كانت حركة جهيمان العتيبي في احتلاله للكعبة حدثًا مزلزلًا لكل التيارات والأيديولوجيات، لكن كان لليساريين مواقف مثيرة للاهتمام، فتحالفهم مع الجماعات الإسلامية له مسبباته، منها العدو المشترك والاحتراق بذات نيران القمع والرفقة في السجون السياسية والالتقاء في مجابهة ذات الكيانات، كالإمبريالية بقيادة أمريكا.
كيف تناسى اليساريون مبادئهم؟
تيارات وكتل اليسار العربي مسكونة بهاجس كراهية الأنظمة الحاكمة، خصوصًا الأنظمة الملكية، وهذا ما يعمي تلك التيارات والكتل ويدفعها إلى البحث الدؤوب عن شيء مشترك بينها وبين أي جماعة تمارس نشاطًا معارضًا لأنظمة الحكم، ومنها، وعلى رأسها، جماعات وتنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي. قد يكون التحالف مع الإسلام السياسي المعتدل مستساغًا ومقبولًا، لكن المستغرَب والمستهجَن هو التحالف مع تيارات دينية يمينية غارقة في الرجعية والتطرف.
أبرز أشكال تعاطف اليسار مع الحركات المتطرفة ما حصل في أواخر السبعينيات، عندما دعم وتعاطف مع حركة جهيمان قائد عملية احتلال الحرم المكي، الذي بدأ حركته منتصف الستينيات بتأسيس جماعة سلفية تدعو إلى التوحيد والتمسك بالكتاب والسنة، اتخذت اسم «الجماعة السلفية المحتسبة».
كان محور نشاط الجماعة إلقاء الدروس في مساجد القرى والمدن الصغيرة، والاحتساب على مظاهر ما يرون أنه تغريب ولا أصل له في الشرع، ونجحت في استقطاب أتباع من جميع المدن السعودية. لكن عندما احتل جهيمان وجماعته الحرم، لم تكن لهم أي مطالب أو خطاب سياسي أو حتى ديني متماسك، لم يطالبوا سوى بمبايعة المهدي المنتظر المزعوم، وهو أحد أفراد جماعتهم وصهر جهيمان، محمد القحطاني، وإقامة دولة تطبق العقيدة الإسلامية الصحيحة، بحجة أن العقيدة بدأت تضعف في المملكة العربية السعودية.
دعمُ اليسار للحركة مثير للبحث والتساؤل. كيف يدعم حركة غارقة في التشدد والجهل، تحرم التصوير والتلفزيون ودخول المدارس؟ كيف يدعم جماعة مجهولة ليست لها أي قاعدة فكرية، وتعتمد فقط على الرؤى والهلوسات؟
استعجال اليسار إعلان التحالف معها جاء فقط بسبب أن هدفها إسقاط حكومات الخليج المتحالفة مع الإمبريالية الأمريكية، وقد يكون السبب ضخامة الحدث وضعف التغطية الإعلامية حينها، وربما جعل هذا بعض المتابعين للحدث ينتظرون خطابًا سياسيًا معاديًا لأمريكا من الحرم، يدعو لتحرير الدول من الاستعمار وتحرير فلسطين.
كل هذا جعل اليساريين يتناسون بسبب الحماس أن هذه الحركة تتعارض مع جميع مبادئهم، وحتى أساس وجودهم التقدمي، ناهيك بأنها تعتبر كل من يخالفها كافرًا، ولو كُتب لها النجاح لكانت أغرقت البلاد في الظلام وقضت على أعدائها، وأولهم اليساريون.
ما أشكال الدعم المقدمة؟
هذا التأييد، وإن لم يصدر مباشرة بخطابات رسمية من التيارات اليسارية، فإنه يتضح كمباركة للحركة في تغطية الصحف اليسارية للحدث، مثل تغطية مجلة «الطليعة» الكويتية، التي لم تُدِن الحدث بشكل مباشر، بل ركزت على توجيه اللوم إلى الصحف التي تنشر الخبر من جانب واحد، وهو الجانب الذي تتبناه الحكومة السعودية، دون التقصي عن التفاصيل.
