مكنت الحرب الأخيرة على قطاع غزة المحاصر من تعزيز قوة الإعلام بشقيه التقليدي والجديد، وهيمنته على خارطة السياسة الدولية بشكل جذري، وتمكن الفلسطينيون لأول مرة منذ عقود من أن يصلوا بأصواتهم ومعاناتهم للعالم، وأن يقصوا حكاية هذه الأرض المحتلة والقمع المتواصل الذي يعانيه الفلسطينيون بسرديات أخرى صادمة لم تعتدها الصحافة العالمية من قبل، على خلاف تلك السرديات التي حاولت وسائل الإعلام الغربية تقديمها منذ سنوات، مستعينة بارتباطها المباشر بالتيارات اليهودية والصهيونية ولوبياتها في الولايات المتحدة وأمريكا وألمانيا.
فكيف بدا المشهد الإعلامي العالمي إذًا في المواجهة الأخيرة بين الفلسطينيين وإسرائيل؟ وهل يمكن القول إن الفلسطيني قد استطاع نيل عدد من المكاسب الإعلامية أمام النزف والخسائر التي طالت صورته إعلاميًا منذ سنوات طوال؟
التيارات التقليدية
ظلت الصورة المترسخة حول الأحداث في فلسطين عبر وسائل الإعلام محل اهتمام وعناية من قبل إسرائيل والجماعات الصهيونية النشطة في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما يفسر الدعم الكبير الذي تحظى به إسرائيل إعلاميًا.
تمثل جمعية الصحافة الأمريكية اليهودية أحد الأقطاب الأساسية لتنظيم دعم الصهيونية إعلاميًا في الولايات المتحدة وخارجها، وتضم مجموعة من كبار الصحفيين والمحللين السياسيين والخبراء في مجال الصناعات الإعلامية. وبفضل نشاطاتها المستمرة، تمكنت الجمعية من حشد أكبر عدد من الصحفيين المنزويين تحت مظلتها، وتنظيم الجهود الصحفية الخاصة باليهود، ودعم انتساب المؤسسات الصحفية الكبرى لها، ما يوفر دعامة أساسية لمواجهة أي تيارات مضادة للصهيونية في الخطاب الإعلامي الأمريكي.
هناك أيضًا الملياردير اليهودي روبرت مردوخ، الذي يوصف بأنه أحد الأقطاب الأساسية الداعمة لسياسات إسرائيل في العالم، وأحد أكبر ملاك وسائل الإعلام والترفيه. يعتبر مردوخ شخصية اقتصادية مهمة لليهود، وبفضل أذرعه الإعلامية تمكن من توفير الحشد الإعلامي العالمي المحابي لسياسات إسرائيل من خلال صناعة برامج الترفيه والتوك شو والأفلام وغيرها.
يمتلك مردوخ جريدة وول ستريت جورنال وشبكة ناشيونال جيوغرافيك سابقًا، وهو المالك الرئيسي لقنوات فوكس الشهيرة التي دعمت الرئيس السابق دونالد ترامب في الكثير من سياساته، وبينها نقل مقر السفارة الإسرائيلية إلى القدس المحتلة.
ورغم أن مردوخ خدم السياسات الصهيونية العالمية لسنوات، فإن مطالبته بالالتفات لتغيرات الخطاب اليهودي المعاصر ليحمل أفكار الشباب غير المتطرفين دينيًا والأكثر ميلًا للعلمانية تواجَه بانتقادات شديدة في الولايات المتحدة وإسرائيل. مثّل مردوخ ملاذًا مهمًا للفكر الصهيوني المتطرف لسنوات، ودعم بفعل قدرته الاقتصادية على شراء أكبر وسائل الإعلام في الولايات المتحدة وأوروبا حضور اليهودية الإيجابي عبر وسائل الإعلام.
بشكل عام، تتوزع خارطة التمويل الصهيوني لوسائل الإعلام على تيارات متعددة بين اليمين اليهودي المتطرف والتيارات اليسارية والتيارات اليمنية التقدمية، وهي جميعًا تقدم صورة بانورامية للدعم الذي تحظى به إسرائيل عالميًا.
