لا تتعلق المسألة عند الحديث عن تعدد الطيف السياسي داخل الحركة الصهيونية وانقسامه يسارًا ويمينًا باختلاف النماذج الاقتصادية والانحيازات السياسية فحسب، بل إن المسألة تتعلق باختلاف الأدوات والخطاب وطبيعة النموذج المتخيل من قبل الطرفين في سبيل تحقيق ذات الغاية، وهي جمع شتات اليهود من أوروبا والولايات المتحدة على أرض فلسطين وإقامة دولة لهم حصرًا.
وعليه، ستستعرض المقالة سردًا مختصرًا عن تكون اليسار الصهيوني ضمن آلية تجاذب داخلية في إطار الحركة الأم ما قبل النكبة وخلالها. وانطلاقًا من ذلك، نحاول تقصي نظرة حركات اليسار العربي حينها لتكوُّن هذا المشروع في المنطقة.
وفي ظل هيمنة تصور كيان الاحتلال الإسرائيلي كنموذج ديمقراطي، فالأمر يستدعي هنا فهم طبيعة هذه الديمقراطية كآلية تقاسم وتبادل سلطاته يمينًا ويسارًا تحت مظلة مشروع استعماري عنصري، والتي ولعوامل أخرى عديدة تمخضت عن بروز الصهيونية الليبرالية اليوم كأحد مآلات اليسار الصهيوني.
الصهيونية العمالية : الكيبوتسات
كان الاتحاد السوفييتي أول المعترفين بدولة الاحتلال الإسرائيلي، وبتعبير مندوب الاتحاد في الأمم المتحدة في نوفمبر عام 1947، فإن السوفييتين أيدوا قيام الدولة اليهودية لأنهم يتوقعون خيرًا منها أكثر من العرب «الذين رموا بأنفسهم في أحضان الأنغلو-سكسونية»، في إشارة إلى توقيع العديد من الدول والكيانات العربية معاهدات مع بريطانيا. وروجت الحركة العمالية الصهيونية تبنيها سياسات اشتراكية، كمشاريع المستوطنات الزراعية (الكيبوتسات) لستالين، في محاولة ناجحة لاستمالته.
خلال فترة فلسطين الانتدابية، عملت الحركة الصهيونية التي تأثر العديد من منتسبيها بالأفكار الشيوعية والاشتراكية أثناء وجودهم في أوروبا، على تكوين نقابات واتحادات عمالية يهودية تحت اسم «هستدروت»، بيد أن أممية الأطروحات الماركسية والاشتراكية الديمقراطية وتبنيها أفكارًا عابرة للإثنيات كانت منفرة لأبرز منظري الحركة الصهيونية وأحد أوائل المنتخبين لرئاسة الهستدروت، دافيد بن غوريون.
وعليه، كان الشكل الاشتراكي المتبنى من اليسار الصهيوني هو الاشتراكية القومية، أي بشكل مماثل للاشتراكية النازية. فالهدف الأساسي كان إقامة مؤسسات دولة قائمة على اليهود، وهذا ما حصل خلال سنين الانتداب، إذ نجحت الحركات العمالية الصهيونية في إنشاء نماذج تحديث اقتصادية موازية خاصة باليهود، بل وعملت منذ حينها على محاولة تصفية العمال العرب، وحتى دفعهم لإنشاء نقابات خاصة بهم لتسهيل عملية التعامل معهم وتهميشهم وفصلهم عنصريًا.
رد فعل اليسار العربي خلال النكبة
شكَّل اعتراف الاتحاد السوفييتي بدولة الاحتلال صدمة أولية للعديد من الأحزاب الشيوعية العربية، والذين تشكل وعيهم السياسي خلال تلك الحقبة عبر مقاربة المشروع الصهيوني كخطر يهدد فلسطين، بل حتى أن الأعضاء اليهود العرب في الحزب الشيوعي العراقي مثلًا عاشوا ذات الصدمة، إذ كانوا ينظرون إلى الصهيونية كحركة عنصرية تهدد اليهود أنفسهم.