في كتاب أصدره بعنوان «أيام مع جهيمان»، يذكر ناصر الحزيمي المنشق عن الجماعة أن رسائل الحركة قد طُبعت في مطبعة الطليعة، وهي منبر اليسار العام في الكويت. ويوضح أن من تولى مهمة طباعة الرسائل كان الكويتي عبد اللطيف الدرباس: «ذهب الدرباس إلى دار القبس أولًا فطلبوا مبلغًا عاليًا، ثم ذهب بها إلى دار الطليعة ذات التوجه اليساري، وحينما أخبرهم الدرباس بملابسات تأليفها وأن مؤلفها مطارَد من قبل الأمن السعودي، تحمست الدار وطبعتها بسعر التكلفة، أي أقل من الريال للنسخة».
لم ينفِ أحد من الدار طباعة رسائل جهيمان في الطليعة، إلا إن غانم النجار أحد مؤسسي «المنبر الديمقراطي»، الذي تعتبر الصحيفة ذراع المنبر الإعلامي، لم ينكر طباعة المنشورات، بل نفى علم العاملين في المطبعة بمحتوياتها.
معلومة طباعة المنشورات في دار الطليعة يؤكدها لقاء للملك فهد مع جريدة «السفير» بعد حادث اقتحام الحرم، وكان حينها وليًا للعهد. ويذكر كتاب «حتى لا يعود جهيمان» أن فهد أكد أن «هذه المجموعة لديها كتب ونشرات طُبعت في مطبعة الطليعة بالكويت دون علم السلطات الكويتية».
بالإضافة إلى ذلك، فإن حزب العمل الاشتراكي اليساري في الجزيرة العربية، وهو الفرع المحلي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في السعودية، قد أسهم في توزيع رسائل حركة جهيمان ضمن منشوراته السياسية السرية، وكذلك حزب العمل والحزب الشيوعي الذي تعاطف مع الحركة، وعبر عن ذلك في منابره عن طريق مقالات في «المسيرة» و«الجزيرة الحرة»، بحسب مصدر عايش الحدث، تحدث لـ«منشور» ورفض ذكر اسمه.
كذلك، أعلن المعارض السعودي اليساري المطارَد ناصر السعيد تأييد الحركة من منفاه في دمشق، ودعمه في ذلك بعض الكُتاب العرب ومنهم حنا مقبل، رئيس اتحاد الكتاب والصحفيين العرب. وكان اغتيال ناصر السعيد بعد هذا التأييد بشهر واحد فقط، ما دعا بعض المحللين لربط إعلانه باغتياله من قِبل الحكومة السعودية، خصوصًا أن الملك خالد كان قبل ذلك الموقف بأربع سنوات أعلن عن عفو عام عن المعارضين السياسيين في الخارج، وطوال الأربع سنوات لم يتعرض السعيد للأذى.
عودةً إلى جوانب أخرى لتأييد اليسار العربي لحركة جهيمان، نجد مواقف وكتابات كثيرة لأدباء وكتاب محسوبين على اليسار، لاقت كتاباتهم أصداء وترحيبًا من جمهور وقيادات اليسار، أبرزها قصيدة الشاعر مظفر النواب بعنوان «الأساطيل»، التي يلوم فيها جهل بعض اليسار بالحركة ووصفه بالغبي إذا لم يدعمه، ويمدح شخص جهيمان، ومنها مقطع «أيحتاج دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقي كي يفهمه؟ أي سقوط يسار هذا؟ أينكر حتى دمه؟».
وأهدى الكاتب الفلسطيني الماركسي رشيد أبو شاور كتابه «ثورة في عصر القرود» إلى روح جهيمان، وكان نص الإهداء في الكتاب: «إلى جهيمان العتيبي قائد ثورة الكعبة».
ظهر عدد من الكتاب والمحللين اليساريين الذين فسروا ظاهرة جهيمان بطريقة طبقية اشتراكية ماركسية، مثل الكاتب اليساري المصري رفعت سيد أحمد في كتابه «رسائل جهيمان العتيبي قائد المقتحمين للحرم»، الذي تطرق فيه إلى إعلاء شأن جهيمان لدرجة وصفه بأنه مفكر إسلامي، وأن رسالته عميقة الفكر قوية الطرح، وبالغ في تقدير عدد أتباعه.
هذا الاستحضار لموقف اليسار من حادثة تاريخية يأتي في وقت يكرر اليسار بعض هذه التحالفات، رغم إثبات خطورة ما تؤول إليه. اليسار بتاريخه الطويل من التضحيات والصمود قادر على اتخاذ مواقف بعيدة عن التحالفات اللحظية الناتجة عن الحماسة، فسياسة عدو عدوي صديقي لا تناسب كل الأوقات ولا كل الأعداء.