العالم يسمع أخيرًا: أن يحكي الفلسطيني قصته

الصورة: Getty - تصميم: منشور

خالد القحطاني
نشر في 2021/07/31

يقف الطفل الفلسطيني محمد الكرد ذو الاثني عشر عامًا على سطح منزل في حي الشيخ جراح أمام كاميرا صحيفة الجارديان، ليحكي عن الحياة في القدس الشرقية مع أخته التوأم منى. حي الشيخ جراح هو إحدى مقاطعات شرق القدس المحتل، وتسكنه عائلات فلسطينية تعود أصولها إلى اللاجئين الذين هجَّرهم جيش الاحتلال قسريًا من قراهم أثناء النكبة في 1948.

يبدأ محمد، في الفيديو القصير الذي نُشر بعنوان «القدس الشرقية: مشاركة بيتنا مع مستوطنين إسرائيليين في الشيخ جراح» عام 2011، بوصف عام للحي: «هذه حارتنا، حارة الشيخ جراح. مكونة من 28 بيتًا. كل بيت فيه عائلة فلسطينية عايشة فيه. كل عائلة فلسطينية إلها قصة مع المستوطنين».

ثم يقف لثوان ويشير إلى بيت أمامه ويقول: «هون بيتنا اللي تم الاستيلاء عليه في الثالث من نوفمبر عشرة الصبح، ما كنش فيه حد بالمنطقة، واستولوا عليه بطريقة سهلة بمساعدة الشرطة الإسرائيلية».

يعود محمد لوصف وضع الحي قائلًا: «وين ما كنت بتلاقي شرطة إسرائيلية أو مستوطنين بالشيخ جراح، كأنه الشيخ جراح منطقة عسكرية. فوت على أي دار في الشيخ جراح وراح تلاقي قصة محزنة».

بعد مرور عشرة أعوام على نشر هذا الفيديو، وحلول العيد الثاني والعشرين لميلاد التوأم محمد ومنى الكرد، ما زال حي الشيخ جراح «منطقة عسكرية» كما وصفها محمد عندما كان طفلًا. وما زال الفلسطينيين من سكان الشيخ جراح يواجهون التهجير القسري من منازلهم، خصوصًا بعد حكم محكمة دولة الاحتلال لإخلاء منازل 13 عائلة فلسطينية (نحو 58 شخصًا، منهم 17 طفلًا) خلال الفترة بين مايو وأغسطس 2021. وما زالت دولة الاحتلال تمارس توسعها الذي يخالف جميع القوانين الدولية حتى الآن في فلسطين.

لكن هناك تغيرًا جوهريًا شهدته القضية الفلسطينية أدى إلى تضامن عالمي (خصوصًا في الغرب) لم يسبق له مثيل من قبل، فما الذي أدى إلى هذا التغير؟ هل هي الطريقة التي تُتَداول بها القضية الفلسطينية عالميًا؟ هل هو تغير الطرف الذي يسمع منه العالم تلك القصة؟

تغير السردية الفلسطينية

الصورة: Getty

لم يكن دعم القضية الفلسطينية ومناصرتها مقتصرًا على المجتمعات العربية والمسلمة، لكن الدعم الذي لاقته عالميًا مؤخرًا دفعها لتكون الموضوع الأساسي في الإعلام الغربي والأوساط السياسية.

تكتب الباحثة إيمان الحسين عن تحول السردية الفلسطينية والطريقة المستخدمة اليوم في التحدث عنها، فتقول: «يعود هذا التحول إلى تغير في سردية القضية الفلسطينية أدى إلى خروجها من النطاق الإقليمي والديني التقليدي إلى الإنساني العالمي. وأرت العالم بالصوت والصورة وبلغة جديدة واقع حياة الشعب الفلسطيني، وزيف الرواية الإعلامية الإسرائيلية».