إلا أن التبدل في الخطاب السوفييتي الرسمي انعكس على شكل تحول كبير في نظرة العديد من الأحزاب اليسارية العربية في العراق وسوريا ومصر إلى مشروع قيام دولة «إسرائيل». فرغم وعيهم بالبعد العنصري القومي للحركة الصهيونية، قاربت هذه الأحزاب الصراع من ناحية إثنية هوياتية، رافضين الصراع مع اليهود وداعين إلى لحمة طبقية. فبعد النكبة بأشهر، أصدرت اللجنة العربية الديمقراطية في باريس بيانًا وُزع على العديد من الأحزاب الشيوعية، يقول إن «اليهود المهاجرين من عمال وحرفيين وفلاحين أصدقاؤنا، ولشعب إسرائيل الجديدة حق تقرير المصير».
«إسرائيل» المستعمرة الديمقراطية
مع إعلان إنشاء «دولة إسرائيل»، ألبست الحركات العمالية الإطار الحزبي في ظل عملية انتخاب ديمقراطية تتنافس فيها الحركات الصهيونية في ما بينها، لتشكل امتدادًا للعنصرية الصهيونية العمالية يسارية الطابع لكن في إطار دولة حديثة ومؤسسات، استلمت فيها التيارات السياسية التي انبثقت من الكيبوتسات والهستدروت دفة الحكم السياسي وهيمنت عليه حتى أواخر السبعينيات، حين انقلبت دفة الحكم ناحية اليمين الصهيوني، منهية نحو 30 عامًا من سيطرة الأحزاب اليسارية، أو ما يطلق عليه في الأدبيات الصهيونية «أطلق النار على العربي ثم تباكى».
ومن الأهمية بمكان هنا ربط العنصرية العمالية اليسارية وعملياتها الانتخابية الحكر على اليهود خلال فترة الانتداب مع شكلها الديمقراطي في «دولة» و«برلمان» وتعدد حزبي. وهنا يجيب «حاييم زابنر»، أحد أحفاد الناجين من النازية ومؤلف كتاب «جيش لا مثيل له: كيف صنع الجيش الإسرائيلية أمة»، حول سؤال ما إذا كانت «إسرائيل» ديمقراطية بالرجوع الى نص إعلان قيام هذه «الدولة»، ليلاحظ التغييب المتعمد للفظ «الديمقراطية» من النص ذي الـ1075 كلمة.
يعزي زابنر هذا التغييب، رغم ادعاء عرَّابيه أن الديمقراطية موجودة في روح النص، إلى الرغبة الصهيونية في عدم الإجابة عن مصير العرب القاطنين في ظل هذه «الدولة». فالدولة اليهودية لليهود فقط، والمؤسسات والآلية الديمقراطية لليهود حصرًا. ومن هنا نستطيع أن نفهم «قانون القومية» و«يهودية الدولة» الذي صدر عام 2018.
شكلت خسارة اليسار الإسرائيلي لانتخابات عام 1977 تحولًا بنيويًا في إطار الكيان وُصف بالزلزال، إذ شكل انتقال الحكم إلى اليمين وفي فترة الثمانينيات تحديدًا إذعانًا ببداية سلسلة من السياسات النيوليبرالية والخصخصة، بشكل ارتد سلبيًا على الكبوستات لتفقد قوتها السياسية إلى جانب ترهل الحركات العمالية، ولتتحول الملكيات الجماعية إلى ملكية أفراد كانوا سابقًا أعضاء في الأُطر ذات الطابع العمالي واليساري.
هذا التحول البنيوي والموازي لسياسات التحرير الاقتصادي المعولمة خلال الثمانينيات أنتج تغيرًا في البنية الاجتماعية والسياسية «الإسرائيلية»، إذ هيمن الطابع الاستهلاكي على المجتمع وأجياله الجديدة، وخصوصًا أن تهديد حروب الجيوش العربية قد انتفى، وأمسى الجيش خلال تلك الحقبة يخوض الحروب والاحتلالات دون الخوف المباشر على ما يطلق عليه «الجبهة الداخلية».
