قبل ست سنوات تقريبًا، أحيا مارسيل خليفة حفلًا موسيقيًا على مسرح عبد الحسين عبد الرضا بمنطقة السالمية في الكويت، وكان الدخول إلى الحفل، مثل معظم فعاليات المجلس الوطني للثقافة والفنون، مجانيًا. أذكر أن الناس قد بدأت بالتوافد على المسرح وأخذ دورها في طوابير الانتظار قبل بدء الحفل بساعة، وكنت أنا وصديقاتي بالطبع من بين أولئك المرتقبات والمرتقبين لفتح الأبواب.
ما لم نكن ندركه حينها، هو أن أبواب المسرح التي ولجنا منها إلى المبنى، لم تكن تأخذنا إلى مقاعدنا في حفل موسيقي فحسب. لقد عبرنا، كويتيين وفلسطينيين، إلى التاريخ حال دخولنا. عبورنا الأبواب ذاتها وسيرنا جنبًا إلى جنب، صورة تختزل تاريخًا كاملًا من التضامن يعود إلى ما قبل استقلال الكويت بعقود.
«كيف حال الأخت يا إخواني»
لقد توارد الفلسطينيون إلى بلادنا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ليكونوا سببًا من أسباب بزوغ التعليم في الكويت. فهد العسكر، شاعرنا الذي نحب، كتب في 1936 قصيدة ترحب بوفود المعلمين القادمين من فلسطين إلينا، يقول فيها مخاطبًا إياهم:
بالله يا رسل الثقافة خبرونا
كيف حال الأخت يا إخواني
أعني فلسطينًا وكيف أمينها
وجنوده وبقية السكان
السؤال عن الحال هنا عودة للذات الجمعية، ووعي بالمصير المشترك. إنه سؤال لم تلوثه الفردانية التي اجتاحت منطقتنا في العقود الأخيرة؛ لم يهزمه منطق المصلحة الشخصية أو مفهوم المواطنة الضيق؛ إنه بيان يقول بوضوح وبساطة إننا جسم عربي واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأجزاء بالسهر والحمى.
ما حدث في حفل مارسيل كان استدعاءً لصورة تلك الذات الجمعية. دخلنا متشحين بالكوفية لأننا ما جئنا إلا لنسمع مارسيل يغني فلسطين؛ يغني «جواز السفر»، و«أحن إلى خبز أمي»، و«ريتا»، و«يا بحرية». لقد جئنا نجدد الميثاق القديم بين شعبينا.
كان الحضور يفوق مقاعد المسرح عددًا، فافترش البعض منا السلالم والممرات، وظل آخرون يستمعون لأغاني الحفل واقفين. حين بدأ مارسيل يغني قصيدة سميح القاسم الأشهر «منتصب القامة أمشي»، تحمسنا جميعًا وشرعنا نغني بصوت واحد طغى على صوته، حتى توقف عن الغناء تاركًا لنا القصيدة. بصوت واحد، بالذات التي تًعرف بـ«نحن» لا بـ«أنا»، أخذنا نغني تاريخ وجودنا معًا على أرض الكويت.
أذكر أنني كنت أتلفت بين فينة وأخرى أومئ للوجوه من حولي، فأرى أجيالًا متباينة؛ أرى الجدة والجد وابنهما وحفيدتهما؛ أرى تاريخًا كاملًا لعائلة فلسطينية في الكويت. ثم ألتفت أخرى فألمح شابات وشبانًا من الكويت تبدو حماستهم في وجوههم المصممة؛ لقد ورثوا حب فلسطين والإيمان بعدالة القضية عن آبائهم وأمهاتهم، عن الأجيال التي نشأت ترى الفلسطينيين في كل المجالات يبنون معهم وطنًا. لم يكن ذلك حفلًا موسيقيًا عاديًا؛ كنا نستحضر تاريخًا من التعاضد عبر القصيدة، نشد على أيادي بعضنا وكأننا نجيب توفيق زياد وهو يستغيث «أناديكم».
