«وإذ تقلقنا كذلك حالات الفساد التي تتعلق بمقادير هائلة من الموجودات، والتي يمكن أن تمثل نسبة كبيرة من موارد الدول، والتي تهدد الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة لتلك الدول» - الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الحذر من العواقب دائمًا ما يكون محسوبًا في المعاملات العامة، وقد نلاحظ هذا في كل مكان، وقد بنيت على إثر أفكار «خذ الحذر» المنتشرة أجيال من الحذرين الذين يفضلون السلامة بدلًا عن الدخول في نزاع مؤرق، قد يضيف رهبة لا يحبذونها إلى حياتهم اليومية.
لو شاهدت التلفاز يومًا وسمعت أن مسؤولًا يقول إن «البلاغات التي تقدم للسلطات العامة بهدف طلب تدخلها في ضبط النظام وإعادة القانون وصون المال العام، هي في الحقيقة من الواجبات الدستورية على كل مواطن». هل يذكرك ذلك بالامتناع عن تبليغك عن حالات فساد شاهدتها في مكان عملك خوفًا من عقوبة، أو مجاملة لزميل؟ أم أنك لا تظن أن أدوات مكافحة الفساد باتت ناجعة هذه الأيام؟
بلاغ من الرئاسة.. بلاغ من الرئاسة
هناك خلط واسع الانتشار بين البلاغ وبين استغلال الإجراءات التمهيدية لرفع الدعوى الجزائية في الإضرار بسمعة الأشخاص وأذيتهم عبر إجراءات التحقيق الطويلة، وهذه الإجراءات في حقيقتها لا يراها القانون عقوبة في حد ذاتها، وإن شعر بها المبلَّغ ضده وحزَن لسببها، لذا يجب علينا إعادة فهم كلمة بلاغ.
البلاغ الذي يقدم للنيابة العامة مختلف عن البلاغ الذي يقدمه الأفراد لهيئة مكافحة الفساد «نزاهة»، الأول بلاغ ذو صبغة إجرائية تتضمن اكتساب المبلَّغ ضده صفة المتهم، أما بلاغ هيئة مكافحة الفساد فهو في حقيقته إخطار بمعلومات عن مخالفة فاسدة، قد تتضمن أسانيد وقد لا تتضمن.
ولأن هيئة مكافحة الفساد جهة إدارية أُنيط بها العمل على كشف الجرائم الخاصة بالفساد وجمع الأدلة على تلك المخالفات، فإنها بطبيعتها جهة تعمل كـ«فلتر»، تتلقى البلاغات وتتحرك بموجبها وتسعى لإثبات حقيقة المخالفات، ولهذا فإن صفة المبلغ وفق ذلك هو مُخْطِر. ووفقًا لهذه الفكرة، فقد رتب قانون إنشاء هيئة مكافحة الفساد العديد من النصوص القانونية لحماية حياة المبلغ الشخصية، إذ ذكر في المادة 41 التالي: «توفير الحماية الشخصية للمبلغ: وذلك بعدم كشف هويته أو مكان وجوده، وتوفير الحراسة الشخصية له، أو محل إقامة جديد إذا لزم الأمر».
بالإضافة للحماية الوظيفية، إذ نص القانون على «توفير الحماية الإدارية والوظيفية للمبلغ: وذلك بمنع اتخاذ أي إجراء إداري ضده، وضمان سريان راتبه الوظيفي وحقوقه ومزاياه خلال الفترة التي تقررها الهيئة».
كما يقدم القانون المعونة القانونية للمبلغ، إذ نص على «عدم الرجوع عليه جزائيًا أو مدنيًا أو تأديبيًا»، وقررت اللائحة التنفيذية بعض الحوافز المالية للمبلغين المسهمين في إرجاع المال العام، لكن لم يُعلَن عن تسليم أي حوافز حتى اليوم.
الفساد بالتساؤل.. التساؤل بالفساد
هل هناك وعي حقيقي بضرورة الإبلاغ عند الشك بتصرف غير سليم؟ أم أن غالبية البلاغات التي تقدم هي من قبيل الانتقام الشخصي بين المختلفين، رغبة في الكيد واستغلال سلطات الدولة في الإضرار بالخصوم؟
المنظومة التي عنتها اتفاقيات مكافحة الفساد وسعت لتنفيذها هي أن يُحمى المبلِّغ من جميع ما قد يتعرض له. وهي -أي الاتفاقية لمَّا قررت ذلك- كانت تقصد خلق جو من التفاهم على إنكار الفساد والتشجيع على محاربته تحت مسؤولية كل فرد، وبالتالي فهو عمل مؤسسي ذو طابع شعبي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأفراد وثقتهم في مؤسسات الدولة وسعيهم نحو حمايتها.