الإعلام العالمي ومحاباة إسرائيل: التيارات التقليدية
حتى مع الحرب الأخيرة في غزة والانكشاف العالمي على ما يحدث في الأراضي المحتلة، لا تزال إسرائيل مستفيدة من التعاطف التاريخي الذي يبديه لها العالم، ومصدره ما حدث في الهولوكست، فتهمة ازدراء اليهود ومعاداة السامية باتت حاضرة أمام جميع المحاولات الإعلامية الغربية لتفكيك ما يحدث في فلسطين من قمع واحتلال واضطهاد عنصري.
وظف المحتل أدواته الإعلامية المستمرة للنيل من الفلسطينيين عبر عدة شواهد، أهمها الترويج لإسرائيل بلدًا ديمقراطيًا وحيدًا في المنطقة العربية التي يسودها الظلم واللامساواة وفساد الأنظمة السياسية. وجرى أيضًا بشكل ممنهج الترويج للحراك الفلسطيني على أنه حراك جهادي إسلامي متطرف.
تلجأ بعض المواقع الصحفية العالمية إلى تبني خطاب مشوه للحقائق عبر التلاعب الصريح بالمصطلحات.
بدا أن الإعلام الألماني هو الأكثر تأثرًا بهذه السياسة، فلقد عززت وسائل الإعلام الألمانية حتى في الحرب الأخيرة على قطاع غزة من معالجاتها الناقدة للحراك المقاوم من غزة.
في تقرير نشرته دويتشه فيله الألمانية، منحت المؤسسة تعريفها الخاص بحركة حماس والتيارات المقاومة في قطاع غزة، والتي لا تزال بالنسبة لها حركة إرهابية تقوض السلام في المنطقة وتبطل الجهود العالمية لتحقيقه، وهي الرواية التي يفرضها الاحتلال منذ سنوات طويلة. ونشرت نيويورك تايمز، وهي واحدة من أكبر الصحف الأمريكية، إعلانًا مدفوعًا من شبكة يمولها اليهود تحمل اسم شبكة القيم العالمية، يقول إن المغنية البريطانية الشهيرة دوا ليبا وعارضتي الأزياء من أصل فلسطيني بيلا وجيجي حديد متهمات بمعاداة السامية والتآخي مع حماس، التي تعتزم تكرار الهولوكست وقتل اليهود وفق الصحيفة.
تتعامل بي بي سي مع تشويه الحقائق في الحرب الأخيرة على أنه تشويه حقائق متعمد من طرف واحد. لقد غضت المؤسسة الطرف عن الكثير من الأخبار المضللة التي سادت الحرب على غزة وكان مصدرها الإعلام الصهيوني، بينما انتقدت انتشار عدد من الأخبار المضللة عبر الإنترنت، بينها صور من الحرب السابقة لعام 2014 وقد نُسبت للحرب في هذا العام، بهدف النيل من إسرائيل أو خدمة أهداف حماس.
حتى في ما يتصل بالوصف المباشر للأحداث، تلجأ بعض المواقع الصحفية العالمية إلى تبني خطاب مشوه للحقائق عبر التلاعب الصريح بالمصطلحات. ففي حساب أخبار دويتشه فيله الناطق بالإنجليزية على تويتر، نشرت المؤسسة خبرًا ينقل عن مسؤولين بالصحة الفلسطينية إشارتهم إلى مقتل 20 فلسطينيًا بينهم 9 أطفال خلال «قتالهم مع إسرائيل». وكان واضحًا أن مصطلح القتال مع إسرائيل (Fighting with Israel) مضلل وخاطئ لوصف الفلسطينيين المدنيين المحاصرين في غزة، والذين يتعرضون للتصفية عبر قصف الطائرات الإسرائيلية، الأمر الذي قابله الكثير من النشطاء على الإنترنت بانتقادات شديدة.
حتى بالنسبة للأصوات اليسارية في الولايات المتحدة، فإنها هي الأخرى تبدو غير قادرة على الحديث بشفافية مطلقة مثلما تتحدث في باقي القضايا، عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. نشر مقدم البرامج الأمريكي الشهير تريفور نواه، والذي يحظى بشهرة كبيرة حتى في العالم العربي، مقطع فيديو عبر حسابه على تويتر يبرر فيه عدم اكتراثه بما يحدث عندما يتعلق الأمر بأي من الطرفين على حق، رغم كل الشواهد التي يملكها من الواقع، ويمكن فهم ذلك بسبب التطرف الحاصل إزاء هذه القضية، وإمكانية وصمك كمواطن أمريكي مناصر لأي من الطرفين المتصارعين في تلك الحرب بمعاداة الطرف الآخر أو معاداة السامية، أو أن تكون مهددًا بالهجوم من الطرفين أو تراجع شهرتك بصورة كبيرة.
