أنشئت وحدة التحريات المالية الكويتية للحفاظ على نزاهة القطاع المصرفي والمالي، وحمايته من جريمة غسل الأموال والجرائم الأصلية المرتبطة بها وجرائم تمويل الإرهاب، وذلك من خلال الالتزام بالمعايير الدولية والتعاون الفعال مع الجهات المختصة لتحقيق السلام والأمن الوطني والدولي.
وبذلك فإن إنشاء الوحدة مطلب تشريعي دولي، فمعظم الدول تطبق معايير منظمة العمل المالي (FATF)، والتي تعتبر الكويت عضوة فيها، إذ تراقب المنظمة التزام الدول بمعايير غسل الأموال ومكافحة الإرهاب، وتصدر تقارير دولية دورية بذلك، وأي دولة لا تملك تلك الوحدة، التي يطلق عليها في بعض البلدان أيضًا وحدة الاستخبارات المالية، فإنها تصنف كدولة عالية المخاطر، لأن لديها أوجه قصور استراتيجية في نظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وحينها تُطبق ضدها تدابير لحماية النظام المالي الدولي من مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهذا ينعكس سلبًا على اقتصادها وسمعة نظامها المصرفي، ودرجة الثقة في التعاملات المالية والاستثمارية.
علاقة وحدة التحريات المالية بالبنك المركزي
لتحديد علاقة وحدة التحريات المالية بالبنك المركزي، يجب أن نعرف أن الوحدة أنشئت بقرار وزاري عام 2013 وتتمتع باستقلال مالي وإداري، ولها الصلاحيات الكاملة لاتخاذ القرارات بشأن المسائل التي تندرج في نطاق مسؤولياتها ومهامها.
حددت اللائحة التنفيذية لقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب أربع جهات رقابية (تسمى الجهات المخطِرة)، أي أنها تخطر وحدة التحريات بأي عملية مشبوهة تُبلغ بها من قبل الجهات التي تراقب عليها، وهذه الجهات هي:
- بنك الكويت المركزي، الذي يراقب: البنوك، وشركات الصرافة، وشركات التمويل
- وزارة التجارة والصناعة، المعنية بالرقابة على: شركات التأمين، والوكلاء والوسطاء، ومؤسسات الصرافة، وسماسرة العقارات، وتجار المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، والمحاسبين
- هيئة أسواق المال، والمعنية بالرقابة على: شركات الاستثمار، وشركات تداول الأوراق المالية، وشركات الوساطة المالية، والمؤمّنين، ومديري الأصول، والصناديق المشتركة، وأمناء الحفظ
- جهات ذاتية التنظيم، تراقب المحامين ونقابة المحامين
بناء على ذلك، فإن دور تلك الجهات (المخطِرة) يقتصر على إبلاغ وحدة التحريات المالية بأي شبهات غسل أموال ومكافحة إرهاب، بعد أن تتلقى أي بلاغ عن شبهات من الجهات التي تراقبها. فمثلًا، يخطر البنك المركزي وحدة التحريات المالية بشبهة غسل أموال بعد تلقيه بلاغًا من أي بنك أو شركة صرافة ونحوها، وبعد ذلك تؤدي وحدة التحريات المالية دورها بالتحقيق في البلاغات ودراستها وتحليلها، وعندما تتوافر لديها الدلائل الكافية تحيلها إلى النيابة.
ما صحة التباسات دور البنك المركزي في مكافحة غسل الأموال؟
أثيرت قضية الصندوق السيادي الماليزي (1MDB) دوليًا منذ صيف 2016، لا سيما في الولايات المتحدة (كان رئيس الوزراء الكويتي في هذه الفترة الشيخ جابر المبارك، المتهم ابنه في القضية)، في حين بدأت أولى خيوطها تتضح في الكويت في ربيع 2020، بعد تصاعد الحديث والتحقيقات بشأن تداعيات الصندوق، بكل ما فيه من شبهات، عبر قنوات متعددة، إحداها الكويت، بالتزامن مع إلقاء الجهات الأمنية القبض على شبكة محلية متخصصة في غسل الأموال، ومن ثم تورط مشاهير السوشيال ميديا في عمليات غسل أموال والتحقيق معهم وتجميد حساباتهم، وقبل كل ذلك قضايا النصب العقاري التي استُخدمت في كثير من الأحيان في عمليات تبييض أموال وصلت قيمتها إلى 1.065 مليار دينار.
أثارت هذه الأحداث في مجملها تساؤلات عن غياب دور الجهات الرقابية المعنية في الكشف عن شبهات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، خصوصًا وحدة التحريات المالية وبنك الكويت المركزي، رغم مرور تسع سنوات على إقرار القانون رقم 106 لسنة 2013 الخاص بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتصاعدت الأصوات الشعبية المتذمرة.
