لطالما تمتع المغرب بسمعة كأحد أكثر الأنظمة استقرارًا في منطقة شمال إفريقيا، فحتى بعد اندلاع المظاهرات في 2011 بقيادة حركة 20 فبراير، التي طالبت بإجراء تعديلات دستورية تجعل الملك يسود ولا يحكم، من بين عدة مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية أخرى، تمكن النظام من امتصاص الغضب الشعبي بإجراء تغييرات هدأت الأوضاع ولم تدفعها إلى الاحتقان، مثلما حدث في مناطق أخرى.
لكن الاحتجاجات المستمرة في منطقة الريف شمال المغرب أصبحت تثير تساؤلات كثيرة حول الاستثناء المزعوم، خصوصًا وهي على مشارف إكمال عام منذ بداية انطلاقها، بعد الموت الشنيع الذي تعرض له بائع السمك محسن فكري داخل شاحنة لجمع القمامة، بتدخل من السلطات المحلية.
الصورة المروعة لموته مطحونًا في مؤخرة الشاحنة، وسط السمك الذي صادرته السلطات منه، دفعت الآلاف من سكان مدينة الحسيمة إلى الخروج للشوارع مطالبين بفتح تحقيقات لكشف ملابسات القضية وتحديد المسؤولين عنها. ويومًا بعد يوم، تحولت المظاهرات إلى حركة جماهيرية واسعة، صارت تٌعرف باسم حراك الريف، طالبت برفع حالة التهميش والعزلة عن المنطقة، التي تراكمت على مدى العقود الماضية.
وضعت هذه الاحتجاجات، التي زادت حدة توترها مرة أخرى بعد وفاة أحد المتظاهرين في أعقاب مواجهات مع قوات الأمن، مقولة الاستثناء المغربي موضع التساؤل، وقلبت الحكمة التقليدية السائدة عن المغرب، باعتباره بلدًا مستقرًا لا يشهد أي اضطرابات كتلك الحاصلة في بلدان مجاورة، رأسًا على عقب، وفقًا لما جاء في مقال منشور على موقع «الواشنطن بوست».
المغرب: بلد الاستثناء
في بدايات الاحتجاج على حادث محسن فكري، هاجم معظم المغاربة رجال الشرطة والمسؤولين الحكوميين ولم يهاجموا الملك.
تنبع فكرة الاستثناء المغربي، التي يروِّج لها المسؤولون المغاربة وحلفاء النظام الأجانب ممَّن لديهم مصلحة في الحفاظ على الوضع القائم، من الخصائص المزعومة التي تحمي المغرب من عدم الاستقرار، وتجعله يستحق دعمًا خاصًّا للإبقاء على الأوضاع فيه كما هي.
من بين هذه الميزات الشرعية الدينية التي يتميز بها النظام الملكي في المغرب، إذ يُعتقد أن الملك ينحدر من سلالة النبي محمد، ويُشار إليه على أنه أمير المؤمنين، وحامي حمى الدين، ورمز وحدة الأمة، وضامن استقرار البلاد.
كان الأمر واضحًا في المراحل الأولى للاحتجاجات التي أعقبت وفاة محسن فكري، فمعظم المغاربة الذين خرجوا إلى الشوارع حينها ألقوا باللائمة على السلطات المعنية ورجال الشرطة الفاسدين والمسؤولين الحكوميين، دون أن يطول غضبهم شخص الملك، الذي ظل بعيدًا عن هذه النزاعات.
لكن الحراك غيَّر صيغة هذا الخطاب شيئًا فشيئًا، وبات يسخِّر الغضب الشعبي العارم ليسلط الضوء على ما يعتبره كثير من المواطنين طغيان القصر ونهبه لاقتصاد البلاد، وانتقلت الشعارات المستخدمة في المسيرات الاحتجاجية من «الله، الوطن، الملك» إلى «الله، الوطن، الشعب»، تأكيدًا لمسؤولية النظام الملكي في ما يحدث.
اقرأ أيضًا: حراك الريف: القشة التي قد تقصم ظهر الحكومة المغربية
المغرب: حرمة المؤسسة الملكية تتلاشى
هذا الخطاب المناهض للملك والقصر أصبح يُستَعمل بصورة متزايدة من المتظاهرين السلميين في أرجاء المغرب. وفي هذا الصدد، كان ناصر الزفزافي، أحد قادة حراك الريف، قد أعلن أنه ما دام الملك أميرًا للمؤمنين، فلا يمكنه أن يُخضع شعبه للاستعباد، متسائلًا عما إذا كانت المساجد، التي تُملي كل يوم جمعة خطبةً موضوعةً من طرف وزارة تابعة للقصر، أماكن تنتمي إلى الله أم الملك.
ازدادت شكاوى المواطنين، وارتفع معدل البطالة ونسبة التضخم، وتزايد عنف الشرطة، وتبشر مجريات الأمور بتفاقم الأوضاع.
