«لا ضرائب دون تمثيل»، شعار رفعه الانفصاليون في المستعمرات الثلاثة عشرة خلال حربهم مع حكومة التاج البريطاني في القرن الثامن عشر، والذي تشكلت على أساسه نواة قيام الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح مبدأ عامًا لأغلب الدول المتقدمة يحكم العلاقة بين الحكومة والشعب. ولا شك أن تطبيق الضرائب في الكويت إعلان صريح بنهاية الحقبة الريعية في البلاد، وسوف يلحقه تغير جذري في العلاقة بين الحكومة والشعب.
منذ تأسيس الدولة في مطلع ستينيات القرن الماضي، اعتمدت الكويت بشكل أساسي على العوائد النفطية الهائلة لتمويل ميزانياتها وبناء اقتصادها، فكان برميل النفط يمول جميع جوانب الحياة من مشاريع إنشائية ضخمة ورواتب ودعوم استهلاكية سخية، وفرت شبكة رخاء مادي للمواطن وأتاحت للسلطة التشريعية الهيمنة على صنع القرار.
إلا أن كساد أسواق النفط العالمية منذ العام 2014 والتحول العالمي نحو الطاقة البديلة والسيارات الكهربائية دفع دول مجلس التعاون الخليجي النفطية إلى التفكير بجدية هذه المرة في تعزيز الإيرادات غير النفطية، عبر استحداث ضرائب استهلاكية يدفعها المواطنون للمرة الأولى في تاريخ الدول الناشئة الستة.
تقنين الضرائب في الخليج
في ضوء انهيار أسعار النفط، أخذ الست دول بمشورة مدير صندوق النقد الدولي بفرض ضريبة القيمة المضافة، ووقعت اتفاقيتين في أبريل 2017، الأولى تعنى بفرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة أساسية قدرها 5%، والثانية بالضريبة الانتقائية على بعض السلع الضارة كالتبغ بنسبة 100% والمشروبات الغازية بنسبة 50% بشكل موحد بين الدول، إيذانًا ببدء مرحلة جديدة في العقد الاجتماعي فيها.
باشرت الإمارات والسعودية تطبيق الاتفاقية في 2018، ولحقتهم البحرين في 2019 وسلطنة عمان مؤخرًا في أبريل 2021. وبينما فضلت قطر تأخير تطبيق الاتفاقية، أدرجتها الكويت ضمن برنامج عمل الحكومة للفصل التشريعي السادس عشر (2021-2025)، على الرغم من الرفض الشعبي والبرلماني الواسع لها.
ولا تزال دول الخليج في المراحل الأولى من تطبيق الضرائب، علمًا بأن صندوق النقد قد شجعها على تعزيز إيراداتها غير النفطية عبر ضرائب القيمة المضافة وضرائب الشركات والعقارات والسلع. وكانت السعودية أول من رفع ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 15% في مايو 2020، لتأمين ميزانيتها في مواجهة جائحة كورونا، الأمر الذي دفع إيمان الحسين الباحثة غير مقيمة بمعهد دول الخليج العربية في واشنطن إلى التساؤل عما إذا كان من الأجدى فرض ضريبة الدخل "كبديل مناسب لتجنيب ذوي الدخول المنخفضة تأثير زيادة ضريبة القيمة المضافة".
الفرق بين أنواع الضرائب
تعد الضريبة على الدخل أقدم أنواع الضرائب وأكثرها شيوعًا، ويدفعها الأفراد على دخلهم والشركات على أرباحها. ومن الممكن أن يكون معدل الضريبة غير مرتبط بقيمة الدخل فيدفع الجميع ذات النسبة، أو يكون تصاعديًا بحيث يزداد كلما ازداد المبلغ المطبق عليه، وهو ما يقترحه عدد من السياسيين لكونه موجهًا إلى أصحاب الدخل المرتفع، إلا أنه يتطلب إعادة هندسة الأنظمة الضريبة بشكل كبير وتتبُّع دخل جميع الأفراد.
تشكل الضريبة ركنًا أساسيًا في العقد الاجتماعي بين المواطنين والحكومات، فهي المبلغ الذي يدفعه الأشخاص لتمويل نفقات الدولة، كالجيش والشرطة والصحة والتعليم.
وبعكس ضرائب الدخل التي يدفعها المواطن للدولة مباشرة، تعد ضريبة القيمة المضافة والضريبة الانتقائية من الضرائب الاستهلاكية التي تُفرض على السلع وسلاسل التوريد، ويعتبر المستهلك شخصًا غير خاضع للضريبة لكنه يتحمل تكلفتها بشكل غير مباشر عبر دفع سعر أعلى لقاء السلع والخدمات الخاضعة للضريبة. وبالنسبة للحكومات فهي تفضل تطبيق الضرائب الاستهلاكية على ضرائب الدخل لسهولة تنفيذها وحوكمتها، إذ تقع مسؤولية تطبيقها على القطاع الخاص (المورد والمصنع والتاجر).
ورغم إعلان عُمان عزمها فرض ضريبة دخل في العام 2022 (على أصحاب الدخل المرتفع)، فإن دول مجلس التعاون الخليجي لا تُحصل أي ضريبة دخل على الأفراد، وربما يعود ذلك لصعوبة تطبيقها في دول يعمل أغلب مواطنيها لدى الحكومة. ففي الكويت على سبيل المثال، تستلم 89% من القوة العاملة الرواتب من الحكومة مباشرة، ولذلك سيكون فرض ضريبة الدخل بمثابة تخفيض للأجور.