بناء على ذلك، وفي رد على سؤال النائب البرلماني رياض العدساني لوزير المالية الأسبق براك الشيتان بشأن موقف المركزي ودوره (نشرته جريدة الراي)، بين المركزي موقفه بشأن التحويلات المالية الضخمة، والتي جاء بعضها داخل الكويت تخص الصندوق السيادي الماليزي ووصلت إلى 1.8 مليار دولار، بأنه لم يوقع جزاءات في هذا الخصوص على البنوك المعنية. ولفت البنك إلى أنه لم يتبين وجود مخالفة لديها، بعد تقديمها إخطارات دون تأخير إلى وحدة التحريات عن الاشتباه الذي توافر لدى كل منها تجاه هذه المعاملات.
برر المركزي موقفه بأنه منذ بدء الموضوع لم تتأخر البنوك المعنية في أداء الدور المنوط بها تجاه متابعة المعاملات المتعلقة بالصندوق الماليزي، إذ أخطرت في عام 2016 وحدة التحريات عنها بعد إجراء عمليات البحث والتحري وجمع المعلومات، والتي نتج عنها توافر دلائل كافية للاشتباه، وفقًا للمتطلبات الواردة بالقانون والتعليمات الصادرة من البنك المركزي في هذا الخصوص.
وضح المركزي أنه تبع ذلك إخطارات متعددة من البنوك المعنية إلى وحدة التحريات بخصوص الموضوع، وذلك في الأعوام 2017 و2018 و2019، مشيرًا إلى أنه أدى الدور المنوط به على الوجه الأكمل وبكفاءة عالية وفق أحكام القانون، من خلال مهامه التفتيشية المتكررة منذ 2016 للتأكد من وجود وسلامة هذه الإخطارات التي قُدمت إلى وحدة التحريات، بموجب النماذج المحددة لذلك من جانب الوحدة.
وفي نفس الرد على سؤال النائب رياض العدساني الذي وجهه إلى الشيتان، أفاد المركزي أن عدد الجزاءات التي وقعها على الوحدات الخاضعة له منذ صدور القانون 106 لسنة 2013 وحتى تاريخه بلغ 210 جزاءات، موزعة بواقع 104 إنذارات كتابية، و106 جزاءات مالية، بقيمة تتجاوز 3.692 مليون دينار.
وبذلك، وإذ كان البنك المركزي قد وجه الإخطارات إلى وحدة التحريات المالية، فلمَ لم تنفذ الوحدة دورها وتمنع وقوع ما حدث؟ خصوصًا فضيحة الصندوق الماليزي المتهم فيها نجل رئيس الوزراء الأسبق الشيخ جابر المبارك الصباح، وشريكه رجل الأعمال حمد الوزان.
يبدو أن الإجابة قد تظهر جلية عندما نعلم أنه مع تعيين باسل الهارون رئيسًا لوحدة التحريات المالية في 2018، قدم كتاب استقالة مسببة بعد 18 يومًا فقط بسبب تقليص صلاحياته، وفُسرت الاستقالة آنذاك بأنها احتجاج على تقاعس الحكومة عن قضية الصندوق الماليزي (وقد يكون بسبب ضغوطات سياسية مورست عليه، إذ كان الشيخ جابر المبارك رئيسًا للوزراء آنذاك). وظلت الوحدة دون رئيس حتى 2021، عندما أعيد تعيين الهارون رئيسًا لها في أغسطس، قبل أن يُعين محافظًا للبنك المركزي الذي يعد الهارون ابنًا له، إذ عمل به لسنوات طويلة.
وفي ما يتعلق بقضية ضيافة وزارة الداخلية، ذكر المركزي مدافعًا عن موقفه أنه وقع جزاءات مالية بقيمة 1.5 مليون دينار على ثلاثة بنوك، وذلك بالحد الأقصى المقرر قانونًا لقيمة الجزاء المالي البالغ 500 ألف دينار على كل منها، إزاء ما تبين من وجود قصور لديها، فضلًا عن عزل الموظفين المقصرين في أداء مهامهم، كما طالب هذه البنوك بتلاوة تلك الجزاءات خلال اجتماعات جمعياتها العامة.
وأوضح المركزي أنه وفي سبيل تلافي حدوث أي ثغرات، فقد ألزم كل بنك بتشكيل لجنة تضم في عضويتها مسؤول الالتزام عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (تأكيدًا لأهمية دوره في تقديم البلاغ من عدمه)، لتكون مختصة باتخاذ القرار بشأن إخطار وحدة التحريات عن المعاملة من عدمه، مع تدوين المناقشات ورأي كل عضو والقرار النهائي المتخذ بشأنها بصورة كتابية، والاحتفاظ بما يفيد ذلك.
