خلال سنة الجائحة 2020، لاحظت في الخليج توجهات مختلفة لتدارك انعكاسات الأزمة الصحية على الواقع الاجتماعي والسياسي لدول الخليج. نجد الإمارات تمنح الإقامة الذهبية لفئات من المقيمين من التخصصات النادرة، وكذلك تقدم آلية للحصول على الجنسية من فئات المقيمين المستثمرين وأصحاب المواهب والمهن النادرة. أما في الكويت، نجد الخطاب الشعبوي يتصدر المشهدين الافتراضي (وسائل التواصل الاجتماعي) والسياسي في مجلس الأمة ومجلس الوزراء.
في ظل السخط الشعبي الكبير ضد الحكومة بسبب تدني أغلب مجالات الحياة، من ازدحام وبيروقراطية والرعاية الصحية وأزمة التوظيف، ارتأت الحكومة أن أقل التكاليف بالنسبة لها هو تحويل هذا الغضب العارم الموجه لها إلى المقيمين بدل تحمل مسؤولياتهم، فأصدرت تصريحات غير مسؤولة وغير مدروسة ذات عشوائية مدمرة، ممثلة في إعلانها نية التخلي عن 70% من المقيمين.
العلاقة بين المقيم والمواطن
جاءت الجائحة كاختبار للعلاقة بين المواطنين والمقيمين من مختلف الجنسيات، فكان الخطاب الشعبوي يتصاعد مع مرور الوقت، بدءًا من التعليقات العنصرية والشعبوية على وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصًا التعليقات على تغريدات وزارة الصحة الكويتية اليومية بخصوص حالات كورونا، والتي تطالب بطرد المقيمين أو تغليظ العقوبات عليهم.
أما على الصعيد السياسي فقد تُوّج المشهد بقانون التركيبة السكانية في شهر أكتوبر، حين تقدم 21 نائبًا باقتراح بقانون بخصوص التركيبة السكانية. وعند نشر القانون في الجريدة الرسمية، أتت المذكرة التفسيرية لتعيد استهلاك بعض الأفكار الشعبوية مثل «كانت الكويت دائمًا ولا تزال نموذجًا للتعايش بين الأعراق والجنسيات والديانات»، و«انطلاقًا من أن الكويت مجتمع إنساني النشأة والنزعة حيث عاش المواطنون والمقيمون في الكويت في محبة ومودة وسلام»، ومن ثم جاء ربط جائحة كورونا بالقانون معللًا: «وقد كشف وباء كورونا وانتشاره عن الظروف المعيشية المتردية للعمالة الهامشية، الأمر الذي استدعى ضرورة وجود التشريعات لضبط نسب العمالة».
كانت هناك ردة فعل سلبية للكثير من سكان الكويت وممثلي القطاعات المختلفة لقرار عدم التجديد، بسبب سوء إعلان القرار وعدم وجود مبرر له.
كل هذه السياقات السابقة أسهمت في قرار الهيئة العامة للقوى العاملة بعدم التجديد للمقيمين الذين تجاوزوا سن الستين من حملة الثانوية وما دونها من شهادات علمية. فهذا القرار أيضًا جاء بعد عدة خطابات ضد المقيمين، مثل المطالبات بعزل مناطق يمثل المقيمون غالبية سكانها، وحديث الفنانة حياة الفهد التي طالبت بنفي المقيمين من ذوي الدخل المحدود خارج الكويت، والتمييز في التطعيم للمواطنين أولًا، وغيره.
تنص المادة 37 من قرار رقم 27 لسنة 2021 على التالي: «يستمر العمل بحظر إصدار إذن عمل لمن بلغ عمر الستين عامًا فما فوق لحملة شهادة المرحلة الثانوية العامة فما دون وما يعادلها من شهادات».
تبعات قرار الستين
كانت هناك ردة فعل سلبية للكثير من سكان الكويت وممثلي القطاعات المختلفة لهذا القرار، بسبب سوء إعلان القرار وعدم وجود مبرر له، إذ أصرت الحكومة على المضي في هذا القرار لحفظ ماء الوجه أمام العامة، دون تقديم دراسات علمية وأدلة وافية للدفاع عنه وتبريره للعامة.
تقول الكاتبة وباحثة الدكتوراه شيخة الهاشم لـ«منشور»: «كشفت لنا جائحة كورونا العديد من المشاكل التي لم نعالجها على مدار عقود من الزمن، وإحدى هذه المشاكل هي حالة المقيمين في البلاد، والتي تعتبر مشكلة ذات أبعاد شاسعة». وتستكمل حديثها عن الوضع خلال الجائحة قائلة: «تعاملنا مع هذه المشكلة بقرارات وتشريعات مبنية على ردة الفعل، أي لم تستند إلى دراسات تحليلية ولم يجري قياس الآثار المترتبة على هذه القرارات».
أبعاد القرار كبيرة وخطيرة، لأنها تدخل تحت مخالفات دستورية وقانونية وأخلاقية، بسبب التمييز الصريح لحملة الشهادات البسيطة وفئة عمرية محددة.