تقترح الحسين في تحليلها لتغيير السردية الفلسطينية عدة أسباب أدت إلى هذا التغير. على سبيل المثال، واحد منها هو أن اللغة المستخدمة لوصف انتهاكات الاحتلال تشبِّه وتقرب ما يعانيه الفلسطينيون بما تمر به الأقليات المضطهدة في دول العالم، كمعاناة السود مع الاضطهاد العرقي في الولايات المتحدة الأمريكية. أدت هذه اللغة إلى ما تصفه بـ«خلق نوعٍ من النضال المشترك». ولعل أهم أسباب تغيير السردية الفلسطينية موجود في جملة ختمت بها إيمان مقالتها: «السردية اليوم أصبحت في يد أصحاب القضية». فما أهمية أن يتغير الطرف الذي يسمع منه العالم قصة فلسطين، وأن يحكي الفلسطيني والفلسطينية قصتهما بنفسهما؟

يحبون قصص فلسطين، ولكن عندما يكتبها غير الفلسطينيين

الصورة: Getty

غزت دولة الاحتلال لبنان في 1982، وقتلت ما يقارب 50 ألف مواطن فلسطيني ولبناني. وفي نفس العام، شُكلت لجنة دولية مكونة من خمسة محامين وأكاديمي واحد من أمريكا وكندا وفرنسا وجنوب إفريقيا وأيرلندا، يترأسها شون ماكبرايد الرئيس السابق للمكتب الدولي للسلام. كان هدف اللجنة التحقيق في الغزو، وما إذا كانت دولة الاحتلال خالفت القوانين الدولية.

أثبتت نتائج التحقيق واستنتاجاته ما كان في الحسبان: دولة الاحتلال، وفق أدلة مادية واضحة، خالفت القوانين الدولية باستخدامها أسلحة وأساليب حربية ممنوعة، واستهداف المواطنين وأماكن تجمعهم كالمستشفيات والمدارس، وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا.

ورغم أن التقرير المكون من 250 صفحة اعتمد في استنتاجاته على أدلة واضحة لا يمكن نكرانها، فإنه رُفض نشره في الولايات المتحدة، وهذا ما دفع المفكر والأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد إلى كتابة مقالته الشهيرة «Permission to Narrate» (الاستئذان لرواية القصة) في 1984، والتي تناقش هذا التنافر بين الحقيقة البديهية (جرائم دولة الاحتلال) وتجاهل الإعلام الغربي لها ولضحايها (تجاهل الأصوات الفلسطينية).

يذكر سعيد أنه لا يوجد أي شك لدى أي مشاهد للتلفزيون أن الإسرائيليين كانوا متوحشين وعديمي الرحمة عند مهاجمتهم بيروت، لكن الحملة الإعلامية في الغرب، سواء في الجرائد أو قنوات التلفزيون، كانت قائمة بشكل رئيسي على تجاهل معاناة من شهد هذه الحادثة من الفلسطينيين واللبنانيين، مبررة بأنهم إرهابيون متطرفون لا يودون العيش بسلام مع إسرائيل الديمقراطية.

منعت هذه الحملة أيضًا مناقشة جرائم إسرائيل بصورة سلبية، لأن أي خطأ في وصف جرائمها قد يجعلهم معرضين للاتهام بـ«معاداة السامية». ولذلك أصبحت القضية الفلسطينية بشكل عام في الغرب تُفهم وتقال وتدرَّس من غير الفلسطينيين، وفق هذه العدسة. وهذه العدسة قائمة بشكل تام على «الاستئذان لرواية القصة» من الفلسطينيين، وحكاية قصتهم من غير الفلسطينيين.

الإعلام الأمريكي يتحدث كثيرًا عن الفلسطينيين، ولكن دون أن يسمع منهم.

قد يعتقد البعض أن فخ «معاداة السامية» أو هذه الحملة الإعلامية منعت وسائل الإعلام الغربية من التحدث عن فلسطين ودولة الاحتلال، لكن العكس تمامًا هو ما حصل.

يشير الكاتب الفلسطيني كليم هوا إلى أن هناك تغطية وتركيزًا (سواء في الصحافة أو الأدب أو السينما) على فلسطين والفلسطينيين، بل هناك الكثير من التغطية أيضًا، لكن أغلب التغطية الغربية للقضية، إن لم يكن كلها، لم يكتبها ويحكيها الفلسطينيون والفلسطينيات بأنفسهم. ورغم ادعائها الحيادية والنزاهة الصحفية والمهنية، يذكر هوا أن التغطية هذه مشوبة بترسبات كُتابها ومنتجيها العنصرية، الناتجة عن عقود من الاستشراق والارتباط الشخصي بدولة الاحتلال. فمثلًا، كان العديد من الكتاب والمحررين المسؤولين عن تغطية فلسطين وإسرائيل في جرائد أمريكية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست مرتبطين بجيش الاحتلال الإسرائيلي، إما بأنهم عملوا لصالحه، أو كانوا أقرباء وآباء لأشخاص عملوا له.

