لم تأتِ عبارة «التاريخ يعيد نفسه» من فراغ، فمن يقرأ التاريخ يلمس حقيقة تلك المقولة ويعاين وضوحها، عندما يكتشف أن الأحداث التاريخية ما هي إلا دوائر كبيرة تدور فيها الشعوب لتكرر المرور على نفس الظروف أو ظروف مشابهة كل حقبة زمنية. ورغم ذلك، فإننا في أغلب الأحوال نضيِّع على أنفسنا فرصة استفادة عظيمة بسبب تجاهل الدروس المستفادة من تكرار الدروس التاريخية.
عرض الكاتب «عومير هاقي» في مقال على موقع «Medium» سبعة مراحل يعيد التاريخ من خلالها نفسه محاولًا إيصال رسالة إلينا، إلا أننا نفشل بشكل كبير في تلقي رسالته. خسارة البشرية فادحة في هذا الصدد، وبخاصة أن هذه الدروس السبعة متراكمة ومرتبطة ببعضها، فلم يكن هناك خيارات أخرى سوى أن نستفيد منها كلها، أو نهدرها برمتها.
التاريخ يؤكد: احتكار الثروات يدمر اقتصادات العالم
الدرس المستفاد الأول من الحرب العالمية الثانية أنه عندما تنحصر الثروة في أيدي عدد قليل من الدول، تصاب اقتصاديات العالم بالركود، فقد عمدت ألمانيا إلى دفع تعويضات عن جرائمها في الحرب العالمية الأولى رغم أن اقتصادها لم يكن يتحمل مثل تلك التعويضات، ما أدى إلى تضرر اقتصادها بشكل كبير، وإعطاء الأفضلية للدول التي تلقت منها التعويضات، والآن يحدث شيء مماثل لذلك مع اختلافات بسيطة، لكن مع دول مثل أمريكا وبريطانيا وروسيا.
ما تفعله مثل هذه الدول اليوم هو مراكمة الثروات في أيدي فئة معينة من شعبها، تتعرض الطبقة الوسطى فيها لمعاناة كبيرة عن طريق مسميات عدة، مثل الرسوم، والضرائب، والتكاليف الإضافية التي لا تصب فقط في خزانة دول أخرى، بل في حسابات الطبقة الثرية داخل الدول، وبالتالي تحصيل هذه الأموال دون تحقيق أي قيمة حقيقية للاقتصاد، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى انكماش الاقتصاد وانهياره.
انهيار النظام الاجتماعي بانهيار الاقتصاد
بسبب انهيار الاقتصاد، تنهار البنية الاجتماعية للدول، فالتكوين الطبيعي لأي مجتمع حديث أن تكون هناك طبقة وسطى عريضة، وعدد قليل من الأثرياء، وعدد أكثر بقليل من الفقراء، لكن ما يحدث عند انهيار الاقتصاد أن الطبقة الوسطى تتحول إلى طبقة فقيرة جديدة، والفقراء الحقيقيون يصبحون أكثر بؤسًا وشقاءً، فيبدأ شعورهم بالانتماء يتلاشى، في والوقت ذاته تزداد ثروات الأغنياء بشكل فاحش.
ينتج عن اضطراب الهرم الاجتماعي تزايد الشعور بانعدام الثقة بين طبقات الشعب، وتنكسر الروابط بين مدن القُطر الواحد، ويتلاشى الشعور بالسعادة والأمان ويحل محله شعور بالشك والحقد، وتترسخ مبادئ مغلوطة، مثل ضرورة أن يلتهم الإنسان أخيه من أجل أن يستمر في البقاء على قيد الحياة، أي أن المجتمع الإنساني يتحول إلى غابة.
اقرأ أيضًا: قبل داعش والقاعدة: ماذا يخبرنا التاريخ عن الإرهاب؟
ظهور «الديماغوجية»
إحدى أخطر نتائج انهيار المنظومة الاجتماعية ظهور ما يُعرَف بـ«الديماغوجية»، وهي مجموعة الأساليب التي يتبعها السياسيون لإغراء الشعوب الفقيرة بوعود كاذبة، حتى يخدعوهم بالحرص على مصلحة البلاد، لكنهم في الحقيقة لا يسعون إلا للوصول إلى الحكم، وما يساعد السياسيين على تحقيق مبتغاهم في هذا الصدد شعور الشعب باليأس من الحاضر، والخوف على مستقبل أولادهم وأحفادهم، مثلما حدث بين النظام النازي والشعب الألماني، وكذلك في روسيا البلشفية.
الرجل القوي وسر حب الشعوب للاستبداد
يتهم الحُكم الاستبدادي فشل الأحزاب في برامج الرعاية الاجتماعية، ثم يوفرها في صورة منحة للشعب لا يستطيع سواه أن يقدمها، ليتعلق الشعب به أكثر.
