في الثاني من أغسطس عام 1990، قرر الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين احتلال دولة الكويت.
هنا لن نتطرق إلى تحليل الأزمة السياسية والاقتصادية التي أوصلت البلدين إلى هذا الحد غير المسبوق، فقبل الحرب لم يكن الشعبان يتبادلان إلا المودة في العلاقات بينهما، وشهدت العقود السابقة للغزو تبادلًا ثقافيًّا مهمًّا بينهما، وكثير من العوائل كانت تربطها علاقات نسب، فما الذي صار؟
الأصول العراقية: فخر تحول إلى خجل
تعتبر الكويت «بلد مهاجرين»، إذ تأسست على يد قبائل وعوائل هاجرت إليها من أقطار عدة، وبالطبع كان من بينهم مَن هم مِن أصول عراقية استوطنوا الكويت منذ بداية تأسيسها، ومنذ ذلك الوقت وحتى حدوث الاحتلال كان الكويتي يفخر بانتسابه إلى سلالة ذات أصول عراقية.
على الجانب العراقي، كانت الثقافة البصراوية (من البصرة) قريبة للغاية من الثقافة الكويتية، ولا يُنسى أبدًا ما شهدته الفترة التي سبقت عام 1990 من تبادل ثقافي وفني بجميع مجالاته التشكيلية والمسرحية والتليفزيونية والغنائية وغيرها، نابعًا من تقارب شعبين انعكس على الفن «مرآة الشعوب».
شهدت ثمانينيات القرن العشرين أَوْجَ الفخر الذي كان يكنه كثير من الكويتيين للحرب التي شنها العراق برئاسة صدام حسين على إيران، وحينها لقَّبه الكويتيون «حامي البوابة الشرقية»، ورفعوا صوره في عديد من منازلهم كقائد مغوار.
اقرأ أيضًا: ما الذي يحدد تعاطف العرب السياسي؟
كل هذا توقف عند نقطة الثاني من أغسطس 1990، فبعد استيعاب الصدمة وحقيقة الاحتلال، شعر الكويتيون بكراهية شديدة تجاه بلد بأكمله لا صدام وحده. كان الجرح مفتوقًا بسبب ما شهدته الدولة من قتل وتعذيب واغتصاب ونهب وسرقات من جانب المحتل، شعر كثيرون ممَّن ينتسبون إلى أصول عراقية بالخجل من ذكر ذلك، بعضهم كان يغير لكنته، وآخرون كذَّبوا كون أصولهم عراقية ونسبوا أنفسهم إلى غيرها.
الفن الكويتي يتأثر بالاحتلال
بعد تحرير الكويت عام 1991 كان الشرخ بين الشعبين قد صار كبيرًا، وكان تعميقه ممنهجًا كرد فعل لما حدث، فالطلاب في المدارس طُلب منهم تغطية صور العلم العراقي في كتبهم، ومن هنا بدأ جيل ترى الدولة أنه يجب أن يتعلم عدم وجود هذا البلد على الخريطة، أن يُنسَف وجوده.
شبَّهت الأعمال الفنية الكويتية الرجل العراقي بالهمجي الذي يأكل «كريم نيڤيا» معتقدًا أنه قشدة، والمرأة العراقية بالراقصة.
أنتج المسرح الكويتي عشرات المسرحيات منذ التحرير حتى وقت قريب يسخر فيها من العراقيين، بعضها يتمحور حول الغزو مثل مسرحية «سيف العرب» الشهيرة، التي تتناول شخصية صدام حسين مؤديًا دوره الفنان عبد الحسين عبد الرضا، وسلسلة مسرحيات «مخروش طاح بكروش» بطولة طارق العلي وأحمد جوهر وولد الديرة (خالد العقروقة)، التي تناولت فترة الاحتلال ثم فترة التعويضات في جزئها الثاني «طاح مخروش»، وفترة القبض على صدام حسين في «نهاية مخروش»، وهي آخر السلسلة.
