خلال الحرب العالمية الثانية، وفي المعارك بين اليابان والولايات المتحدة، حدث أمر غريب، الطيارون العسكريون اليابانيون يحلقون بطائرتهم لكن ليس لإلقاء القنابل على السفن الأمريكية، بل يلقون بأنفسهم وبالطائرات إلى قلب السفن وحاملات الطائرات الأمريكية، ليحققوا أكبر خسارة ممكنة للعدو، إنهم «الكاميكازي».
لكن ما الذي جعل هؤلاء الرجال يُقدمون على التخلص من حياتهم بهذه الطريقة؟ هل كانوا متطوعين حريصين يضحون بأنفسهم من أجل الأفضل، بحسب ما روَّجت له بروباغندا الحرب في اليابان، أم كانوا مجبرين على هذا الفعل؟ أيضًا، لماذا اتَّبع الجيش الياباني تكتيكًا كهذا؟
ولادة «الكاميكازي»
كان كبار ضباط الجيش الياباني يعانون من اليأس. تفوَّق عليهم العدو، نالَ منهم، وتبيَّن أنهم غير مؤهلين أمام تقنيته المتطورة في ذلك الوقت التي لم تكن اليابان تملكها.
ففي يونيو 1942، واجه الجيش الياباني أيامًا رهيبة خلال «معركة ميدواي»، التي كانت الولايات المتحدة طرفها الآخر، واستمرت بين الرابع والسابع من يونيو، فقدَ الجيش الياباني في المعركة أعدادًا ضخمة من الطيارين، كما أن تدريب عدد جديد من الطيارين بشكل سريع لم يكن حلًّا معقولًا.
أدَّى كل هذا إلى إرسال طيارين لا يملكون خبرة كافية بأسطول جوِّي عتيق الطراز ومهمل، ما سبَّب معركة «بحر الفلبين» عام 1944، أو ما يطلق عليه الحلفاء «عملية ضربة الديك الرومي». في ظل هذه الظروف ابتُكِر الكاميكازي الذي يعني «الريح الإلهية» باليابانية.
لم تكن الفكرة غريبة جدًّا على اليابانيين، فالموت قبل الهزيمة متأصل بقوة في الثقافة العسكرية اليابانية، هربًا من العار والندم، مثل الـ«هارا كيري» (قطع أحشاء البطن) الذي كان يمارسه مقاتلو الساموراي، لعدة أسباب، مثل تفادي الوقوع في يد العدو أو لمسح عار الهزيمة أو كعقاب للساموراي نتيجة ارتكابه إثم أو جريمة.
بشكل عام، ربما تكون هذه الثقافة المتوارثة من إعداد هؤلاء الطيارين الانتحاريين بعد تذكيرهم والتحدث إليهم عن هذه المبادئ.
أما إن وددنا النظر إلى الأمر بشكل أقرب، نجد ما كتبته عالمة الأنثروبولوجيا اليابانية «إيميكو أونوكي-تيرني»، في كتابها «يوميات كاميكازي»، الصادر سنة 2006، عن أن أول ما يتعلمه الطالب المجند هو كيفية استخدام إصبعه لسحب زناد بندقيته، بينما يوجهها إلى مكان محدد من ذقنه كي تقتله الرصاصة حالًا. وعليه أن يطبِّق ما تعلَّمه في كهف أو خندق إن حاصره فيه العدو. وإن لم يقتل نفسه، وجرَّب الهروب، فقد يقتله قائده أورفاقه من الخلف، إيمانًا منهم بالتعاليم التي تنص على أنه لا يجب الوقوع بين أيدي العدو.
لنعرف من أي عقل ظهرت فكرة الكاميكازي، سنصل إلى شخص واحد، ولو أن آخرين قد ساهموا في تطويرها وتنفيذها، هذا الشخص هو الكابتن «موتوهارو أوكامورا» الذي خرج بفكرة/استراتيجية إرسال طيارين إلى رحلة انتحارية ذات اتجاه واحد، والذي قرَّر تجميع عدد من الطيارين المتطوعين فقط ليحطموا طائراتهم عن عمد، هؤلاء كانوا «توكبيتسو كوغيكيتاي» (وحدة الهجوم الخاصة) التي شكَّلت الكاميكازي لاحقًا.