هذا التحول الرديف لذبول اليسار عالميًا مع تفكك الاتحاد السوفييتي وصعود الليبرالية، على شكل عولمة نمط تقسيم الطيف السياسي الأمريكي بين اليمين المحافظ واليسار الليبرالي الديمقراطي، انعكس بدوره على داخل الكيان مع صعود شريحة/طبقة نافرة من الحكم اليميني الإسرائيلي، ومحاولة تبني خطاب وأدبيات الحركات اليسارية المعولمة.
اليسار الجديد: الصهيونية الليبرالية
«ثمة وطنان آخذان في التكوين في إسرائيل: وطن الاسرائيليين ووطن اليهود. أما الإسرائيليون فهم أغيار غرباء يتكلمون اللغة العبرية لا أكثر ولا أقل، وقد أنهكتهم الحروب وسئموا منها، ونسوا الصهيونية، ولم يعرفوا اليهودية يومًا»
- حاخام رئيس مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية.
مواليد الكيان من المستوطنين يعيشون ظرفًا «غير طبيعي» من ناحية نظرتهم إلى أنفسهم والعالم وتفسيرات السردية الصهيونية لقيام هذه الدولة، في أرض يعلمون أنهم أخذوها عنوة وعبر تطهير عرقي لسكانها، ويشهدون يوميًا استمرارية هذا المشروع في طرد وقهر العرب.
وأنهم في أغلبهم يعلمون أنهم إسقاط لأحد المجتمعات الأوروبية، فهو يكبر متعلقًا بوطنه الأوروبي ويتكلم لغته كالروسية والهولندية والأوكرانية في بيئة منزله. وفي الخارج يخضع لعملية «تثقف» (Enculturation) عبر المؤسسات الصهيونية، والتي هي في الأخير عبارة عن امتدادات للبنية العسكرية للجيش، فالجامعات الإسرائيلية على سبيل المثال ليست بِنى أكاديمية «مستقلة»، بل هي مراكز بحثية سواء العلوم والتقنية أم العلوم الإنسانية، وكلها تصب في المجهود الحربي والاستعماري للجيش.
لتوضيح المسألة، إحدى المُحاضِرات في قسم الأنثروبولوجيا بجامعة أمستردام وهي «إسرائيلية»/هولندية، وتعبر عن نفسها كناشطة، وهي مثال فاضح على «الليبرالية الصهيونية» أو اليسار «الإسرائيلي».
تشرح هذه المحاضرة في أحد نصوصها أنها وفي صغرها كانت تعيش في مستوطنة شمال فلسطين، وبجانبها قرية بمبانٍ طينية مدمرة ومهجر أهلها، وحينما كانت في صغرها تمر يوميًا على هذه القرية، كانت تظنها قرية رومانية. وتقول إنها كانت تتخيل أنه قد كان في زمن بعيد رجال ونساء بالأثواب الرومانية والأثينية البيضاء يتجولون ويعيشون في هذه القرية. اسم هذه القرية العربية هو السميرية، وقد هُجر أهلها عام 1948.
تكمل المستوطنة وهي تسرد صدمتها عند اكتشافها أن هذه القرية لعرب هُجر أهلها وقتلوا، أن هذا الاكتشاف هو «نكبتها» الخاصة، وأن هذا الواقع هو «نكبة» جدها وجدتها الهولنديين اللذين «تورطا» في مخالب القومية المسمومة (أي الصهيونية). وتضيف مخاطبةً النكبة الفلسطينية بابتذال مترف: «لا وجود لكِ لدى شعبي، فليس لديك اسم، وفي ذكراك تُرفع الأعلام وتعم الاحتفالات، لكني بذكرك سأبقي ذكراكِ حية».
تشكل هذه المحاضرة امتدادًا لمجاميع اليسار المديني «الإسرائيلي» المتركز في حيفا ويافا (تل أبيب)، والذين يعيشون في معضلة (Dilemma) بين الأدبيات الصهيونية وحقيقة العيش في مستعمرة وضمن مشروع استعماري مستمر.
