يغيب اليهود الأرثوذكس أو من يسمون بـ«الحريديم» عن التمثيل السياسي في الحكومة الإسرائيلية الجديدة، بعد أن هيمنوا منذ سبعينيات القرن الماضي سياسيًا في غالبية حكومات إسرائيل، وتحديدًا قبل 12 عامًا، عندما وجدوا أنفسهم في قلب السلطة بفضل دعم رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، ليجدوا أنفسهم الآن في مقاعد المعارضة بعد فشل حزب الليكود بزعامة نتنياهو في تشكيل حكومة ائتلافية، ولينتابهم القلق من حكومة نفتالي بينيت التي عنوانها التغيير، والتي من شأنها منح العلمانيين صلاحيات واسعة.
دستور الحريديم هو التوراة لا قوانين الدولة، وهم في الأصل ومن حيث المبدأ معادون للحركة الصهيونية و«الدولة»، ويرون وفق عقيدتهم أن الله نشرهم في العالم ليكونوا «شعلة للأغيار»، ولكنهم في الوقت الحاضر بحاجة إلى الدولة الصهيونية، وعليه فإنهم يتعاملون معها بفعل الأمر الواقع.
مشاركة كبيرة
تنضم الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية المتطرفة إلى حليفهم بنيامين نتنياهو في المعارضة الآن، وقد بدأوا فعليًا الحديث عن استهداف ائتلاف رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نفتالي بينيت، بينما يحاولون الحفاظ على بعض الامتيازات التي يتمتعون بها في المجتمع الإسرائيلي، والتي حصلوا عليها بشق الأنفس، حسبما ورد في تقرير صحيفة وول ستريت جورنال.
العديد من الحاخامات والمشرعين يعتبرون ائتلاف بينيت تهديدًا يواجه نمط حياتهم، إذ إن حكومته التي أدت اليمين الدستورية يوم الأحد 13 يونيو، تجسد تحالفًا واسعًا من أحزاب اليمين واليسار والوسط، بل ومن حزبٍ إسلامي عربي مستقل، وهي المرة الأولى في السياسات الإسرائيلية.
على مر السنين، دخل الحزبان الحريديان الرئيسيان: الحريديم الأشكناز وهم كتلة يهودات هتوراه، والحريديم الشرقيون السفارديم وهو حزب شاس، تحالفًا وثيقًا مع نتنياهو زعيم الليكود، واستفادا من دورهما بوصفهما عناصر أساسية في سلسلة من الائتلافات الحاكمة التي ترأسها نتنياهو.
شاركت الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية المتطرفة في الحكومات الإسرائيلية مشاركة كبيرة منذ أن تولى حزب الليكود، الذي ينتمي إليه نتنياهو، مقاليد السلطة عام 1977، عندما كان يرأسه مناحم بيجن، وهو قائد سابق لمنظمة عسكرية صهيونية صار سادس رئيس وزراء لإسرائيل، ولم يبتعدوا عن الانضمام إلى الحكومة عادة إلا لعام أو عامين.
اعتمد نتنياهو، صاحب أطول مدة في منصب رئيس الوزراء الإسرائيلي، على دعم الأحزاب الدينية في أكثر من مناسبة، وشكل ائتلافًا واحدًا فقط دونهم لم يدم طويلًا، ويتحالف حاليًا مرة أخرى مع الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة بوصفه زعيم المعارضة، في محاولة لفتح الشقوق في صفوف الحكومة الإسرائيلية الجديدة.
ومن موقعهم هذا، مارسوا ما يراه عديد من النقاد نوعًا من السلطة غير المتكافئة لفرض نفوذهم على سياسات الدولة، وقد برز ذلك، على سبيل المثال، عندما تصدوا بنجاح، أو بعض طوائفهم، لقيود الدولة الخاصة بمكافحة وباء كورونا، ورفضوا ببساطة الانصياع لها في مجتمعاتهم، حسبما ورد في تقرير صحيفة نيويورك تايمز.