كان أوكامورا واثقًا من هذه الاستراتيجية: «أؤمن كليًّا بأنه في وضعنا الحالي، تكون الطريقة الوحيدة لتغيير موازين الحرب لصالحنا هي اللجوء إلى انقضاض مستعينين بطائراتنا. لا يوجد طريقة أخرى. سيكون هناك متطوعون أكثر مما يلزم لهذه المحاولة لإنقاذ وطننا. زودوني بثلاثمئة طائرة وسأغيِّر مجرى الحرب».
الشبان الذين تطوعوا ليصبحوا كاميكازي عوملوا بطريقة وحشية خلال التدريب، لدرجة أن بعضهم فقد شعور حب الوطن.
بعد إعلان أوكامورا تشكيل فريق من الطياريين الانتحاريين، تدفق عدد هائل من المتطوعين إلى درجة أنهم أصبحوا أكثر من عدد الطائرات، حتى إن أوكامورا شبَّههم بسرب من النحل، نحل يموت بعدما يلسع.
إعداد الكاميكازي
في هذه الأثناء، بدأت الخلافات داخل الجيش الياباني تظهر، وتبين أن كثيرين لم يوافقوا على ما يحدث. الملازم «يوكيو سيكي» الذي أُمر بقيادة الفرقة 23 مثلًا، رأى أن مستقبل اليابان سيكون غائمًا إذا انتحر خيرة طياريه، لكنه لم يستطع فعل شيء، ونفَّذ المهمة، ليس من أجل الإمبراطور والإمبراطورية، بل لأنه أُمِر بتنفيذها لا أكثر.
أماالشبان الذين تطوعوا ليصبحوا كاميكازي، فقد عوملوا بطريقة وحشية في أثناء التدريب، إلى درجة أن بعضهم فقدوا أي شعور يتعلق بحب الوطن، بناءً على شهادات من المتدربين الناجين. يقول «إروكاوا دايكيشي»: «كنت أُضرب على وجهي مباشرة بقوة حتى أصبح من الصعب تمييزه. كنت أُضرب بشدة حتى أقع على الأرض. وبعد لحظات عندما أحاول النهوض أتلقى الضربات مرة أخرى».
إذًا، بينما كانت الصورة المروَّج لها أن هؤلاء تطوعوا من أجل الإمبراطور والوطن، كان هناك آخرون تطوع فقط لأنهم يرون أن هذا هو الفعل الصحيح، أو من أجل حماية عائلتهم وأصدقائهم، وهناك من تطوع بسبب الضغوط.
لكن ما التكتيك الذي اعتمد عليه أوكامورا لإقناع اليابانيين بالتطوع؟
معظم الرجال تأهلوا للتجنيد في المخطط من خلال استفتاء بسيط يحتوي على سؤال ذي اختيارات: هل تريد/ لا تريد الانضمام إلى هجمات الكاميكازي؟
الرجال المطروح عليهم السؤال طُلب منهم وضع دائرة حول اختيارهم. كان هناك خيار عدم التطوع، لكنهم ما زال عليهم كتابة اسمهم في الاستمارة، وهذا ما شكَّل ضغطًا عليهم، فهم لا يريدون أن يضعوا أسماءهم ليشعروا بالعار لاحقًا، وفي الوقت نفسه كان يريدون فعل شيء وتقديم أي مساعدة لبلدهم. بعضهم خاف من الانتقام لو رفض، حتى إن الانتقام قد لا يتوقف عند الجندي الرافض، بل قد يطال أفراد عائلته.
لم يمت كل طياري الكاميكازي، بعضهم نجا بعد أن تعرضت طائرته لمشكلة على الطريق.
هناك تكتيك آخر اتبعه بعض ضباط الجيش، عن طريق «تشجيع» الجنود على التطوع بوضعهم في غرفة وإلقاء خطب عليهم عن حب الوطن، وبعد الانتهاء يطلبون من كل من لا يود أن يكون كاميكازي، التقدم خطوة إلى الأمام، وهذا التكتيك كان فعَّالًا لأنه يعطي الجنود حرية اختيار عدم التطوع، لكنه قائم على لعبة نفسية خبيثة، لأن كل من يتمتع بالولاء لوطنه وإمبراطوره لن يستطيع رفض التطوع، وإلا سيحمل عار عدم نية الموت، بينما أصحابه الجنود يقدمون أرواحهم لحماية وطنهم.