كذلك، تناولت عدة مسرحيات موضوع الاحتلال مثل «عاصفة الصحراء» بطولة عبد العزيز المسلم ومريم الغضبان وطارق العلي وإبراهيم الصلال، ومسرحيات أخرى كلها تتناول ذات المواضيع وذات الإفيهات، تسخر من «همجية العراقيين» وتعليمهم «المتدني»، وبعضها لم تتمحور قصته حول الحدث، لكنها لم تخلُ من ازدراء وألفاظ تسيء إلى لعراقيين وتسخر منهم.
ربطت هذه الأعمال في أذهان الأجيال صورة العراقي بالرجل الهمجي القادم من الكهوف الذي يأكل «كريم نيڤيا» معتقدًا أنه قيمر (قشدة)، والمرأة العراقية بالراقصة، أو «الماجدة» كما دَرَج صدام على تلقيبها، رغم كل ما يحمله العراق من علم وثقافة وفن وحضارة عريقة.
ربما كان ذلك لأن مَن ساعد المحتل على أرض الكويت كان من البسطاء، أو ربما لأن الكوميديا عملية كاريكاتيرية تبالغ في تصوير الواقع وتضخمه.
وبغض النظر عن الجودة الفنية لهذه المسرحيات ومدى رواجها، واعتبار بعضها من أهم الإنتاجات المسرحية الكويتية، فإنها لم تكن سوى رد فعل واستخدام للفن كأداة لتفريغ الغضب الشعبي، بالإضافة إلى تكريس صورة الخير والشر في المُخَيَّلة الجمعية.
استمرار مثل هذا التنفيس وإعادة تدوير الكراهية ربما يكون بسبب عمق الجرح الذي خلَّفه الاحتلال، الذي استمر ألمه بسبب وجود أسرى من الكويت في الأراضي العراقية، لم يُكتشف موتهم سوى بعد سقوط نظام صدام في عام 2003.
قد يعجبك أيضًا: ما مشكلة الوافدين في الكويت؟
الكويت: أجيال تشبعت بالعنصرية
تشبَّع العقل الجمعي الكويتي بعدم وجود العراق إلا في خانة العدو المتربص.
تكمُن المشكلة في أجيال تربت على هذه الأعمال، إذ زال الغضب وظلت العنصرية تجاه شعب هو أيضًا ضحية طغيان، كبر جيل الثمانينيات والتسعينيات من الكويتيين على اعتبار كلمة «عراقي» سبابًا.
المثقفون كذلك لم ينجوا من الهياج العاطفي، فتقول الأديبة ليلى العثمان إن رابطة الأدباء كانت قد خصصت يومًا للدوس بالأقدام على العلم العراقي، وإنها رفضت ذلك باعتبارها لا تحمِّل العراق بأكمله مسؤولية ما حصل.
لم يكن متوقعًا على أي حال من الجماهير أن تتعامل مع مشاعرها بعقلانية تفصل فيها بين الطاغية وضحاياه، وبين رد الفعل والعنصرية، لكن العمل الممنهج من الدولة ممثلةً في وزارة الإعلام كان مثيرًا للحيرة.
كانت الدولة تريد نزع ذاكرة المواطن وتغييرها، ليعتقد في مُخَيَّلته أن العراقي كان دائمًا العدو ولم يكن هناك أي ود بين الشعبين، في عملية تعزيز للكراهية وتلاعب بالذاكرة الجمعية، وهي المعضلة الأكبر هنا: كيف تم التلاعب بهذه الذاكرة بحيث صار العراقي عدوًّا منذ الأزل؟ أَوَليس هذا شبيهًا بما ذكره الكاتب الإنجليزي الشهير «جورج أورويل» في روايته الشهيرة «1984»؟
قُطعت مشاهد مهمة من أعمال فنية كويتية لأنها تتطرق إلى العراق بصورة طيبة أو حتى بشكل عابر، ومع قلة الفضائيات التي لم تنتشر سوى في نهاية التسعينيات، تشبَّع العقل الجمعي بعدم وجود العراق إلا في خانة العدو المتربص. على سبيل المثال، في أوبريت «بساط الفقر» بطولة سعاد عبد الله وعبد الحسين عبد الرضا، الذي يزوران فيه عدة دول في العالم، يُقتطَع المشهد الذي يؤديان فيه دور مغنيين عراقيين، وبالطريقة ذاتها حُذفت أجزاء من أعمال فنية كويتية ذُكر فيها العراق أو العراقيين بشكل غير ساخر أو مهاجم.