ويُنَصِّب عديد من قادة هذه المجتمعات أنفسهم في موقع حماة إسرائيل الأخلاقيين، وفي وقت سابق من هذا الشهر نشرت مجموعة من الحاخامات البارزين خطابًا يقول إنهم سوف يقاتلون للحفاظ على شخصية إسرائيل اليهودية.
تقليص الميزانيات المالية
في حديثه لـ«منشور»، يشير الكاتب والمختص في الشأن الإسرائيلي عليان الهندي إلى أن «اليهود الأرثوذكس أو الحريديم يخشون حكومة نفتالي بينيت خوفًا من تقليص الميزانيات المالية التي يستفيدون بها لتمويل بعض مؤسساتهم التعليمية وجمعياتهم وغيرها، وهي ميزانيات مضاعفة مقارنة بما يحصل عليه باقي السكان في إسرائيل، وهي من الأمور التي طالما شكلت مشكلة عميقة داخل إسرائيل اقتصاديًا واجتماعيًا، لكيفية حصول هذه المجموعات على ميزانيات هائلة دون الانخراط في الخدمة العسكرية الإجبارية وتحمل الأعباء التي يتحملها بقية اليهود في إسرائيل».
يوضح الهندي أن «اليهود الأرثوذكس كانوا شركاء في كل الحكومات المتعاقبة على إسرائيل، منذ حكم رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين، في حين يرجع سبب عدم انضمام التيارات الدينية المتشددة كالحريديم وغيرهم للحكومة الجديدة إلى اعتبارات شخصية وليست جوهرية، وذلك بعد مراهنتهم على قدرة بنيامين نتنياهو، والذي يدعمه الأرثوذكس بشكل كامل، على تشكيل حكومة حتى المرحلة الأخيرة، والتي انتهت بفشله في تشكيلها، بالإضافة إلى الخوف الذي ينتاب الحريديم من أن تتسبب سيطرة أحزاب "إسرائيل بيتنا" و"يمينا" و"هناك مستقبل"، والتي لديها توجهات علمانية خالصة، في محاربة المطالب المبالغ فيها من قبلهم وتقليص الميزانيات المالية المقدمة لهم».
تمرير مخططاتهم ومشاريعهم
يتابع الهندي أن «الحريديم يقدر عددهم بأكثر من 150 ألف شخص، وهو ما يعادل عدد أفراد الجيش الإسرائيلي، في حين يدرس عشرات الآلاف منهم في مدارسهم الدينية، وتعيش نسبة كبيرة منهم دون عمل، كما تتوجه أعداد هائلة منهم تصل إلى ما يزيد عن 90% لصناديق الاقتراع عند إجراء الانتخابات الإسرائيلية، ويأتي ذلك في إطار المحافظة على مصالحهم، وبالتالي فهم مجتمع قائم على التوراة، ويتجه نحو اليمين المتطرف، وليس نحو التدين المتطرف».
وحول إمكانية دخول اليهود الأرثوذكس في داخل الحكومة الإسرائيلية الجديدة رغم الاختلاف القائم معها، يوضح الهندي أن «الأمر يتوقف على الضغط الذي من الممكن أن تمارسه هذه الحكومة عليهم، من حيث تقليص الميزانيات وغيرها، وفي حال حصل ذلك فهذا سيدفع بأحزاب "شاس" و"يهدوت هتوراة" الدينية المتشددة إلى دعم حكومة بينيت، لخدمة توجهاتهم ومصالحهم الخاصة فقط».
يلفت الهندي إلى أن «الأحزاب الحريدية تعتمد على بيني غانتس وزير الدفاع لتمرير مشاريعهم ومخططاتهم، باعتباره أحد خريجي مدارسهم الدينية، لرغبة الحريديم في عدم فقدان الدعم المالي الذي كانوا يحصلون عليه منذ أربعينيات القرن الماضي، وبالتالي يجد هؤلاء أنه من الصعب أن يفقدوا تلك الإنجازات التي حصلوا عليها عبر الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة السابقة».
بلغ نفوذ الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية حد إصدار قانون عام 2015 لإعفاء طلاب المدارس الدينية من الجندية، مجاملة لهم، وهو القانون الذي ألغته المحكمة العليا الإسرائيلية عام 2017.