الشعوب التي تعرضت لأزمة انهيار النظام الاجتماعي تميل إلى الخضوع لأنظمة الحكم الاستبدادية، لأنهم يؤمنون بأن الاستبداد قادر على منحهم القوة الغائبة عنهم، والحياة الكريمة التي لا تستطيع الديمقراطية منحهم إياها، إذ يشعر أفراد المجتمع المتفكك بانعدام قيمة أنفسهم، وانعدام كرامتهم، وفقدانهم لقيمة الحريات وما تمثله لهم، في مقابل الحصول على السعادة اللحظية التي يمثلها الحد الأدنى من المأكل والملبس.
تشعر طبقات الشعب المستضعَفة بأن الحكام الدكتاتوريين الأقوياء يمدونهم بشكل أو بآخر بالقوة، فإن كانت الديمقراطية لا تجلب لهم السعادة والأمن والغذاء، فلماذا لا يتخلون عنها؟ لذلك لا يمكن إلقاء اللوم هنا على الساسة الدكتاتوريين فقط، بل أيضًا على نظرة الشعوب لهم، وفي قبولهم بالحد الأدنى من الحياة الكريمة على الرغم من انهيار الاقتصاد والمنظومة الاجتماعية، وفوق كل ذلك فشل النظام السياسي.
فشل الأحزاب
بعد أن تخضع الشعوب لأنظمة الحكم الاستبدادية يبدأ الحاكم الديكتاتور في إقناع شعبه بأن الأحزاب السياسية بجميع أطيافها فاشلة. وللغرابة، فإنه يركز على فشل هذه الأحزاب في تحقيق قيم الكرامة والانتماء وتقدير الذات للمواطن، بل وإقناعهم بأن فشل هذه الأحزاب هو المسؤول عن غياب برامج الرعاية الاجتماعية، مثل التأمين الصحي وتطوير المواصلات والتعليم، ثم يوفر النظام الدكتاتوري مثل هذه الاحتياجات في صورة منحة للشعب لا يستطيع سواه أن يقدمها، ليتعلق الشعب بالنظام الاستبدادي أكثر وأكثر.
قد يهمك أيضًا: نصف ثروات الأرض بين أيدي 8 رجال
هذا النموذج لا ينطبق فقط على عدد من دول العالم الثالث، بل على دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي، فبعد أن يئس معظم المواطنين من جدوى الأحزاب السياسية، وتأثيرها في إشعارهم بالكرامة والانتماء إلى بلادهم، بدأوا في البحث عن الحكم الاستبدادي، والثقة في الحاكم المستبد برأيه، عساهم أن يجدوا فيه الحماية.
هزيمة الاستبداد
بعكس ما هو شائع عن أن الأنظمة الاستبدادية لا يمكن هزيمتها إلا من خلال الثورات المسلحة أو الانقلابات العسكرية، فالأمر ربما يكون أبسط من ذلك، فإذا وُجِدَ من يقدم للشعب الحياة التي يطمح لها بالفعل، مع قدر من الحرية والكرامة، فستعود ثقتهم مرة أخرى في من يوفر لهم ذلك، ساعتها لن يجدوا سببًا للاستمرار في اتباع الديكتاتور أو الخضوع له.
تكمن المعضلة في من سيوفر للشعب بديلًا للنظام الديكتاتوري، ففي ظل الأنظمة الاستبدادية تقل قوة الأحزاب السياسة إلى أدنى مستوياتها حتى لا تقوى على تقديم البديل، فهزيمة الاستبداد تبدأ بتقديم الحقوق الاجتماعية للشعب، وليس بمحاربته والنضال ضد انتهاكاته اليومية.
الديمقراطية.. أضعف الأنظمة
رغم أننا في العصر الحالي نتعامل مع الديمقراطية على أنها حق مكتسب، وخيار لا بد منه لحياة الشعوب، فإن ما علَّمه لنا التاريخ أن الديمقراطية أضعف الأنظمة السياسية على الإطلاق إذا ما قورنت بأنظمة أخرى، مثل القبلية أو الإقطاعية، أو حتى الأنظمة الاستبدادية، إذ لا تحتاج الأنظمة الديمقراطية إلى قرون أو عقود لتسقط، بل تسقط في سنوات قليلة، وهو ما حدث في أوقات سابقة في روسيا وتركيا وبولندا وأمريكا.
خلاصة القول أن الديمقراطية وحدها لا تشفع ولا تنفع في ظل انهيار النظام الاقتصادي، لأن ذلك سيتبعه انهيار في الطبقات الاجتماعية، وبالتالي تداعي منظومة القيم التي تقوم عليها المواطنة ليبدأ الشعب في البحث عن حاكم مستبد يحميه من جوعه ومرضه، لتغلق الدائرة بالبحث عن علاج للانهيار الاقتصادي.