكنيسة، يتحدثها أقلية من الناس في المستويات العليا للإدارة والسياسة، وفي الأغلب كانوا يتحدثون لغة محلية أخرى معها (الإنجليزية، الألمانية، الفرنسية، إلخ). كانت اللاتينية ببساطة لغة النخبة الأوروبية الرائقة، ومثلت معيار الانتشار الكبير لكُتاب كثر. هوبز مثلًا كان ذائع الصيت في القرن السابع عشر لأنه كتب باللاتينية، أما شكسبير الأشهر حاليًّا فلم يكن معروفًا على الضفة الأخرى من القنال الإنجليزي (فرنسا).
مثَّل انهيار اللاتينية سيرورة أكبر راحت فيها الجماعات المقدسة، التي بنت تماسكها عبر اللغات القديمة المقدسة مثل اللاتينية، تتشظى وتتعدد وتتمايز مكانيًّا على نحو متدرج، ومن هنا نشأت اللغات المحلية كمحرك أساسي للقومية كفكرة. فهؤلاء الذين يتحدثون نفس اللغة المحلية هم في الغالب متمايزون عن الذين يتحدثون لغة أخرى. أسهم في انتشار اللغة المحلية أيضًا عامل أساسي آخر، هو رأسمالية الطباعة.
كان لانتشار اللغات المحلية واستخدامها في طباعة الصحف والمسرحيات والروايات (كما شكسبير) أثر كبير، إذ أصبح يمكن بسهولة تعليم تلك اللغات لغالبية السكان، لأنها أضحت مكتوبة ومطبوعة ويمكن قراءتها والبحث عن مشترك في نظام العلامات التي تستخدمها تلك اللغات.
بحلول العام 1500 من الميلاد، كان ما لا يقل عن 20 مليون كتاب قد طبع في أوروبا، معلنين بداية ما أسماه «فالتر بنيامين»، الفيلسوف الألماني، «عصر الاستنساخ الآلي».
كانت تلك المعرفة الجديدة التي وفرتها الطباعة مختلفة كليًّا عن المعرفة القديمة، فالجديدة تعيش على إعادة الإنتاج والانتشار من أجل الربح، بينما كانت القديمة لا تبحث عن هذا الربح، ومن ثم تقصر نفسها على نخب قليلة العدد.
وحتى العام 1600، تضاعف عدد الكتب المطبوعة 10 مرات. ولا عجب إذًا حينها أن يعتقد الفيلسوف والسياسي الإنجليزي «فرانسيس بيكون» أن الطباعة غيرت العالم في عصره. مات بيكون عام 1626، في أوج ثورة الطباعة الأوروبية.
كانت الطباعة من أولى الصناعات الرأسمالية، وكانت من ناحية أخرى السبب المباشر في ظهور ما يمكن أن ندعوه عصر الجماهير التي يمكن أن ترى نفسها متمايزة عن جماهير أخرى، لأنها في النهاية تقرأ وتكتب وتتكلم في الحياة اليومية لغة مختلفة. كانت تلك المرة الأولى في التاريخ التي نكون بصدد قراءة جماهيرية وواسعة لأشياء كثيرة من الصحف وحتى الروايات، وإزاء أدب شعبي في متناول الجميع، بإمكانه أن يحكي الأساطير التاريخية عن كل أمة بسردية متمايزة عن الأخرى.
أضفت رأسمالية الطباعة على اللغة ثباتًا أسهم على المدى الطويل في بناء صورة التاريخ القديم، التي تحتل مكانة مركزية في تصور كل أمه عن ذاتها. حافظ الكتاب المطبوع على شكل ثابت يمكن استنساخ لغته ملايين المرات. ورغم أن هذا الثبات يعني أن سرعة تغير اللغة وتطورها ستكون أبطأ، لكن في نفس الوقت حافظ على هوية لغوية تكون ثابتة لكل أمة على حدة.
لعب الاستعمار دورًا أهم من فرض لغته على السكان الأصليين، فلأول مرة في تلك المجتمعات، أجرى الاستعمار إحصاءً وتقسيمًا وتبويبًا لكل شيء، بدايةً من رسم الخرائط، والتعدادات السكانية، والحدود الإدارية بين المناطق، وحتى جلب مفاهيم مثل العرق والإثنية، التي أسهمت لاحقًا في تمايز دول قومية عن أخرى.
الطبقة الوسطى والقومية
لعبت الطبقة الوسطى دورًا مهمًّا في صعود الفكرة القومية، في أوروبا كما في الأمريكتين.