قد يتعرض أحدهم لدعوى قضائية تطالبه بالتعويض عن تقديم البلاغ من أحد المبلَّغ ضدهم، فماذا يمكن أن يحصل؟ كيف ينظر القضاء لهذا النوع من القضايا؟ لو قدمتَ بلاغًا ثم قاضاك المبلغ ضده، فما السيناريو المتوقع؟
حدث أن تقدمت مواطنة ببلاغ إلى هيئة مكافحة الفساد ضد مواطنة أخرى، وكان البلاغ يشمل شبهة استيلاء على المال العام بمبلغ مقداره 15 ألف دينار كويتي مملوك لإحدى كليات جامعة الكويت. فحصت هيئة النزاهة البلاغ عبر لجانها، ثم قررت تقديم بلاغ للنيابة العامة، فقررت النيابة بعد التحقيق حفظه لانعدام الجريمة.
رفعت المبلَّغ ضدها دعوى تعويض ضد كل من المبلغة وهيئة النزاهة، فحكمت المحكمة في أول درجة بأن البلاغ تضمن وقائع مخالفة للحقيقة، وأن المبلِّغة تعلم عدم صحتها، واستخلصت من قرار النيابة حفظ القضية أن المواطنة المبلغة أساءت استعمال حقها في الإبلاغ، وكان بلاغها وليد رعونة وتهور وفيه انحراف وخصومة، فحكمت لهذه الأسباب بالتعويض للمبلَّغ ضدها.
استأنفت المبلغة الحكم الابتدائي، فقضت محكمة الاستئناف بإلغاء حكم التعويض ورفض الدعوى، على أساس أن التبليغ عن الجرائم حق من حقوق الأفراد ومن الواجبات المفروضة عليهم، كما لا يُسأل المبلغ عما يصيب المبلغ ضده من ضرر بسبب هذا البلاغ.
يتبين من ذلك أن المحكمة عندما طُرح أمامها نزاع متعلق بحماية المبلغ، اختلفت في درجاتها حسب سلطتها التقديرية في تكييف الوقائع القانونية، ولكنها اتفقت في أسبابها على عدم الاستناد إلى القواعد الخاصة بالبلاغ لهيئة مكافحة الفساد، وإنما اكتفت بتطبيق القواعد العامة في مسألة التعويض عن البلاغات العادية، والتي يجري العمل بها في الكويت منذ زمن بعيد، وتشير لها بعض أحكام محكمة التمييز.
الآلية ومناطق الضعف
افترض القانون أن الوقائع التي يتقدم بها المبلغ لم تصل إلى علم هيئة مكافحة الفساد بطريق آخر غير طريق البلاغ الذي يتقدم به المبلغ، وهي المختصة من حيث الاختصاص النوعي بكشف حالات الفساد المحددة وتنقيحها على سبيل الحصر حسب قانونها، وبالتالي فإن المعلومات التي يتقدم بها المبلغ هي معلومات لم يكن مستنتج منها أنها تشكل جريمة، وعليه فإن وظيفة الأفراد المبلغين هي استنتاج أن بعض الأفعال المعينة التي وقعت وأدركوها بأسماعهم وأبصارهم، تشكل إحدى الجرائم التي تختص بكشفها هيئة مكافحة الفساد.
هؤلاء المبلغين ليسوا في الواقع مختصين بالقانون، وعليه تنتقل مسؤولية فحص البلاغ والبحث في جديته وفي اكتمال عناصره إلى هيئة مكافحة الفساد، باعتبارها القيّمة على ذلك حسب قانون إنشائها، ومن ثم تعمل بعد فحص البلاغ على جمع الأدلة الكافية لتتخذ قرارها، إما بحفظ البلاغ أو إحالته إلى النيابة العامة.
النصوص الموضوعة لحماية المبلغين تقديرية مطاطية وقد تشكل في حقيقتها خطرًا على من يفكر في التبليغ.
لا يمكن أن يكون المبلغ عن جرائم الفساد محل اتهام لأنه لم يقدم بلاغًا بالمعنى القانوني المتعارف، فالمرجعية الدستورية لسلطات الاتهام حددت النيابة العامة والإدارة العامة للتحقيقات كجهتي اتهام، وعليه فإن البلاغات التي تقدم لهاتين الجهتين هي البلاغات التي يعتد بها، أما ما تؤديه هيئة مكافحة الفساد من أعمال وما تتلقاه من بلاغات، فإنه وإن وُسع نطاقه ليشمل جرائم الفساد، إلا أنه محدد النطاق في إدارة الدولة، باعتبار أن الهيئة هي الجهة الإدارية الحارسة والمراقبة لهذا النوع من السلوك، والذي يهدف في حقيقته لحماية سلطات الدولة الإدارية وكشف المعتدين على أموالها العامة.
يترتب على ذلك أن مسؤوليتي تقديم البلاغات للنيابة العامة ولهيئة مكافحة الفساد، مسؤوليتان مختلفتان من حيث الشكل والمضمون، فالأولى إدارية تتحول إلى جزائية بمجرد أن تقدم الهيئة البلاغ للنيابة العامة، والثانية مسؤولية جزائية بامتياز.