لست هنا أرسم صورة رومانسية عن العلاقة الكويتية-الفلسطينية، ولكنني حين سُئلت «لماذا الكويت؟ ما سر تمسك الناس بالقضية؟ متى تشكلت هذي الأواصر؟»، كانت ذكرى حفل مارسيل أول ما استدعته ذاكرتي، فحاكت منه صورةً رمزية لروابط شرعنا ننسجها منذ قرن تقريبًا؛ منذ وعد بلفور المشؤوم. روابط حِكناها ولم نكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة؛ لم ننكث العهد. وحين ارتخت الأوصال قليلًا، شدها تاريخ طويل من الوفاق والتأييد، تاريخ لا يمكن أن ينفرط بفعل خطأ ارتكبه هذا المسؤول أو ذاك. لقد علمتنا فلسطين أن الحق ينصر لذاته، وأن سطور التاريخ ليست مكتوبةً بماء.
«خسران وضلال وضرب من هذيان»
لقد لعبت خمسينيات وستينيات القرن الماضي دورًا عظيمًا في ترسيخ موقف الكويت حكومة وشعبًا من القضية الفلسطينية. وكعادة الشعوب، سبق الحراك الشعبي الموقف الرسمي في الكويت، وبضغط من حركة القوميين العرب، حينئذ وافقت الحكومة على افتتاح «مكتب مقاطعة إسرائيل» في 1957. تلا ذلك إصدار القانون 21 في عام 1964، الذي يحظر «حيازة وتداول السلع الإسرائيلية بكل أنواعها»، وهو قانون أُقر بتأييد شعبي يمثله نواب مجلس الأمة الكويتي آنذاك.
منع نص القانون كذلك «كل شخص طبيعي أو اعتباري [من] أن يعقد بالذات أو بالواسطة اتفاقًا مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها بجنسيتهم، أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها أينما أقاموا». ولا يشمل الحظر الجانب الاقتصادي فقط، وإنما كل تعامل آخر «أيًا كانت طبيعته».
بقوة هذا القانون استطاع الحراك الشعبي مرارًا أن يعرقل مشاريع اقتصادية لشركات متورطة في جرائم الاحتلال الصهيوني. وقد يكون نجاح حركة المقاطعة «BDS Kuwait» في إقصاء شركة فيولا الفرنسية، المنتهكة للقوانين الدولية بعملها في المستوطنات الإسرائيلية، من التعاقد مع بلدية الكويت خير مثال على قوة الحراك المدني، إذ تسبب تعطيل المشروع في خسارة الشركة 750 مليون دولار. وما زالت المجموعات المدنية تراقب وتطالب بإيقاف هذا المشروع أو ذاك بمساندة قانون يتجاوز عمره الخمسين عامًا.
فُجعنا ببني جلدتنا يمدون الأيادي للعدو في الصفقة الأخيرة، واستنكرنا تجرؤهم على النظر في يد مصافحيهم دون أن يبصروا الدم في كل كف.
المحتل الصهيوني لا يدخل الكويت، ولا يسافر على متن الخطوط الجوية الكويتية، وغير معترَف بمواطنته عندنا. كل ذلك لأن أمير الكويت الراحل صباح السالم الصباح أصدر مرسومًا أميريًا في يونيو 1967 بإعلان «الحرب الدفاعية بين دولة الكويت والعصابات الصهيونية في فلسطين المحتلة». هذا صحيح، هكذا وردت (وما زالت) في نص القانون «عصابات صهيونية»، لأن تسمية الأشياء بأسمائها لا تقبل مراوغة اللغة. في زمن المتغيرات وضبابية الرؤى والتباس الحق بالباطل تبقى فلسطين الحقيقة الأكيدة، القضية المبدأ، بوصلتنا في الطريق.
قد يُستدل من تشريع قوانين تجرم التعامل مع المحتل الصهيوني على وضوح موقف الكويت من القضية الفلسطينية على الصعيدين السياسي والاقتصادي. ولا شك أن للضغط الشعبي دورًا في إرساء الموقف الرسمي؛ قوة القانون يسندها تيقظ وعي الشعب واستعداده للمحاسبة. في ذات القصيدة التي ذكرتها لفهد العسكر، يقول مخاطبًا فلسطين:
لا تحزني ليست بصفقة رابحِ
يا أخت بل هي صفقة الخسرانِ
ما وعد بلفور سوى أمنيةٍ
ونداؤه ضرب من الهذيانِ
لو كان الشاعر صوت الشعب هنا، فإن موقفنا من أي صفقة تنتقص من الحق الفلسطيني في الأرض وتساوم هو موقف فهد العسكر ذاته: «خسران وضلال وضرب من هذيان، لا نُقاد إليه ولا ننقاد». وحين فُجعنا ببني جلدتنا يمدون الأيادي للعدو في الصفقة الأخيرة، استنكرنا تجرؤهم على النظر في يد مصافحيهم دون أن يبصروا الدم في كل كف. أو أنهم أبصروه وسموه بغير اسمه وتغاضوا عنه، فباعوا أرواحهم وضاعوا.