كل هذه الشواهد وغيرها تبرر إلى حد كبير كيف تبدو مناقشة ما يحدث فعلًا في الأراضي المحتلة من قمع وانتهاكات تمس الفلسطينيين تحديًا بالنسبة للإعلام العالمي، لا سيما الصحافة الأمريكية.
مكاسب جديدة
مع ذلك كله، فإن «القضية الفلسطينية قبل الحرب الأخيرة على غزة ليست كما بعدها». إنها المرة الأولى منذ سنوات طوال التي تظل فيها القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين تحت الاحتلال مصدر اهتمام مستمر لما يزيد عن 15 يومًا في الإعلام العالمي. لقد تصدرت الأصوات الفلسطينية كبرى المحطات الإذاعية والتلفزيونية وقنوات الإنترنت، رغم أن التحيز والتضليل والتواطؤ مع الاحتلال لا يزال مستمرًا. ويمكن القول إن الحرب الأخيرة فرضت نموذجًا جديدًا من المعالجة الإخبارية، يمكن الاستناد عليها وتعميقها لبناء سردية عالمية جديدة نحو القضية الفلسطينية.
أحد هذه المكاسب كان تحويل القضية من مسارها الدبلوماسي المتعثر إلى قضية ضغوط تمارسها الصحافة على الإدارات السياسية الأوروبية والأمريكية، من أجل التحرك للحوار مع المقاومة الفلسطينية والاعتراف بدورها في تحقيق السلام.
على الرغم من تاريخها الطويل ضد فصائل المقاومة وكتابتها التحريرية المنتقدة لسلوك الفلسطينيين واتهامها المستمر لهم بتصعيد الموقف لإرباك إسرائيل، ظهر موقف صحيفة ذا أتلانتيك مغايرًا ومفاجئًا هذه المرة، إذ تبنت حلولًا سياسية سلمية أقل وطأة لتخفيف معاناة الفلسطينيين.
سمحت التغطية المتوازنة للحرب الأخيرة على غزة باستكتاب مجموعة من الأقلام التي توصف بأنها أقل تطرفًا وأكثر اقترابًا من معاناة الفلسطينيين، إذ كتبت ياسمين سرحان للصحيفة منتقدة سياسات الحكومات الأمريكية إزاء هذه القضية، وقالت: «أعلنت إدارة ترامب أنها ملتزمة بحل الدولتين، لكنها عملت أيضًا على تقويضه، فقد اختارت نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وغض الطرف عن التوسع الاستيطاني، وهي الخيارات التي يُنظر إليها على أنها مؤيدة لإسرائيل، أو على الأقل مؤيدة للحكومة اليمينية لإسرائيل. وبينما يواصل الديمقراطيون دعم خيار الدولتين من حيث المبدأ، لم يُظهر الرئيس بايدن أي خطط لمتابعة الإطار الذي ينظم هذه الممارسة العملية لولا هذه الموجة الأخيرة من العنف والأحداث، فمن غير المرجح أن يشعر البيت الأبيض بالحاجة إلى التعامل مع هذه القضية على الإطلاق».
حضرت القصص الصحفية التي ترنو للاقتراب من الواقع الفلسطيني ومعاناته بشكل كبير في الصحافة العالمية.
بالعودة إلى أحداث حرب عام 2014 وبعض المقالات والكتابات المنشورة في هذه الصحيفة، سنجد أن آفاقها تغيرت بالكامل إزاء التعامل مع القضية شكلًا وموضوعًا، إذ لم يعد التشكيك في نزاهة دفاع الفلسطينيين عن أرضهم محلًا للنقاش، وخفت كذلك وطأة الاتهامات الموجهة لحماس ووصمها بالإرهاب وتعطيل جهود السلام.
مكسب آخر في التعاطي الصحفي مع هذه القضية يتصل بمحاربة التحيز والتضليل الذي يسود الصحافة العالمية إزاء القضية الفلسطينية. ففي موقف قلما يحدث، اعترفت الغارديان البريطانية بأنها أخطأت في تقدير صحة المعلومات المتصلة بوعد بلفور.