وعليه فإن تقدمت الهيئة العامة ببلاغ للنيابة العامة، فلا مسؤولية عليها كهيئة، ولكن قد تثار مسؤولية المبلغين عن بلاغاتهم بعد ذلك، وقد تعرضهم للملاحقات القضائية والوظيفية بشكل مخالف للقانون. كما أن تقدير جدية البلاغ من عدمه راجع في الأصل إلى الهيئة ذاتها، فحماية المبلغ يجب أن ترتقي لأكثر من الحالة الموجودة الآن، وإلا فإننا سنكون أمام حالة مشوهة وهي أن لدينا آلية لتقديم البلاغات ضد الفساد، لكنها آلية ليست ناجزة وليست محمية.
النصوص الموضوعة لحماية المبلغين تقديرية مطاطية وقد تشكل في حقيقتها خطرًا على من يفكر في التبليغ، ومن أمثلة الثغرات في القانون:
- لم يورد القانون ما ينص على تجريم إفشاء سرية البلاغات وأسرار المبلغين، خاصة من يطلب عدم الكشف عن اسمه (عادة ما يُطلب منه تقديم أسباب عدم الكشف عن اسمه)
- نصت المادة 5 فقرة 4 على أن من أهداف الهيئة حماية المبلغين عن الفساد بالتنسيق مع الجهات المختصة، فما هي الجهات المختصة؟
- يُقضى على المبلغين بالتعويض وبالإجراءات القانونية بسبب سوء تقديرهم لما يصلح أن يكون بلاغًا أو ما لا يصلح، فهل من المتصور أن تقع جريمة البلاغ الكاذب وإزعاج السلطات ضد المبلغين؟
المادة 145 من قانون الجزاء نصت على أن «كل من قدم إلى موظف عام مختص باتخاذ الإجراءات الناشئة عن ارتكاب الجرائم، بلاغًا كتابيًا أو شفويًا متضمنًا إسناد واقعة تستوجب العقاب إلى شخص لم تصدر منه، وهو عالم بعدم صحة هذا البلاغ، يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنتين وبغرامة لا تجاوز ألفي روبية، أو بإحدى هاتين العقوبتين».
من المتصور أن تلاحق هذه المادة المبلِّغ إذا انحرف في تقديم بلاغه، لكن المهم في هذه الحالة: لماذا لم يعف قانون مكافحة الفساد المبلغين من تلك العقوبات؟ هل المهم هو تعزيز الحذر في تقديم البلاغات، أم أن تلقي القدر الكبير من البلاغات لفحصها هو الخيار الأنسب؟
هل نحن جادون فعلًا في حماية المبلغين عن الفساد مع وجود كل هذه الثغرات القانونية؟
من اشتراطات البلاغ للنزاهة أنه يجب أن يكون محتويًا على دلائل جدية، ويعتبر البلاغ غير جدي في حال خلوه من مستندات أو إشارة لمستندات، وخلوه من القرائن، وبالتالي فإن اللائحة التنفيذية لقانون هيئة مكافحة الفساد تفترض حصول المبلغ على مستندات تؤيد بلاغه، ولكن ليس الحصول على المستندات أمرًا سهلًا، خاصة وأنه يصطدم في غالب الأحيان بالسرية المصرفية التي يعاقَب مفشي أسرارها حسب قانون الجزاء.
كما نص قانون مكافحة الفساد على أنه يجب على الموظف الذي يتلقى البلاغ أن يُفهم المبلغ إنه في حال عدم صحة بلاغه فإنه قد يتعرض للمساءلة القانونية، كما أن الهيئة ملزمة بتعويض المبلغ عما يلحقه من أذى مادي أو أدبي بسبب البلاغ «إذا استوفى حقه في البلاغ».
واستيفاء الحق في البلاغ يعني أنه إذا خرج ذلك عن الإطار التقديري العام للبلاغ، فإنه قد يُترك ومصيره دون حماية، لذلك تعوضه الهيئة عما يلحقه.
لو سمعتَ أحدًا في السوق يصرخ وهو يشير لأحدهم: «حرامي.. حرامي»، ما الذي يتوجب عليك فعله؟ هل تترك الأمر للسلطات العامة، أم يجب أن تقبض على المتهم بالسرقة دون أن تتفحص الأمر؟ هل لو قبضت عليه سوف تُتهم بسوء التصرف وبحجز الحرية؟ لا، فقانون الإجراءات الجزائية ينص على حق الأشخاص العاديين في القبض على المتهمين في جرائم مشهودة، ولكن يجب أن تأخذ الحذر ألف مرة قبل أن تتقدم ببلاغ، إلا إذا كان جديًا.
هل نحن جادون فعلًا في حماية المبلغين عن الفساد مع وجود كل هذه الثغرات القانونية؟ نحن في حاجة حقيقية لخلق الطمأنينة لدى الأفراد، لتشجيعهم على التبليغ دون التخوف من تبعات قد تؤذيهم في وظائفهم وأموالهم، ويكمن ذلك في مراقبة المسؤولين في التعامل مع الموظف المبلغ، وحماية المبلِّغ من المبلَّغ ضده، ليضمن ذلك أكبر قد ممكن من مكافحة الفساد المنشودة.