ما بعد الكاميكازي
بعد كل هذا رفض بعضهم، لكن كل من تشجَّع على الرفض تحولت حياته إلى جحيم بعدة طرق، مثل إرساله إلى ساحة المعركة الجنوبية في أوكيناوا، حيث الموت هناك مضمون بسبب المعارك الشرسة والدموية مع القوات الأمريكية التي انتهت باحتلال الحلفاء للجزيرة وتكبيد خسائر فادحة لليابانيين (ما يقرب من المئتي ألف قتيل بين عسكري ومدني).
بعض من اختاروا عدم التطوع تجوهلت اختياراتهم، وتفاجأوا بأسمائهم على لائحة المتطوعين في الكاميكازي، فقط لأن المسؤول أراد التفاخر بأن جميع من تحت أمرته وافقوا على التطوع.
لم يمت كل الطيارين المتطوعين في الكاميكازي، بعضهم نجا بعد أن تعرضت طائرته لمشكلة على الطريق، أو عدم إيجاد هدف واضح لضربه، لأن من التوصيات الأساسية للكاميكازي أنه إن لم يكن الهدف واضحًا، بسبب الطقس أو ظروف أخرى، فمن الأفضل عدم ضربه بالمرة، أي عدم إهدار حياة من أجل تكبيد العدو خسارات خفيفة، ووقتها يعود الكاميكازي إلى القاعدة من أجل إعادة المحاولة لاحقًا.
رغم هذا، يؤكد أحد الناجين أن كثيرًا من الكاميكازي فجَّروا طائراتهم دون أن يكون هناك هدف جيد يكبِّد العدو خسارة كبيرة، لإيمانهم بأن فعلهم هذا سينقذ بلادهم من كارثة قد تكون حتمية، وأنهم سينالون الشرف في كل الحالات، كما هو ظاهر في رسالة كتبها «إتشيزو هاياشي»، في إبريل 1945، قبل بضعة أيام من موته: «أنا مسرور لنيل شرف أن أكون أحد أعضاء الكاميكازي، لكنني لا أستطيع إيقاف دموعي عندما أفكر فيكِ يا أمي. عندما أفكر في الآمال التي حملتِها لمستقبلي أشعر بحزن شديد لأني ذاهب إلى الموت دون فعل ما يجلب لك السرور».
نفذ 3 آلاف كاميكازي مهمتهم، وسبَّبوا أضرارًا لأكثر من 350 سفينة.
الكاميكازي كانوا بشرًا عاديين لهم أحلام وعائلاتهم وأمور يهتموا بها، لكن الحرب تغيِّر كل شيء جذريًّا، وليس أمامك سوى المقاومة عن طريق التعامل معها بأفضل طريقة لديك، ولو كانت الموت، أو بلغة أخرى: شرف الموت.
نتيجة الكاميكازي
بعد هذا ربما نطرح سؤال عما حققه مخطط الكاميكازي هذا. بحسب القوات الجوية الأمريكية، فإن ما يقرب من الثلاثة آلاف كاميكازي نفذوا مهمته، ما سبب ضررًا لـ368 سفينة، 34 منهم مات غرقًا. قُتل أربعة آلاف و900 جندي بحرية، وأصيب أكثر من أربعة آلاف و800. وهذه النتيجة تحققت رغم أن 14% فقط من الكاميكازي أصابوا أهدافهم بنجاح.
لكن هذه الهجمات لم تستطع تغيير الموازين بين المتحاربين، إلا أنها لا شك سببت خسائر صادمة للحلفاء، وجعلتهم يتبعون تكتيكات دفاعية لم تكن في الحسبان للتصدي لهذه الهجمات، وكانت، وفقًا لموقع «التاريخ الأمريكي»، أحد الأسباب التي جعلت رئيس الولايات المتحدة آنذاك «هاري ترومان» يأمر بإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناغازاكي.