تشارف الذكرى الخمسين لتأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب على الوصول، ويمثل هذا الكيان الجهة المسؤولة عن الثقافة في الكويت. وبعد 48 عامًا من إصدار مرسوم إنشاء المجلس الذي نص في مادته الثانية على أن يعنى «بالشؤون الثقافية والفنون والآداب، ويعمل في هذه المجالات على تنمية وتطوير الإنتاج الفكري»، إضافة إلى أعماله الأخرى الاختصاصية مثل «صيانة التراث والقيام بالدراسات العلمية ... ووضع خطة ثقافية تستند إلى الدراسات الموضوعية لاحتياجات البلاد»، هل حقق المجلس أهدافه المعلنة؟ وهل بالإمكان قياس الأثر الحقيقي لوجوده؟
لماذا أُنشئ المجلس الوطني؟
كانت فكرة المجلس الوطني نابعة من الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد حين كان وليًا للعهد ورئيسًا لمجلس الوزراء، وفي مارس 1973 قال: «وما المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب إلا تجسيدًا لإيماننا بما للثقافة والفنون والآداب من أهمية عظيمة في خلق جيل واع بمسؤولياته وقادر على العطاء المثمر». ووضح عبد العزيز حسين، وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء الراحل والمنفذ لفكرة المجلس الوطني، أهمية هذا الصرح الثقافي للدولة قائلًا: «أكثر الشعوب تقدمًا تقنيًا هي أكثرها تقدمًا ثقافيًا».
هذا الشغف للدفع بعجلة التنمية الثقافية آنذاك لم يكن خارجًا عن المألوف، بل كان متزامنًا مع العلاقة المباشرة بين الثقافة والاقتصاد، فالبنك الدولي يؤكد أهمية البرامج الثقافية التي تعزز من التنمية الاقتصادية وتدفع بها، وكم نحن اليوم في أمس الحاجة للتقدم التقني ونحن نواجه إحدى أسوأ أزماتنا الاقتصادية.
مهمة المجلس هي العمل على التخطيط الثقافي والسعي لإتاحة الفرصة للأشخاص للتعبير عن أنفسهم، لتصبح الثقافة حق مثلها مثل حق التعليم والصحة والعمل، هذا ما أكده المؤلفان د. سليمان العسكري وأحمد خضر في كتابهما «الكويت والتنمية الثقافية»، وهو «التخطيط الثقافي الذي يتصل بالوسائل التي يمكن أن تنشر بها الثقافة والتي تكفل للناس المشاركة فيها، ويعني تحديد مسؤوليات الدولة وعملها في الحقل الثقافي، وتكامل هذا العمل مع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. وتسعى الهيئة إلى تهيئة أنسب الظروف للإبداع الثقافي والفني والأدبي دون أي قيود، وتنمية النشاطات الثقافية على نطاق واسع، بحيث تتيح لكل فرد إمكانية التعبير عن نفسه».
وضع المجلس الوطني اليوم
بالنظر لآخر عشر سنوات من ميزانية المجلس الوطني نرى أن مجموع مصروفاته 243 مليون دينار كويتي، بحسب الحسابات الختامية لموازنة الدولة لنفس الفترة. ولكن بالنظر إلى تفاصيل تلك الأرقام نجد أن أرقام المصروفات الإجمالية للمجلس كانت تصاعدية ومتذبذبة خلال السنوات بين 17 و21 مليون دينار، وصولًا لأعلى رقم في عام 2018 وهو 33 مليون دينار.
تحليل أرقام الحساب الختامي فقط دون الأخذ في الاعتبار باقي العوامل قد يبدو مجحفًا بعض الشيء، وهو ما نؤكده، إلا أننا نود المقارنة بين إجمالي المصروفات، وبند الرواتب تحديدًا، مع عدد الموظفين خلال العشر سنوات الماضية.
تضاعفت أعداد الموظفين في المجلس أربع مرات خلال العشر أعوام الماضية، مما أدى لتضخم في بند الرواتب من 7 ملايين إلى 17 مليون دينار عام 2019.
خلال السنوات الخمس الأخيرة نجد أن بند الرواتب يعتبر أكبر بند في المصروفات، فنجد أن متوسط الرواتب يساوي أكثر من نصف الميزانية السنوية بمتوسط 61% تقريبًا. لا بد أن نستوعب أكثر كيف تنقسم ميزانية المجلس خارج بند الرواتب، إذ تتوزع مصروفاته بين تنظيم المهرجانات والمعارض مثل مهرجان القرين الثقافي ومعرض الكتاب الدولي، وإنتاج وطباعة الإصدارات الثقافية مثل عالم الفكر والمسرح العالمي وغيرها، والتي تصدر بشكل دوري.
بالإضافة إلى أعمال الصيانة السنوية وترميم المباني التاريخية، التي عادة لا تكفي لتغطية تكاليف الترميم، مثل مشروع ترميم مدرسة عائشة الذي كان بتمويل من عائلة المرزوق. ويعود ذلك لعدة أمور منها بطء الدورة المستندية أو تقصير المنفذ في عمليات ترميم المشروع، مما يدفع بعض الأسر لتمويل بعضها.