وعليه، يحاول هؤلاء التوفيق بين الأمرين، يحاولون الاندماج في الظواهر الليبرالية والحملات اليسارية المعولمة والعابرة للحدود مثل «Me Too» و«حياة السود مهمة» وحملة «بيرني ساندرز»، بل وحتى النضال الفلسطيني نفسه، بيد أنهم يصطدمون بواقع أنك آخر من يتحدث، فأنت ابن آخر المشاريع الاستيطانية الإحلالية على وجه الكوكب، وأكثرها عنصرية ويمينية.
مهرب حل الدولتين
يتشدقون بحل الدولتين كوسيلة للولوج إلى النشاطات اليسارية المعولمة من جهة، والأخرى في ما يرونه حلًا لمعضلتهم الوجودية.
بالرجوع إلى كتاب حاييم زابنر، فهو يتحدث عن هذه الحالة وصعود الصهيونية الليبرالية، وكيف أن مهرب هؤلاء من الاصطدام بهذا الواقع هو تحولهم إلى ما يطلق عليه «مريدي حل الدولتين» أو بتعبيره «Two Staters».
يفصِّل زابنر منطلقاتهم وتناقضهم النفسي والداخلي الذي يدفعهم إلى تبني خيار «حل الدولتين»، فهم هنا يتشدقون بهذا الحل كوسيلة للولوج إلى النشاطات اليسارية المعولمة من جهة، والأخرى في ما يرونه حلًا لمعضلتهم الوجودية.
بمعنى أن حل «العبء» التاريخي لكونك وليد مجتمع استعماري هو القفز عن واقع استمرارية المشروع الاستيطاني-الكولونيالي، وتبني معالجة توفيقية بين وجودك على هذه الأرض ضمن إطار الأراضي المحتلة عام 48 والإسهام في النضال ضد «الأبارتايد» والفصل العنصري فيها، والدعوات لإنهاء احتلال باقي الأرض العربية الفلسطينية. بكلام آخر، تقنين الصهيونية. أو بالرجوع إلى اقتباس الحاخام أعلاه، فهم «إسرائيليون» سئموا الحروب وأنهكتهم.
كمشروع استعماري استيطاني، يصير لتقسيمات اليسار واليمين خصوصية مرتبطة بأن معدن البنية السياسية لهذا المشروع يميني الجوهر وقائم على التهجير والاحتلال والعنصرية. فلا يمكن الحديث عن يسار متصل بذات حزم المعاني من عدالة اجتماعية ومساواة تعم الجميع. الأيديولوجية الصهيونية سواء بأبعادها العلمانية اليمنية أو العمالية أو مضامينها الدينية التوراتية، كلها منابع تصب في ذات المصب وهو إقامة كيان ودولة لمستوطنين على أرض عربية.
وعليه، تكون المحاولات الحثيثة من ناشطين صهاينة وكذلك عرب بالفصل بين الصهيوني و«الإسرائيلي» الذي يتبنى خطابًا يساريًا داعيًا للديمقراطية وحقوق الإنسان مغالطة منطقية، فـ«إسرائيل» ليست دولة وفيها أيديولوجيا منفصلة، بل هي دولة نتيجة لأيديولوجيا. بمعنى أن انتفاء الأيديولوجيا الصهيونية يقتضي حكمًا انتفاء هذه الدولة.
وبناء على ذلك، تنتفي صفة الصهيونية عن المستوطن عندما يرحل عن أرضنا دونما رجعة، وليعود كي يكون جزءًا من إحدى الأمم الأوروبية. وتنتفي الصهيونية بذاتها عبر تفكيك مؤسساتها والبنية المادية التي تحتويها، أو بتعبير حاييم زابنر: اجتثاث الصهيونية (De-Zionizing). أي إن انهاء هذا الوجود المادي يقتضي، إلى جانب أهمية الجانب الثقافي، جهدًا ماديًا، أي تفكيك قلب هذه الأيديولوجيا وهو الجيش الصهيوني، وهذا لا يكون إلا بالمقاومة.