يروّج السياسيون الحريديم لأجندة اجتماعية محافظة تعارض الزواج المدني وحقوق المثليين والعمل أو استخدام وسائل النقل أيام السبت، وغالبًا ما يعرقلون أجندة الحقوق المدنية التي يفتخر بها العديد من أعضاء الائتلاف الجديد، ويدعمون نظامًا تعليميًا مستقلًا يركز على الدراسات الدينية، كما يتجنبون التعليم العلماني للفتية، بحسب الصحيفة.
قضت الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية أوقاتًا في الحكومة الإسرائيلية أكثر من الوقت الذي قضته بعيدة عنها، ولكن بالنسبة للكثيرين في إسرائيل، فإن انتهاء هيمنتهم على السلطة قد يكون بوابة لتخفيف بعض القيود المفروضة على الحياة العامة.
حكومة معادية وخطيرة
بدوره، يقول الكاتب والمحلل السياسي عصمت منصور لـ«منشور» إن «الحريديم ينظرون لحكومة بينت باعتبارها معادية لهم، وستشكل خطرًا كبيرًا عليهم خلال الفترة المقبلة، لخوفهم من أن تسحب هذه الحكومة الامتيازات والمكاسب التي كانت تقدم لهم في عهد رئيس الوزراء السابق نتنياهو، والتي من شأنها تهديد مصالحهم وجمهورهم».
يقلل منصور من أن «تؤثر المنغصات التي قد ينفذها الأرثوذكس على الحكومة الجديدة، معللًا ذلك بعدم امتلاك هذه الأحزاب للقوة المؤثرة عليها. لكن اعتبار أن جمهور تلك الجماعات الدينية المتشددة منغلق على نفسه، يختلف بشكل كامل عن الجمهور المساند لرئيس الحكومة الإسرائيلية بينيت».
ويوضح أن «وصول ائتلاف حكومي متنوع إلى سدة الحكم في إسرائيل من شأنه منح الفرصة لليهود غير المتطرفين لكسر احتكار اليهود الأرثوذكس لمفاصل الحياة، كالزواج ووسائل النقل وغيرها. فرغم توجه الحكومة الجديدة نحو الزواج المدني وقانون التجنيد، لا تزال الفرصة قائمة بعدم قدرة هذه الحكومة على إحداث أي تغييرات في هذه القضايا، لوجود توازنات داخل المجتمع الإسرائيلي يصعب تجاوزها».
وبسؤال منصور حول قدرة الحكومة الإسرائيلية الجديدة على تحسين علاقتها باليهود حول العالم، وتحديدًا مع الحركات غير الأرثوذكسية في ظل وجود حكومة لم تعد مرتبطة بالأحزاب الحريدية وتتجه نحو التعددية، يوضح أن ذلك «مرهون بالمدة التي ستحظى بها الحكومة الجديدة في إسرائيل، وفي حال استمرارها لأربعة أعوام، فمن المتوقع أن تعيد صياغة العلاقة مع اليهود في الخارج ومع التيارات الليبرالية».
ويعد التعليم مصدر قلق منتشرًا بشأن هذه المجتمعات، إذ يذهب طلاب الأرثوذكس المتطرفون إلى مدارس منفصلة، ولا يدرسون تقريبًا الحساب والعلوم. وبالنسبة لقادة هذه المجتمعات، يعد حفظ المنهج الديني ضرورة بالغة الأهمية للحفاظ على نمط حياتهم.
رغم رغبة حكومة بينيت في الحفاظ على علاقة جيدة مع أحزاب اليهود الأرثوذكس لمحاولة التخفيف من وطأة التوتر بين الحقوق المدنية الديمقراطية والطابع اليهودي للدولة، والذي يعتبر من أهم المعضلات التي تواجه الحكومة طوال الوقت، فإن الحريديم لا يزالون يهددون حكومة بينيت تمهيدًا لعودة نتنياهو زعيم حزب الليكود إلى السلطة من جديد.