خسر الفن الكويتي من عملية القص واللصق التي حصلت في تلك الفترة، وخسر العقل الجمعي أيضًا حين مورست عليه ألاعيب، فصار الكويتي يعتقد أن العراقي كان دائمًا عدوًّا، ولم يكن يومًا صديقًا أو جارًا أو فنانًا يُعجب به، أو جزءًا من المكون الاجتماعي، أو حتى إنسانًا عاديًّا يمارس حياته الطبيعية مثله، صار يرى في العراقي وجهًا عسكريًّا مكفهرًّا يحمل سلاحًا فقط.
قد يهمك أيضًا: السينما الكويتية تكافح ضد محاذير الرقابة
الكويت والعراق: كراهية رغم عودة العلاقات
اليوم، ومع عودة العلاقات بين البلدين بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، والتمثيل الدبلوماسي والفني والثقافي الذي يتبادله البلدان على استحياء شديد وخجل لا نعرف سببه، عاد الغناء العراقي إلى الاحتفالات الثقافية، وأقيمت معارض تشكيلية كويتية في البصرة، وظهرت المشاهد المقتطعة من الأعمال التليفزيونية والمسرحية مجددًا، وأصبح الممنوع مسموحًا به، لكن المشكلة أن هنالك أجيال كبرت على الكراهية، ونشأت على عدم أَنْسَنَة العراقي، وباتت لا تعرف شيئًا عن جارها القريب رغم الموروث المشترك.
تقول كاتبة كويتية: أشعر أني خُدعت، مُسِخَتْ ذاكرتي، صودر حقي في أن أعرف العراق.
اللافت أن جيلًا من الكُتَّاب الشباب بدأ يتمرد على هذا الواقع، ففي روايته الأخيرة «فئران أمي حصة»، يكتب الروائي الكويتي الشاب سعود السنعوسي الحاصل على جائزة البوكر العربية عن التحول في العلاقات بين الشعبين قبل الاحتلال وبعده.
وفي الاتجاه ذاته، كتبت بثينة العيسى، الروائية الكويتية الحاصلة على جائزتي دولة تقديرية، في مقال لها:
«تحول العراق كله إلى وجه صدام حسين، وجه الطاغية مرتكب المجازر. عراق الجَمال والحضارة تم تغييبه تحت طبقات سميكة من ملامح الديكتاتور، مضت 23 عامًا (27 الآن) وأشعر بالقهر من كل الأشياء الجميلة التي لم تحدث».
«أشعر بالقهر لأننا لا نزور بغداد كما نزور بيروت ودبي والقاهرة، أشعر بالقهر من كل الاحتمالات الباهية التي سرقها الأوغاد من السَّاسة، وأشعر بأنه قد تمت خديعتي تقريبًا، مُسختْ ذاكرتي، صودر حقي في أن أعرف العراق، لا عراق صدام حسين ولا عراق أمريكا، بل عراق السيَّاب التي قال عنها: الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق، أعيدوها لنا، هذه العراق التي لم نعرفها، أعيدوها».
يمثل السنعوسي والعيسى توجهًا شبابيًّا يسعى إلى بناء الجسور، ويرفض تكريس الكراهية والعنصرية نحو شعب كان أيضًا ضحية ظلم ومعاناة من نفس الطغيان. هذا هو الفكر المطلوب، الفكر المستنير الذي يعرف جيدًا أن الكراهية لا تبني أوطانًا، وأنه لن تقوم قائمة لأمة على العنصرية، وأن الشعوب ليست السَّاسة الطغاة، وأن المشترك الإنساني بينهم يجب أن يكون بمعزل عمَّا تقترفه أيدي السياسيين.