يمكن أن نعتبر قوميات العالم الجديد استثناءً على قاعدة اللغة، التي قد تفسر نشوء الفكرة القومية، فليس ثمة فارق كبير بين لغة الكريول (Creole: الأوروبي المولود خارج أوروبا) وبين لغة المتروبول (أبناء المستعمرات). لذلك لم يكن ما يمكن أن ندعوه الحرب اللغوية صراعًا مطروحًا في حروب الاستقلال، سواءً في أمريكا اللاتينية أو في حرب الاستقلال الأمريكية في الشمال. كان الأمر أشبه بصراع على الموارد بين رواد الكريول (الطبقات الاجتماعية الكبيرة المولودة في الأمريكتين) وبين التاج البريطاني أو الإسباني أو البرتغالي، ونُظر إلى الأخيرين في ظل الصراع على الموارد على أنهم «مستعمِرون».
يطرح عالم الاجتماع الإسكتلندي الماركسي «توم نايرن» طرحًا شبيهًا بهذا، فيجادل في كتابه «وجوه القومية» بأن مجيء القومية بمعناها الحديث المميز ارتبط بمعمودية الطبقات الدنيا السياسية. فالحركات القومية، رغم من معاداتها الديمقراطية في بعض الأحيان، كانت شعبوية على الدوام في تطلعها إلى دفع الطبقات الدنيا للحياة السياسية، وأخذ هذا الأمر شكل الطبقة الوسطى وقيادة فكرية تحاولان استنهاض ما لدى الطبقات الشعبية من طاقات وتوجيها نحو مساندة الدول الجديدة.
معظم قوميات ما بعد الاستعمار تعتمد على الطبقة الوسطى المتعلمة لإنتاج واستهلاك خطابها.
كان أيضًا ثمة عامل آخر حاسم هو ما يمكن أن ندعوه استيراد الدولة نفسها من أوروبا. فبعدما تحسنت الاتصالات بشكل كبير بين جانبي الأطلنطي، انتقلت الأفكار السياسية والاقتصادية الناشئة في أوروبا نحو الأمريكيين. أججت الثورة الفرنسية النزعة الجمهورية التي عمت المجتمعات حديثة الاستقلال، فلم تجرِ أي محاولات لإحياء الأنظمة الملكية في الأمريكتين عدا البرازيل، ذلك الإحياء الذي لم يكن ممكنًا دون هجرة ملك البرتغال نفسه إليها هربًا من نابليون عام 1808.
لعبت الطبقات الوسطى دورها في تطوير الفكرة القومية، عبر إدماجها في البيروقراطية المدنية والعسكرية في أوروبا. فمنذ أواسط القرن التاسع عشر، زاد الإنفاق العام بنسبة 25% للفرد في إسبانيا، و40% في فرنسا، و44% في روسيا. وعمل هذا التوسع في الإنفاق العام على إنشاء الإدارات المدنية الحديثة، التي تستدعي دمج كثير من أبناء الطبقة الوسطى في الجهاز الإداري للدولة، وبالتالي تعزيز الشعور القومي عند القاعدة الجماهيرية الأكبر من السكان.
يمكن أن نلاحظ هنا التشابة بين القوميات العربية وفكرة الطبقات الوسطى، فالدولة التي شيدها محمد علي باشا توسعت في التعليم من أجل إنشاء تلك الطبقة الوسطى، التي لاحقًا دُمجت في الجهاز الإداري للدولة. هذا التحول البطيء قاد لاحقًا إلى لما يمكن أن نسمية التجلي الأكبر للخطاب القومي المصري في ثورة 1919. تقريبًا كانت معظم قوميات ما بعد الاستعمار تعتمد على الطبقة الوسطى المتعلمة لإنتاج واستهلاك الخطاب القومي.
إلى أين تتجه القومية؟
بناءً على ما سبق، يمكن القول إن القرن التاسع عشر والعشرين، اللذين شهدا صعود فكرة القومية مترافقةً مع الدولة نفسها، شهدا كذلك نشأة معظم الدول التي نعرفها الآن. كانت الفكرة القومية مترافقة مع سردية التقدم التي اقترحتها الحداثة وأحد منتجات تلك الحداثة بشكل كبير.
لكن، ومع التغييرات الكبيرة التي يعيشها العالم في الفترة الأخيرة، ليس ثمة تراجع كبير في الفكرة القومية سواءً في دول العالم الصناعية أو النامية. وإن تغيرت تلك الفكرة قليلًا بصعود اليمين المتطرف وتبنيه خطابات أكثر راديكاليةً في ما يتعلق بالفكرة القومية، فإن الدولة القومية رغم العولمة باقية وتمدد.
أصبحت الدولة القومية ضرورة إجرائية من أجل الحداثة، ورغم قدرة الرأسمالية على تخطي تلك الفكرة بإنشاء تجمعات عالمية على غرار الاتحاد الأوروبي، متجاوزةً فكرة سيادة الدولة نفسها. يمكن أن نعزو حاجة الرأسمالية للدولة إلى أنها في النهاية هي الجهاز الناجع في ممارسة الضبط الاجتماعي بشكل كبير على السكان.
لا أُرجح، على المستوى الشخصي، أن تتراجع القومية كفكرة برغم كل ما يعتريها الآن من عَوار، ففي النهاية شكلت القومية المعنى للإنسان الحديث، وتستمر في تشكيله الآن.