وبالعودة لبند الرواتب نلاحظ أن أعداد الموظفين في المجلس تضاعفت أربع مرات خلال العشر أعوام الماضية، مما أدى لتضخم في بند الرواتب من 7 ملايين إلى 17 مليون دينار عام 2019، وأصبح بند الرواتب يمثل 60% من ميزانية تلك السنة. التضخم السنوي لهذا البند لم يُتدارك في سنة الجائحة فوصل إلى 78% من ميزانية 2020، بالمقارنة مع باقي الميزانية المخصصة لباقي البنود من إنتاج وفعاليات وغيره، والتي أوقفها المجلس الوطني بسبب كورونا.
لذا نجد أن المصروفات لا تنعكس على مستوى الإنتاج بالضرورة، وهنا لا نتحدث عن كمية الإنتاج بل عن الجودة ومستوى التأثير. وعليه، علينا تحديد تعريف وشرح معنى «الجودة»، وتحديد معايير «المستوى الإنتاجي» لجهة رسمية وحكومية مثل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. أول خطوة لهذه العملية تتطلب إجراء مسح ثقافي وتحديد معايير واضحة لقدرات المجلس، لكننا لا نملك اليوم هذه البيانات، لذلك سأقارن بين بعض المؤشرات الثقافية العالمية أو الإقليمية القريبة منا جغرافيًا، مثل الإمارات والبحرين وغيرها. فكيف كان أداء المجلس واستخدامه للأصول والموارد المالية؟
المفارقة الأولى: مستوى الأداء
جاء في مرسوم إنشاء المجلس الوطني أن عليه وضع خطط عمل بناء على الاستطلاعات، وهو ما لم يُفعل حتى تاريخه، إذ بحثتُ عن أي أثر للمسح الثقافي الأول الذي كان من المفترض أن يكون من أول مهام المجلس في عام إنشائه 1973، لكن لم أتمكن من الحصول عليه في أي مصدر أو بيان رسمي للمجلس.
نصت المادة الثالثة من مرسوم إنشائه على «مسح الواقع الثقافي وجمع البيانات عن مجهودات الهيئات المختلفة في ما يتعلق بإجراء دراسات دورية مستفيضة حول الجهد المبذول، والذي يمكن أن يُبذل لنمو الثقافة وازدهارها وتقدم الآداب والفنون، ووضع ما يلزم لذلك من المشروعات والخطط». وإن وُجد ذلك المسح فلا بد من تحديثه الآن لقياس أداء المجلس وتأثيره، ودراسة أثر وجود المجلس على المجتمع.
لكن دون أدوات قياس فعالة، كيف يستطيع المجلس قياس أدائه؟ إحصاءات الأنشطة المقامة التي يوفرها المجلس غير كافية دون قياس تأثيرها، فالأساس قياس الجودة والفعالية أولًا، ثم تكون أداة لتتبع المشاريع ثانيًا. وعليه، فإذا قارنا أداء المجلس الوطني مع باقي دول الخليج التي سبقها المجلس الوطني الكويتي في المدة الزمنية وبالتالي الخبرة، نجد تقدم كل من الإمارات وقطر والبحرين وعمان (كل في مجاله) على عدة مؤشرات عالمية (على سبيل المثال، مؤشر المتاحف، ومؤشر القراءة ومؤشر التأثير الثقافي)، وأيضًا النجم الصاعد المملكة العربية السعودية، التي أطلقت رؤيتها وتوجهاتها لوزارة الثقافة في مارس 2019.
أما إذا نظرنا إلى النواحي التطبيقية للمجلس فلا نكاد نرى أي جهود جادة في العمل على التخطيط الثقافي المنوط به، أو لتوفير المناخ الملائم للإنتاج الفني والأدبي، فنجد إصدارات المجلس ثابتة دون أي تغيير واضح من جهة، وأعمال المحافظة على المباني التاريخية تسير بوتيرة متناهية البطء. خلال العشر أعوام الماضية لم ينته ترميم أي مبنى، وحتى أبسط الإمكانيات كتوفير ساعات عمل المتاحف والمراكز الثقافية نجدها محدودة، وبعضها يغلق خلال عطلة نهاية الأسبوع، والكثير من الأمثلة الأخرى التي تؤكد جميعًا أن هناك مساحة شاسعة للتطور، وهذا أمر لا يخفى على المجلس، لكنها لا تُستغل.