وفي قضية مشاهير السوشيال ميديا و«الفاشونيستات»، رفعت البنوك 20 إخطارًا إلى وحدة التحريات المالية بشأن حساباتهم في منتصف عام 2018، في حين طلبت النيابة العامة في يوليو 2020 تجميد حسابات 10 منهم فقط، ما يثير الاستغراب هذه المرة من تأخر وحدة التحريات المالية في إبلاغ النيابة عن تلك الحسابات طوال تلك السنوات.
وفي تصريح سابق له، ذكر النائب السابق عبد الله الكندري أن «المشكلة باتت تتعدى القوانين والأجهزة الرقابية إلى مدى جدية الحكومة ومسؤوليها في محاربة الفساد».
ولعل الأمر المستغرب أكثر أن النيابة العامة قررت في قضية تضخم حسابات مشاهير السوشيال ميديا، حفظها عن جميع المشاهير المُحالين من وحدة التحريات المالية، مبررة ذلك بوجود قصور في تطبيق القوانين المنظمة للإعلان التجاري عن السلع والخدمات بين يدي وزارتي الإعلام والتجارة والصناعة، داعية الوزارتين إلى تنفيذ مسؤولياتهما نحو تطبيق أحكام القوانين، ومنح التراخيص اللازمة للحسابات الإلكترونية المعلنة لديهما، خصوصًا بعد تقدمهم إلى الوزارتين للحصول على التراخيص وعدم الاستجابة لطلبهم، ولذلك يلزم إخضاع تلك الحسابات للقانون ورقابة الدولة حتى لا تكون منفذًا لضعاف النفوس لتحقيق مآرب خارجة عن القانون.
مما سبق، نرى أن اللوم في القضايا الخاصة بكشف جناية غسل الأموال قبل وأثناء حدوثها يكمن في مسؤولية البنوك عن تقديم معلومات فورية تفصيلية لوحدة التحريات المالية بشكل مباشر دون موافقة مجالس إداراتها، وأن بعض القضايا لم تخطر وحدة التحريات بتضخم بعض الحسابات.
في حين أن المصارف أخطرت وحدة التحريات المالية في قضايا أخرى، ولكن وحدة التحريات تأخرت في تحويلها للنيابة لعدم تمكينها من الدخول على بيانات الحسابات المصرفية وبيانات الصرافة والشركات. بينما حصلت بعض شبهات غسل الأموال على براءات مثل الفاشونيستات بسبب قصور تطبيق القوانين المنظمة للإعلان التجاري عن السلع والخدمات بين يدي وزارتي الإعلام والتجارة والصناعة.
يقول حسن البحراني منسق تكتل متضرري النصب العقاري لـ«منشور»، إن عمليات غسل الأموال التي حصلت في الكويت عائدة إلى قصور في الأداء وليس قصور قانون غسل الأموال ومكافحة الإرهاب، ضاربًا المثال في كل حالة على حدة، فعمليات غسل الأموال في القطاع العقاري بالكويت كان يمكن اكتشافها بشكل مبكر جدًا لو شددت وزارة التجارة، وهي الجهة الرقابية على الشركات الخاضعة لرقابتها، تحرياتها ومراقبتها لميزانيات هذه الشركات بشكل صحيح، ثم يأتي دور البنوك في الرقابة على تحويل بعض الشركات العقارية لمبالغ ضخمة إلى حسابات شخصية وكيانات غير متعاقد معها، وهذا ما حصل أيضًا في فضيحة ضيافة الداخلية.
يوضح البحراني أنه على الجانب الآخر، التزمت البنوك بدورها في قضايا أخرى مثل الصندوق الماليزي ومشاهير السوشيال ميديا، إذ أخطرت المركزي مبكرًا عن العمليات، وبدوره أبلغ المركزي وحدة التحريات المالية، التي يُلقى عليها باللوم لتأخرها في التحرك وتحويل تلك القضايا للنيابة من 2018 حتى 2020.
ويصف وحدة التحريات المالية بأنها «مسحوبة الصلاحية»، وليس لها صلاحية الاطلاع على البيانات وتحليلها وإرسالها بالسرعة الممكنة للنيابة العامة، وهذا يطول عمليات الكشف عن غاسلي الأموال ويعطيهم الوقت لتصريفها وتشتيتيها.
ويؤكد البحراني أن لو نفذت جميع الجهات المعنية في قانون غسل الأموال ومكافحة الإرهاب دورها المنوط بها بالشكل الأمثل، لما رأينا جريمة من هذا النوع تقع في الكويت.