تشكل الضريبة ركنًا أساسيًا في العقد الاجتماعي بين المواطنين والحكومات، فهي المبلغ النقدي الذي يدفعه الأشخاص والمؤسسات لتمويل نفقات الدولة، كالجيش والشرطة والصحة والتعليم، وهي دومًا محل نقاش في الدول، وبين أحزاب مع زيادتها لتمويل برامج حكومية وأخرى مع تخفيضها لدعم الأفراد والمؤسسات.
الضريبة في أغلب دول العالم هي المصدر الوحيد لتمويل نفقات الدولة. وعلى سبيل المثال، تحصل الحكومات في دول منظمة التعاون الاقتصادي على 90% من إيراداتها عن طريق الضرائب، بينما تشكل في الكويت 3% فقط من إجمالي الإيرادات، بحسب أحدث البيانات الصادرة عن وزارة المالية.
واقع الحالة المالية للكويت
اليوم بات جمع الأموال العامة عبر الضرائب واقعًا ضروريًا بالغ الأهمية للاستدامة الاقتصادية في الكويت، وذلك بعد أن مضت سنوات الطفرة النفطية وخلَّفت وراءها عجزًا ماليًا متوقعًا بين 45-60 مليار دينار خلال السنوات الخمسة المقبلة، بحسب برنامج عمل الحكومة للفصل التشريعي السادس عشر.
لكن من المحتمل ألا يرحب المواطنون الذين لم يعتادوا على دفع الضرائب بالعبء الإضافي لتمويل مصروفات الدولة، وهنا ستحتاج الحكومة إلى إقناعهم بتقديم الإقرارات ودفع الضرائب المستحقة عليهم، خصوصًا بعد أن تبددت ثقة المواطن في الإدارة الحالية نظير تزايد قضايا الفساد والتعدي على المال العام من قبل القيادات والمسؤولين.
وفي هذا السياق يقول الدكتور نواف العبد الجادر من جامعة الكويت وأحد مؤلفي رؤية «قبل فوات الأوان» حول الإصلاح الإقتصادي، إن «رفض المواطنين لدفع الضرائب أمر ليس مستغربًا، فذلك يعد تغييرًا جذريًا في العلاقة بين المواطن والحكومة، ويتطلب توعية المواطنين وتثقيفهم حول واجباتهم وحقوقهم الجديدة، أما أن تأتي فجأة وتطلب دفع ضرائب دون الإجابة على سؤال ماذا ستفعل بأموالي وكيف ستصرفها، فمن الطبيعي أنه لن يقبل».
دون شفافية البيانات ومعالجة الفساد والشعور بالعدالة والمساواة، فإن ربط الضريبة بالإصلاح لا يتعدى كونه كلامًا نظريًا لا يعكس واقع إدارة المالية العامة اليوم.
ويضيف العبد الجادر لـ«منشور»: «إذا اردنا تطبيق الضريبة علينا أولًا أن نخلق شعورًا بمسؤولية الحكومة وجدية إجراءاتها، وأن نؤسس لمرحلة تكون فيها البيانات المالية واضحة وشفافة، وأن نضع قوانين ضريبية واضحة تُنفذ تنفيذًا صحيحًا لمواجهة احتمالات التهرب الضريبي ومحاسبة من لا يدفع»، مشددًا على أنه «لو لم نواجه الفساد ونعزز الشفافية في العمل الحكومي، فمن الصعب أن تدفع الحكومة بأي نوع من الإصلاحات».
وهو الأمر الذي أشار إليه مارسيلو إستيفاو مدير عام الاقتصاد الكلي والتجارة والاستثمار لدى البنك الدولي في مقاله: «حتى يكون تحصيل الضرائب مثمرًا، يجب أن يثق المواطنون في حكوماتهم. إنهم يحتاجون إلى دليل على أن مواردهم التي اكتسبوها بعرقهم وجهدهم ستُستخدم استخدامًا حكيمًا». ويعد مفهوم المحاسبة العامة أحد أهم روافد إنجاح النظام الضريبي، وهو ما يتحقق من خلال بناء الثقة والمشاركة الفعلية في الإدارة، لا سيما في بيئة ضريبية جديدة.
قد يفرض الواقع الاقتصادي الجديد للكويت تغيرًا في العلاقة بين المواطن والدولة، وقد تكون الضريبة أحد روافد هذا التغيير، إذ يعتقد البعض أنه بإمكان الضريبة أن تهذب الإنفاق الحكومي وتزيد الشفافية وقدرة المواطن على المحاسبة، وأنها ستكون مدخلًا لإصلاح أكبر، إلا أن نواف العبد الجادر يؤكد أنه «دون شفافية البيانات ومعالجة الفساد والشعور بالعدالة والمساواة، فإن ربط الضريبة بالإصلاح لا يتعدى كونه كلامًا نظريًا لا يعكس واقع إدارة المالية العامة اليوم».
على من يقرأ تصريحات وزراء المالية المتعاقبين منذ هبوط النفط قبل سبعة أعوام، والبيانات المالية الصادرة عن الحكومة، ودراسات وأبحاث وكالات التصنيف والبيوت الاستشارية، أن يعي استحالة دوام الحال، وأن هناك تغييرًا في العلاقة بين المواطن والدولة يلوح في الأفق. كان ظهور النفط في أربعينيات القرن الماضي كفيلًا بصياغة عقد اجتماعي دام أكثر من ست عقود بكل عيوبه ومميزاته، فهل حان الوقت لتأتي الضرائب بعقد اجتماعي جديد يتيح للمواطن مشاركة سياسية أوسع امتثالًا لمبدأ «لا ضريبة دون تمثيل»؟