يستضيف برنامج «من غير طحينة» الذي عُرض خلال رمضان الماضي عم أحمد، وهو أحد الخبازين في مطعم بمنطقة حولي وأتى إلى الكويت في الثمانينيات. عاش عم أحمد 38 سنة في الكويت، وعمل في أول مخبز للفطائر، واحترف عمل العجينة، ويعلق على قرار الستين سنة قائلًا: «طلعوا قرار تبع الستين سنة فخلاص لازم نمشي.. يعني قرار الستين خلاص».
بعد أن تزوج عم أحمد وعاش واستثمر في حرفته، جاء القرار ليغير مجرى حياة أسرة بأكملها، وهي ليست الأسرة الوحيدة. فلك أن تتخيل حياتك من دون صديق عرفته منذ 30 عامًا، أو حلاق قريب منك اعتدت زيارته أسبوعيًا منذ 20 عامًا. شخصيات اعتدت الحياة معهم، من المطعم الشعبي في الجمعية، إلى محلات سوق المباركية وكبارها الرائعين من مختلف الجنسيات، الذين فُرض عليهم الرحيل بسبب هذا القرار.
سيؤدي القرار إلى نسف المنظومة العائلية للمقيمين، والتي تتمثل أهمية كبيرة لدى أي بلد متقدم، فالعائلة تعني الاستقرار، والسلم، والأمن الاجتماعي، والإنتاج، مما يؤدي إلى الإبداع. لا يمكن كذلك أن نغفل الأهمية الاقتصادية لعوائل المقيمين تجاه الإنفاق داخل الاقتصاد الكويتي على كل القطاعات، من مطاعم ومحلات وبضائع، يملك أغلبها كويتيون.
هذا ما تؤكده علية الهاشم في حديثها لـ«منشور»، مشيرة إلى أن أبعاد هذا القرار كبيرة وخطيرة، لأنها تدخل تحت مخالفات دستورية وقانونية وأخلاقية، بسبب التمييز الصريح لحملة الشهادات البسيطة وفئة عمرية محددة. وتذكر أنه «جاء قرار عدم تجديد إذن العمل لحملة شهادة الثانوية لمن بلغ من العمر 60 عامًا من العمالة الأجنبية، دون تحديد القطاعات ولا المهن المتأثرة، وتسرب الخبر إلى الإعلام وتسبب في استياء الكثير من المقيمين. وكذلك يعتبر القرار تمييزيًا قائمًا على الفئة العمرية، وهو أيضًا قرار ظالم ومخالف لحقوق الإنسان وفق المعايير الدولية».
ما بعد ذلك؟
عندما يضطر أحد لترك الكويت بسبب هذا القرار، فسيرحل معه ابنه الطبيب أو المعلم أو الفني أو الممرض، وهؤلاء ليسوا فقط عاملين في البلد، بل هم العمود الأساسي لهذا البلد.
عند فحص الأرقام الرسمية في ما يخص هذا القرار غير المنطقي، نجد أن عدد المتجاوزين سن 60 عامًا في الكويت من المقيمين ليس بالكبير. فبحسب الإدارة المركزية للإحصاء، تبلغ أعداد غير الكويتيين من الفئة العمرية ستين سنة فما فوق في جميع درجات التعليم 225,018 شخص. هذا دون الأخذ في الاعتبار من هم دون شهادات الثانوية، والذين سيكونون بالتأكيد أقل من الرقم المذكور، وهو ما لن يغير من التركيبة السكانية في شيء، لكن أضرار القانون وتبعاته السلبية على الأسر المقيمة وعلى سمعة الكويت ستكون أكبر.
هنالك معضلة أخلاقية في عدم فهم معنى المواطنة، وكيف أن مفهوم المواطنة ومشاعر الانتماء يمكن لها أن توجد في المواطن وغير المواطن. إن الشخص الذي سيترك البلاد لن يتركها وحيدًا، فهناك توجه عام بين المقيمين وغيرهم بترك الكويت، وخصوصًا بعد سنة الجائحة، إذ أعلن ثلثا السكان من غير المواطنين نيتهم ترك الكويت بسبب سوء جودة الحياة، والتي من ضمنها القرارات ذات الصلة بحياة المقيمين.
إذًا المسألة أكبر من عدم تجديد إذن العمل، المسألة نسف وعدم التجديد للحب والولاء والصداقات والخبرات للمقيمين.
عندما يضطر أحد لترك الكويت بسبب هذا القرار، فسيرحل معه ابنه الطبيب أو المعلم أو الفني أو الممرض، وهؤلاء ليسوا فقط عاملين في البلد، بل هم العمود الأساسي لهذا البلد. الأصل أن يتمتع كل إنسان بنفس الحقوق الأساسية، من تعليم ورعاية صحية ومساواة أمام القانون وكرامة إنسانية، ولا يجوز الإضرار به بأي شكل من الأشكال. إن استقرار الأفراد والأسر هو الأساس الجوهري للدفع بعجلة التنمية والثراء المجتمعي، وعلى الحكومة أن تتخلى عن سياسة تحميل الحلقة الأضعف مشاكلها كلما اشتد الهجوم عليها.