هناك محاولات للتطوير عن طريق الدراسات، كدراسة نيلسون لتطوير استراتيجية طويلة الأمد للمجلس بالتنسيق مع المجلس الثقافي البريطاني، وأحدث استراتيجية صادرة للمجلس تحت عنوان «الانفتاح الثقافي 2015-2020»، ولكن نرى هنا تناقضًا غريبًا من خلال المقارنة بين توصيات الاستراتيجية والوضع الحالي، إذ لا يبدو أنها طُبقت، ومع ذلك نجد المجلس يعمل مرة أخرى على صياغة استراتيجية جديدة، فهل الحل في الدراسات الجديدة أم معرفة الأسباب التي حالت دون تنفيذ توصيات الدراسات السابقة ومعالجتها؟
المفارقة الثانية: الموارد والأصول
بالنظر لآخر عشر سنوات من ميزانية المجلس الوطني نرى أنه يمتلك أصولًا من مبان وأراض تقدر قيمتها بـ122 مليون دينار، ولديه قوة عاملة ضخمة كما أشرنا سابقًا. فالمبالغ المخصصة للمجلس ليست قليلة بالمقارنة على سبيل المثال مع ميزانية هيئة الثقافة في البحرين، والتي لا تتعدى 6 ملايين دينار كويتي سنويًا، وتتضمن هذه الميزانية فعاليات من مهرجانات ومعارض ومؤتمرات موزعة على مدار العام. فما الذي يعطل المجلس الوطني عن منافسة الهيئات الثقافية الأخرى في جودة الأداء، رغم توفر موارد جيدة وقوى عاملة وأصول وخبرة متراكمة خلال السنوات الطويلة منذ إنشائه؟
بالإضافة إلى أن واقع الوضع المالي الذي تعيشه الكويت الآن يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، فالكويت اليوم تواجه أسوأ عجز في تاريخها، ولا يبدو أن هناك أي بريق يلوح في الأفق لحل الأزمة. لذا فالقضية بالنسبة للمجلس الوطني قضية وجودية، وعليه أن يواجهها ويفكر بشكل جدي في اتخاذ خطوات لمعالجتها. فمع عمليات خفض الميزانية، قد يجد المجلس نفسه عاجلًا وليس آجلًا في مأزق موارد محدودة وغير كافية لتمويل أعماله، وينتهي به المطاف إلى صرف ميزانيته على بند الرواتب الآخذ في الازدياد. فكيف له أن يؤدي دوره ويتطور إذا لم يجد موارد كافية لتمويل عملياته؟
هل من حلول؟
الدور المحوري الذي تلعبه الثقافة في تطور المجتمعات، وكون المجلس الوطني هو الجهة المنوطة بالتخطيط الثقافي، يجعلنا في أمس الحاجة إلى تطوير هذه الجهة، ليس فقط للأثر الاقتصادي الناتج عنها، ولكن أيضًا للبعد الإنساني وإشاعة مفاهيم التقبل والتسامح والتعاون، وإشعال الرغبة في المعرفة والعطاء.
باستطاعة المجلس أن يؤدي هذا الدور لما لديه من إمكانيات موجودة، لكن أكبر معضلة تواجهه هي ثقافته الداخلية. ولمواجهة هذه المعضلة علينا استحداث نظام جديد مبني على أهداف واضحة وفي فترة زمنية محددة، وتحديد المسؤوليات وقياس الأداء والتأثير، إذ لن يتمكن المجلس من أداء دوره الذي نص عليه مرسوم الإنشاء، حتى مع مضاعفة قيمة الموارد المتاحة، من دون رغبة حقيقية في التغيير وتفعيل أدوات القياس وتمكين الاستراتيجية. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟
أولًا: تفعيل المسح الثقافي الشامل بشكل دوري، ومن ثم وضع أهداف حقيقة ذات قيمة وتأثير وقابلة للقياس خلال مدة زمنية محددة.
ثانيًا: خلق ثقافة داخلية حقيقية وواعية ومطّلعة وذات رؤية طموحة ومنتجة، تتحمل مسؤولياتها وتتخذ خطوات فعالة لتحقيق أهداف قادرة على صناعة أثر إيجابي واقعي محسوب، وهذه الثقافة الداخلية ليست حصرًا على الإدارة، لكنها تصبح جزءًا من ثقافة جميع العاملين في المجلس دون استثناء.
ثالثًا: تحويل المجلس من جهة صرف إلى جهة تمويل ذاتي، وخلق الطموح لتقديم إيرادات للدولة عن طريق الاستثمار وإنتاج أعمال فنية وأدبية، إنتاج فني مبدع حقيقي ذو جودة عالية، إذ أن كمية المهرجانات والإصدارات ليست المقياس، بل الجودة والتأثير والتغيير الذي تحدثه.
رابعًا: بناء وتنمية الشراكات مع الفنانين والكتاب والباحثين والمتطوعين، ومع الجامعات والمدارس المحلية، ومد الجسور لمعرفة احتياجاتهم والأخذ باقتراحاتهم والعمل معهم لإثراء الثقافة.
خامسًا: الترميم والمحافظة على المباني التاريخية، وتفعيل دورها الثقافي والسياحي.
المؤشرات المستقبلية واضحة، فنحن بحاجة ملحة إلى التنمية الثقافية على مستوى الدولة، والموارد المتاحة بدأت في النضوب. وبعد 48 عامًا من إنشاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب والاستثمار فيه سنويًا من خزينة الدولة، حان الوقت أن يؤتي هذا الاستثمار ثماره عن طريق اتخاذ خطوات جادة للتغيير، وإلا سيأتي اليوم الذي لن تجد الحكومة فيه القدرة التمويلية الكافية ليتمكن المجلس من أداء أعماله، وعندها سنكون جميعًا الخاسرين.