يسقط قتلى وجرحى خلال هجوم إرهابي في قلب لندن، فتَعِدُ رئيسة الوزراء البريطانية بزيادة الإنفاق على أجهزة الأمن لتجنب تكرار الحادث. يقع عشرات الضحايا خلال تفجيرات في بروكسل، فتعم البلاد حالة استنفار مع توعُّد تنظيم داعش بشن هجمات جديدة على دول غربية أخرى. يُقتل ما يزيد على مئة شخص في سلسلة هجمات على باريس، فيعلن الرئيس الفرنسي حالة الطوارئ في البلاد.
بسبب تلك الهجمات، تُنشأ سلسلة من المراكز واللجان الخاصة بمكافحة الإرهاب، وتبني الدول استراتيجيات موحدة لمنع الأعمال الإرهابية والتصدي لها، وتشدد على الخطر الذي تشكله على الحياة الإنسانية. إجماع دولي على جدية وفداحة هذه الأعمال، استنكار وإدانة لها، دعوات للتنسيق بين الحكومات للحدِّ من خطرها المتزايد، أو هكذا يبدو الأمر لمن يتابع نشرات الأخبار.
لكن في مقابل هذا الإجماع، هناك من يرى أن التغطية الإعلامية تضخِّم حجم الأعمال الإرهابية وتعطيها قيمة أكبر ممَّا تستحق، خصوصًا إذا علمنا أن التدخين والكحول والغرق وحوادث السير وجرائم القتل والانتحار، تتسبب كل واحدة منها في قتل عدد أكبر من ضحايا الإرهاب سنويًّا، ومع ذلك لا نسمع في الإعلام دعوات غاضبة لعلاجها كما يحدث مع الهجمات الإرهابية، ويعود هذا إلى عدد من الأسباب حاول مقال على موقع «Vox» بيان أثرها وتبعاتها علينا.
تحقَّق من الأرقام: حوادث السير أخطر من الإرهاب
احتمال وفاتك في حادث سير أكبر من موتك في هجوم إرهابي.
تطور البشر في البداية داخل جماعات محلية صغيرة قلَّما تجاوز عدد أفرادها مئة، ونَجَمَ عن هذا أن أصبح أي حدث يهدد أمن المجموعة مسألة مشتركة بين الجميع، فمثلًا لو تعرض فرد لهجوم من حيوان مفترس، يصير الحادث شأنًا عامًّا يستوجب اتخاذ تدابير جماعية لضمان عدم تعرض أفراد المجموعة لهجمات مماثلة مستقبلًا.
لكن المجموعات الأكبر من البشر تخضع لقوانين مختلفة تمامًا، بحسب كاتب المقال، فلو تعرض شخص في وقتنا الحالي لهجوم أسد، وعُرضت الحادثة مباشرةً على التليفزيون، فلا داعي لأن يأخذ أي فرد آخر حذره في مجتمع يفوق تعداده الملايين، ويشارك الكرة الأرضية مع ما يزيد على سبعة مليارات شخص، لأن ما حدث رغم بشاعته قليل الاحتمال بدرجة هائلة.
رغم ذلك، سيُفزعنا حادثٌ كهذا أكثر من مشكلاتنا الأضخم حجمًا، ويرجع هذا في رأي الكاتب إلى عجز الناس عن فهم طبيعة المجتمع الحالي، لأن أرقام مثل مئة مليون أو سبعة مليارات شخص كبيرة للغاية وتستعصي على الفهم البشري، وفي مواجهتها يلجأ الفرد إلى الاعتماد أكثر على القصص والحكايات التي يسمعها، عوضًا عن الإحصائيات والاحتمالات الدقيقة التي قد توفر معطيات مخالفة لما هو سائد.
هذا الخلل الجوهري في طريقة التفكير، أي النظر إلى القصص والحكايات كما لو كانت أهم من الأرقام والإحصاءات، هو الذي يثبِّت الإرهاب في الوعي الجمعي على أنه الخطر الأعظم الذي ينبغي على الجميع التصدى له، حكومات وأفرادًا، مع أن احتمال وفاتك جرَّاء حادث سير مثلًا أكبر بكثير من موتك في هجوم إرهابي.
أطفئ التليفزيون: الأخبار تضخم خطورة الإرهاب
يشير المقال كذلك إلى الدور الذي لعبته وسائل الإعلام في هذه العملية، إذ تمدنا التغطيات الإعلامية المستمرة بسيل لا ينقطع من القصص، التي يُفترض أن نطبق عليها منطقنا الناقص المعطوب.