لكن هل يعني هذا أن ما أرسته الدولة على مدى عقود كافٍ ومرضٍ للحراك المدني والشعب الكويتي بصفة عامة؟
«هذي خريطتنا»
ورغم توالي البيانات الرسمية التي تؤكد الالتزام بتأييد الحق الفلسطيني كاملًا، أحبطنا وأغضبنا أن تشارك الكويت في مؤتمر وارسو الذي استضافته البحرين في أكتوبر 2019، وناقش أمن الملاحة الجوية والبحرية في الشرق الأوسط بمشاركة 60 دولة من بينها الاحتلال الصهيوني، وذلك بعد أن رفضت واستنكرت المشاركة في مؤتمر السلام المشؤوم في يونيو من ذات السنة.
ورغم محاولات التبرير وإعلان الدولة التزامها بموقفها من فلسطين، كان الأمر مدعاةً للقلق. لم تتوان عشرات المجموعات المدنية والطلابية عن التصريح باستنكارها لوجود الكويت في مؤتمر الملاحة، ولم يتردد كثير من الكويتيين والكويتيات في مواقع التواصل الاجتماعي عن إعلان رفضهم لتلك الخطوة الغريبة على التاريخ الكويتي-الفلسطيني.
أحب أن أفكر أن الموقف الشعبي الكويتي من فلسطين، ولا تضرنا أصوات نشاز هنا وهناك، يعمل عمل البوصلة للموقف الرسمي. يعرف كل من في السلطات أن السواد الأعظم من الكويتيات والكويتيين سيقفون دائمًا في وجه أي احتمال لتحريف مسار البوصلة، كما نعرف أن تاريخنا الحكومي والشعبي، إزاء القضية الفلسطينية، أعظم من أن يُمحى أو يُنسى كأن لم يكن. البوصلة مهمتها تحديد الاتجاهات بدقة متناهية، والإبرة المغناطيسية التي تتحرك حرة حول مركز ثقلها لا تخطئ تعيين الاتجاهات. نعرف المركز ونعرف كيفية الدوران بحرية حوله.
أنا بشريةٌ في حجم إنسان
فهل أرتاح
والدم الذكي يُسفك
في زيارة لي مع والدي قبل أشهر قليلة إلى حمامات ماعين في الأردن، طلب أبي من السائق أن يتوقف قليلًا، فترجل عن السيارة بهدوء وبصره يرنو إلى نقطة ما في الأفق. نزلت بدوري ووقفت إلى جانبه. قال لي وما زالت عيناه ترنوان إلى ذات النقطة وقد التمعتا بدمعة متمنعة : «شوفي يا بابا هناك.. هذي أريحا.. هذي فلسطين اللي قادرين نشوفها من مكانّا ولا نصلها». لم يقل أكثر من ذلك، لكن الـ«إيه» التي خرجت زفرةً متأوهة من فيه قالت كل شيء، وأعادتني لما نشأتُ عليه، أعادتني لحديث أبي المولع بالجغرافيا وهو يرينا خريطة فلسطين كاملةً ويسمي لنا المناطق والقرى ويقول: «هذي هي فلسطين، هذي خريطتها».
لقد كبرت مثل آلاف غيري في بيت يؤمن أن فلسطين قضيتنا كلنا، وأن ما يحدث هناك يعنيني هنا ويؤثر في حياتي لأنني جزء من جسد أكبر، وأننا أمة لن تقوم لها قائمة لو تنكرنا لبعضنا باسم المصير الفردي. فلسطين ليست فكرة ولا فردوسًا مفقودًا.
على فلسطين ألا تكون أندلسًا. علينا أن نحياها واقعًا وحقًا لا بد أن يُنتزع ويعود لأهله. أنا متيقنة أن ما نشأت عليه في بيتنا، عاشه كثير من أقراني في بيوتات أخرى؛ قد تختلف المنطلقات لكنها تتشابه في جوهرها. لا مهادنة ولا مساومة ولا مصالحة مع «العصابات الصهيونية». وستبقى فلسطين كما كانت دائمًا في قلب الكويت.