حياد الإعلام الغربي كذبة

الصورة: Getty

تؤدي هذه التغطية بدورها إلى التحكم وتضليل الرأي العام في الغرب باستخدام عدة أساليب، تشمل استخدام لغة غير دقيقة تعتمد على تطبيع وترسيخ صور نمطية تركز على تصوير الفلسطينيين كإرهابيين (مثلًا: داعمو فلسطين من العرب هم المزعزع الرئيسي للسلام)، وتصوير دولة الاحتلال كضحايا (مثلًا: إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط).

ورغم أن هذه الدعاءات ضالة ولا تمت إلى الواقع بصلة، فإنها شكلت فهم الجمهور الغربي للقضية الفلسطينية، والذي بدوره شكل موقفهم منها واختيارهم للطرف الذي يدعمونه. وبالفعل هذا ما حصل وفق تقرير المؤرخة والباحثة الفلسطينية مها نصار.

لاحظت نصار أن «الإعلام الأمريكي يتحدث كثيرًا عن الفلسطينيين، ولكن دون أن يسمع منهم». لذلك حللت مقالات الرأي المنشورة بين عامي 1970 و2019 بجريدتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست ومجلتي ذا نيو ريببلك وذا نيشن.

اختارت نصار هذه الجرائد والمجلات لأن الآلاف يقرأونها، ويعتبرونها منبرًا للحياد والنزاهة الصحفية. واختارت مقالات الرأي التي كتبها طاقم التحرير والكتاب المشاركين وليس مقالات الأخبار العادية، لأن المتلقي يشاهد الأخبار طوال اليوم، لكن ما يدفعه لفهم الخبر واختيار الطريقة التي يفهمه بها أو اختيار طرف ليدعمه، هو مقالات الرأي.

أتت نتائج التحليل كما توقعتها الباحثة، إذ تكاد أصوات الفلسطينيين تكون غير موجودة على الإطلاق في هذه المقالات. على سبيل المثال، نشرت نيويورك تايمز ما يقارب 2500 مقال رأي عن فلسطين والفلسطينيين منذ 1970، فقط 46 مقالة منها (أي أقل من 2%) كتبها فلسطينيون.

وتكررت نسب مشابهة في باقي الجرائد والمجلات التي شملتها نصار في تقريرها، فكانت 1% فقط من جميع مقالات الرأي التي نُشرت في واشنطون بوست، والتي وصلت إلى 3249 مقالة، مكتوبة بأقلام الفلسطينيين.

لا تدعو هذه الإحصائيات إلى منع أي شخص لا ينتمي لمجتمع معين أن يكتب عنه، فواحدة من أهم الأبحاث والدراسات عن الشرق الأوسط كتبها أشخاص من الغرب لا ينتمون إلى المنطقة. إلا أن هذه الإحصائيات تحث على النظر في مدى حيادية وسائل الإعلام، إذا كان أغلب صانعي محتواها لا ينتمون إلى المجتمع الذين يبحثون ويكتبون فيه. فهم يسهمون، سواء أكانوا مدركين أو لا، في ترسيخ وتطبيع صور نمطية عن هذا المجتمع.

هذا الأمر ينطبق بشكل خاص على الطريقة التي يكتب بها غير الفلسطينيين عن القضية الفلسطينية، واكتساحهم لوسائل الإعلام التي تفضل أصواتهم على أصوات الفلسطينيين. وقد فسر إدوارد سعيد هذه الظاهرة في كتابه الشهير «الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق»، معرفًا إياها بأنها مجموعة من الصور النمطية التي تستخدم في التحدث والكتابة عن العرب بشكل عام. وهذا هو بالفعل ما أثبتته هولي جاكسون، طالبة علم الحاسب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في تقرير حديث.

تثبت جاكسون في تقريرها أن هناك تحيزًا واضحًا في تغطية نيويورك تايمز لفلسطين خلال أهم فترتين في تاريخها الحديث: الانتفاضة الأولى والثانية. حللت هولي ما يقارب 33 ألف مقال نشرته الجريدة ذات الأهمية العالمية في تلك الفترة عن فلسطين، ووجدت أن هناك تحيزًا واضحًا لإسرائيل وموقفًا ضد فلسطين والفلسطينيين في ما يقارب 90% من المقالات المنشورة.