ضخَّمت هذه التغطيات العالمية المكثفة الإرهاب، وأحاطته بهالة تفوق ما يستحقه، وحولته إلى تكتيك أكثر فعالية ممَّا كان عليه في السابق. فمع أن مشكلة الإرهاب في أوروبا كانت أسوأ بكثير في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين مثلًا ممَّا هي عليه اليوم، إلا أنها باتت الآن موضوع الساعة في وسائل إعلام العالم وقضية نقاش دائم، ولا تكاد تخلو قناة من برنامج يحاول تحليل ظاهرة الإرهاب ورصد أسبابها وسُبُل مكافحتها.
وللإشارة إلى التحول الذي شهدته التغطية الإعلامية للإرهاب، يستشهد المقال بحادث تفجير محطة قطار بولونيا الإيطالية عام 1980، الذي لم يحظَ بنفس الاهتمام الذي يُمنَح للهجمات الإرهابية الحالية، مع أنه كان يُفترض، بمقاييس اليوم، أن يحصل على التغطية ذاتها إن لم يكن أكثر.
لا غرابة إذًا في أن نتلقى أخبارًا غزيرة بخصوص تفجير إرهابي هنا أو هجوم انتحاري هناك، وتغطية حية وفورية للحدث وما بعده، ونرى في هذه الأخبار ناقوسًا منذرًا بالخطر الذي يحاصر البشر في كل مكان، وهذا هو الأثر الذي تخلقه وسائل الإعلام، فهي تُشعرنا أن أي هجوم إرهابي يضرب منطقة من العالم، هجوم على العالم كله.
اقرأ أيضًا: كيف تُغسل الأدمغة؟
داعش أضعف ممَّا تظن: الأفراد أقوى من الجماعات
أظهرت أبحاث أن الجماعات الإرهابية نادرًا ما تحقق أي مكاسب.
تثير عمليات القتل التي ينفذها إرهابيون استجابةً تتسم بنوع خاص من الخوف، لأننا نميل إلى افتراض أن التهديدات الخارجية تكون فوق سلطة القانون، لا سيما تلك التي لا نفهمها جيدًا أو لا نعلم عن تنظيماتها إلا قليلًا، ونعتقد أن لها أجندة واستراتيجيات وقدرة على النمو والتوسع، وفي نهاية المطاف ستدمر العالم، بحسب الكاتب.
هذا الافتراض له ما يبرره، فالهجمات التي ينفذها أفراد تُخلِّف ضحايا أكثر من هجمات التنظيمات الإرهابية، لكنها تفتقر إلى التنظيم والتخطيط والدعاية، في حين أن التنظيمات المسلحة تبرز إلى الواجهة بعد تنفيذ عملياتها، وتتبنى الحدث وتتوعد بشن هجمات أخرى، فتضمن لنفسها نوعًا فريدًا من الدعاية.
يبقى تهديد الهجمات المنفردة واردًا باستمرار، لكن الاختلاف بينها وبين التهديدات المنظمة أن الأخيرة لها قدرة هائلة على التوسع والانتشار في مُخَيَّلتنا، والواقع أن الإرهاب سلاح من لا سلاح له، واللجوء إليه مؤشر على أن اليأس دبَّ في نفوس مستخدميه، إذ أظهر عدد من الأبحاث أن الجماعات الإرهابية نادرًا ما تحقق أي مكاسب، وربما كان هذا وراء لجوء تنظيم داعش إلى الإرهاب في أوروبا، بعد أن بدأ يخسر الحرب الواقعية في العراق وسوريا.
قد يهمك أيضًا: كيف حاول الاتحاد السوفييتي التضييق على الإسلام فأخرج جيلًا من المتطرفين؟
لا تصدق السياسيين: إنهم يستغلون خوفك
يقف السياسيون عاجزين أمام هذا الخوف الجماعي اللاعقلاني من الهجمات الإرهابية، فإجبار الناس على دراسة علم الإحصاء لن يكون مقبولًا، مع أنه ربما يكون الخيار الأكثر فعالية، في رأي كاتب المقال، لجعل المجتمع أكثر مرونةً في مواجهة التهديدات الإرهابية وفهمها.
لكن بعض السياسيين يستغل تلك المخاوف عن عمد لتمرير قرارات سطحية لن تعالج المشكلة بقدر ما ستزيد تفاقم الأوضاع، مثل تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإغلاق أبواب بلاده في وجه العرب والمسلمين، وتصريحات المرشحة للرئاسة في فرنسا مارين لوبان التي تتوعد فيها بخفض عدد اللاجئين في البلاد.
في وضعنا الحالي، ربما تكون الخدمات المتبادلة بين السياسيين والتنظيمات الإرهابية هي الخطر الحقيقي الذي يهدد الإنسانية بالفناء.