قبل عام، لم يكن ممكنًا تخيل خروج المغاربة إلى الشوارع حاملين هذه الشعارات المناهضة للنظام، لكن يبدو أن الحراك لمس وترًا حساسًا لدى المواطنين في جميع أنحاء البلاد، لدرجة أن النشطاء الذين كانوا يطالبون في وقت مضى بالتغيير، رافعين في الوقت نفسه شعار «عاش الملك»، صاروا يصرخون الآن «عاش الشعب» في المسيرات التي يشاركون فيها، التي تدعو إلى إصلاح الأوضاع.
زيادة الوعي، خصوصًا في صفوف الشباب، أزالت السياج الذي كان يطوق القصر وبددت هالة القداسة التي كانت تحيط بالنظام الملكي منذ فترة طويلة، ومعها تلاشت الفكرة القائلة إن حمل الجنسية المغربية يعني الخضوع للملك وتنزيه النظام الذي يمثله عن الخطأ.
قد يهمك أيضًا: التاريخ تكتبه السلطة: من يحفظ تاريخ المغرب المسكوت عنه؟
شكاوى المواطنين تزداد يومًا بعد يوم، فمعدل البطالة آخذ في الازدياد، والمساواة الاقتصادية في تناقص، أضف إلى ذلك ارتفاع نسبة التضخم وتزايد عنف عناصر الشرطة، لتكون النتيجة خليطًا يبشر بتكرار ما حدث في بلدان مجاورة كانت تشيع أن أوضاعها مستقرة، بسبب نفس الظروف الاقتصادية والاجتماعية المزرية.
بدأت معالم قلق النظام من تفاقم الأوضاع في الظهور مؤخرًا مع استمرار وتيرة الاحتجاجات، الأمر الذي دفعها إلى تبني أساليب عدة لصد الاتهامات التي تُكال إليها، بقصد استعادة السيطرة على مجريات الأمور.
المغرب: بين القمع والقمع
بقصد الحفاظ على صورة المؤسسة الملكية كمصدر للاستقرار، عفا الملك عن مجموعة من المعتقلين، ووبخ المسؤولين المحليين على استهتارهم.
لجأ النظام إلى استخدام وسائل الإعلام لتمرير خطابات تصف الاحتجاجات بأنها معزولة، ولا تمُتُّ إلى المغاربة القاطنين خارج منطقة الريف بصلة، ونشرت عناوين تصور المحتجين كمهربين للمخدرات وانفصاليين، ووكلاء يعملون لصالح جبهة البوليساريو، ومتمردين تجمعهم روابط بتنظيم داعش.
قد يعجبك أيضًا: صُنَّاع الإعلام: كيف سحروا أعين الناس واسترهبوهم؟
علاوةً على ذلك، قدَّم الإعلام الحراك الشعبي على أنه حركة قائمة على الهوية وذات دوافع عِرقية بحتة، ما سمح للنظام بمواجهة هذه المطالب عبر تقديم تنازلات على هذا المستوى، دون المباشرة بتحقيق إصلاحات اقتصادية وتنموية جادة.
ومن أجل الحفاظ على صورة المؤسسة الملكية كمصدر للاستقرار في البلاد، عفا الملك عن مجموعة من المعتقلين على خلفية مشاركتهم في حراك الحسيمة في يوليو 2017، ووبخ مسؤولين محليين على استهتارهم، خلال الخطاب الذي ألقاه بمناسبة عيد العرش.
استخدم النظام أيضًا تدابير قمعية عنيفة في حق المتظاهرين، تُعزَى في مجملها إلى وزارة الداخلية التابعة للقصر، مثل قطع الإنترنت خلال الفترات التي تشهد زيادة التوتر في المنطقة، والتدخل بعنف ضد المحتجين والصحفيين، وكذا اعتقال العشرات وتهديدهم وتعذيبهم في السجن. وقد أبرزت وفاة عماد العتيبي، إثر الإصابات التي لحقت به خلال إحدى حملات الشرطة على المتظاهرين، هذه الأساليب القمعية من جديد.
من المؤكد أن كثيرين لا يزالون يحبون الملك، في حين أن آخرين مشغولون بتحصيل قوتهم اليومي ولا وقت لديهم للخروج إلى الشوارع للمطالبة بإصلاح الأوضاع، ومن السابق لأوانه بدء كتابة مرثية النظام الملكي في المغرب. لكن مع ذلك، فإن العناصر التي تُسهِم في الحفاظ على الاستقرار، مثل الخوف من الفوضى الإقليمية وحرمة النظام الملكي ولا مبالاة العامة بتجاوزات النظام الحاكم، صارت غير محتملة، فهل المغرب على أعتاب الانضمام إلى قائمة الدول التي كانت في وقت مضى مستقرة، ولم تعد بعد كذلك؟