ورغم أن هذه كانت أول مرة يُثبت فيها التحيز الواضح لإسرائيل في الجريدة بالأرقام، فإن العديد من المفكرين كسعيد أشاروا إليه في بقية الجرائد ووسائل الإعلام الغربية بشكل عام، والأمريكية بالذات، ومنهم أستاذا السياسة ستيفان وولت وجون ميرشيمر في جامعتي هارفارد وشيكاغو. أعطت وسائل الإعلام البديلة، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي، الفرصة للمجتمعات التي يُكتب عنها دون أن تُعطى الإذن لرواية قصتها، لمشاركة تاريخها وحاضرها مع العالم دون عوائق وسائل الإعلام وتحيزها الصريح.

وسائل الإعلام البديلة

الصورة: Getty

وفرت وسائل الإعلام البديلة، وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، الفرصة لمشاركة أي حدث مباشرة بالصوت والصورة، متحدية بذلك الحدود الجغرافية واللغوية والثقافية. وبعد انتهاكات دولة الاحتلال الأخيرة في الشيخ جراح وغزة وغيرها من الأراضي الفلسطينية، أصبح أي مشاهد أينما كان في العالم شاهدًا على تلك الانتهاكات وهي تحصل.

نجد محمد الكرد يتحدث لمئات الآلاف من المتابعين على إنستغرام حول ما يحدث في الشيخ جراح من تعنيف للمحتجين وإخلاء قسري، بالضبط مثلما كان يتحدث قبل عشرة أعوام على سطح المنزل. منى الكرد تشارك كل ما يحدث في الحي مع أكثر من مليون متابع على إنستغرام أيضًا.

روان تشارك أخبارًا عن المظاهرات والاحتجاجات في رام الله مع آلاف المتابعين على تويتر. محمد سميري يشارك صورًا لغزة وعائلاتها ومبانيها مع مئات الآلاف من المتابعين على تويتر. وغيرهم الكثير والكثير من الفلسطينيين الذين يشاركون تجاربهم الشخصية أو قصص عائلاتهم بشكل دوري داخل فلسطين وخارجها، جامعين جهودهم بترجمة ما ينشرونه إلى العديد من اللغات لتصل لأكبر عدد من الأشخاص.

لا يعني هذا أن الفلسطينيين بدأوا للتو في مشاركة قصصهم ومعاناتهم مع انتهاكات الاحتلال، فهم يكتبون ويصورون ويوثقون منذ بداية الاحتلال. ولكن العالم، وخصوصًا في الغرب، كان يرفض الاستماع لتاريخ القضية وحاضرها إذا كان من يحكيها هو الفلسطيني والفلسطينية. وعزز هذا الموقف تحيز وسائل الإعلام الغربية لإسرائيل وشيطنة الفلسطينيين وكل من يدعمهم، فنجد أن الفلسطينيين الذين يكتبون ويتحدثون عن القضية سواء داخل فلسطين أو خارجها مهددين بالقتل أو الاعتقال أو الطرد من وظائفهم، أو حتى حذف منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

صانعة الأفلام آلاء الداية، على سبيل المثال، اعتُقلت مؤخرًا لأنها صورت اعتداء جندي من شرطة الاحتلال على طفل، وحاول الشرطي سحب هاتفها ومنعها من التصوير. هذا مثال واحد من العديد من الأمثلة الأخرى التي توضح ردع قوى الاحتلال لأصوات الفلسطينيين بأي طريقة ممكنة. وتتعدى محاولات الاحتلال هذا لتشمل حتى من هم خارج فلسطين، فكان الأكاديمي الفلسطيني حاتم بازيان أحد الناشطين الذين لاحقت مخابرات الاحتلال نشاطاته حتى في منزله بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أحد العديد من الناشطين والأكاديميين الذين نُشرت صورهم ومعلوماتهم الخاصة على موقع Canary Mission، الذي يهتم بـ«التشهير بهم لمعاداة السامية وموقفهم ضد إسرائيل».

رغم أن الحكومات ووسائل الإعلام وقوات الاحتلال حاولت وما زالت تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تُسكت الفلسطينيين، فإنها لم تجد إلا الهزيمة. القصة التي اعتاد العالم أن يسمعها من الطرف المتحيز لدولة الاحتلال، يحكيها الآن الفلسطينيون والفلسطينيات بالصوت والصورة، بعد أن مُنعت أصواتهم طويلًَا. القصة الآن في «يد أصحاب القضية»، والعالم كله يستمع أخيرًا.

مواضيع مشابهة