أتى هذا الاعتذار في ظل الضغط العالمي الواسع في الحرب الأخيرة على غزة، وتزامنًا مع احتفال الجريدة العريقة بمرور مئتي عام على تأسيسها. بررت الغارديان سلوكها بالقول: «لقد كتب معنا أنصار الصهيونية، وهذا ما أعماهم عن حقوق الفلسطينيين». ورغم أن هذا الاعتذار أتى متأخرًا ومحدودًا من حيث المعلومات، فإنه يحمل أهمية كبيرة في سياق التعاطي التاريخي والمستقبلي مع الحق الفلسطيني عالميًا.
بالنسبة لمعالجة بي بي سي التحريرية الجديدة، فإن «حماس الإرهابية» لم يعد وصفًا صحفيًا يمكن تداوله بسهولة بين وسائل الإعلام، بل إن معالجاتها الجديدة المتزامنة مع الحرب تشير بشكل واضح إلى أن هذا الوصف هو وصف سياسي أطلقته الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي.
في جانب آخر، حضرت القصص الصحفية التي ترنو للاقتراب من الواقع الفلسطيني ومعاناته بشكل كبير في الصحافة العالمية. فمثلًا لم تعد الحرب متوازنة كما كانت صحيفة نيويورك تايمز تقول في السابق، إذ أن الفلسطيني يواجه الانهيار وظروف صعبة للغاية بسبب الاحتلال والممارسات الاستيطانية وظروف الحصار المفروض عليه.
نشرت الصحيفة تقريرًا معمقًا بعنوان «الحياة في ظل الاحتلال: المأساة في قلب الصراع»، ركزت فيه على الظروف المأساوية التي تعيشها العائلات الفلسطينية وحرمانها من حقوقها الأساسية، في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل في بناء المزيد من المستوطنات غير المشروعة بالضفة الشرقية وحصارها الدائم لقطاع غزة.
تحدثت الصحيفة عن مراحل متعددة من هذه المأساة تشمل العيش داخل مستوطنات، والحرمان من التعليم، وتشتيت العائلات، وإجبار الفلسطينيين في الداخل على العمل لصالح المحتل، وفقدان المنازل، واعتمدت على شهادات متعددة وقصص مروية من جانب الفلسطينيين.
ونشرت ڤايس نيوز برنامجًا توثيقيًا لحياة عدد من فلسطينيي حي الشيخ جراح المهدد بالاحتلال الكلي. ومثلت شهادة الناشطة الشابة منى الكرد وعائلتها التي تقطن الحي جانبًا مهمًا من القصة المقدمة حول الظروف المعيشية الصعبة لسكان الحي. ورغم أن المؤسسة سعت لتقديم شهادات مستوطنين يهود، فإن هذا لم يخلُ من سخرية واستهانة بضحالة تلك الشهادات، وعدم توازنها أمام معاناة سكان الحي الأصليين.
قيمة هذا العمل في كونه توثيقيًا تفاعليًا محاكيًا للأحداث في الميدان والظروف التي تواجهها الكرد وباقي السكان لحظة بلحظة، إذ تُسمع طلقات الرصاص المطاطي التي تصيب وجوه وأعين المتظاهرين، وتظهر سيارات المياه العادمة التي تلقيها قوات الاحتلال على المحتجين، وتُظهر الكاميرا الكرد وهي تجبَر على مقاومة قوات الاحتلال بالصراخ والاستغاثة لحماية أخيها من الأسر والاعتقال.
في الأحداث الساخنة، غالبًا ما تستعين وسائل الإعلام الدولية بالناشطين عبر الإنترنت كمصادر فعالة لاقتناص الحقائق من الميدان. وقد استفادت وسائل الإعلام العالمية من الضجة التي أحدثتها بعض الحسابات الخاصة بالناشطين الفلسطينيين عبر الإنترنت، والشابة منى الكرد وشقيقها محمد هما نموذج واضح للناشطين الذين يحظون اليوم بمتابعة ما يقرب من مليون شخص عبر منصات اجتماعية مختلفة. وكذلك وجهت تغطيات قناة الجزيرة الإنجليزية المتزامنة مع الحدث الأنظار إلى عدد من المصادر الفلسطينية الجديرة بالاهتمام.