مع الهدوء النسبي للأوضاع وانخفاض معدل الانفجارات في العراق، بدأ بعض اليهود العراقيين المقيمين في بريطانيا وإسرائيل بالعودة إلى العراق. ويبدو أن العراق مستعد لاستقبالهم، فقد رحَّب الزعيم العراقي الشيعي مقتدى الصدر بعودة يهود العراق إلى البلاد بشرط أن يكون ولاؤهم للعراق، على حد تعبيره.
وكان مقتدى الصدر قد رحَّب قبل بضع سنوات بعودة اليهود الذين يفضِّلون العراق على إسرائيل، موضحًا أنه لا فرق في الوطنية بينهم وبين المسلمين و المسيحيين.
يبلغ عدد اليهود المنحدرين من أصل عراقي، والمقيمين في إسرائيل، نحو 450 ألفًا، منهم شخصيات بارزة، مثل الحاخام الأكبر «عوفاديا يوسف»، زعيم اليهود السفارديم، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق «دان حالوتس»، و«بنيامين بن إليعازر» وزير الدفاع السابق.
ويستعرض مقال نُشِرَ على موقع «هآرتس»، رغبات بعض اليهود العراقيين في العودة إلى العراق لالتقاط خيوط الماضي وتعزيز الصلات مع البلد الذي ولدوا فيه ونشأوا.
«شكر» يشتري بيتًا في العراق
يعد شراء بيت في العراق أمرًا غريبًا، لكنه يعكس اتجاهًا بين اليهود في السنوات الأخيرة، وبخاصة الذين استقروا في إسرائيل أو بريطانيا.
رأى «إدوين شكر»، وهو يهودي عراقي مقيم في لندن، هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، أواخر 2017، نبأ سعيدًا يعيد إليه آمال العودة إلى العراق الذي غادره منذ 45 عامًا. وقد بدأ شكر في اتخاذ خطوات العودة منذ عامين حين اشترى بيتًا في شمال العراق ليصبح أول يهودي يشتري منزلًا عراقيًّا منذ عقود طويلة.
يقول «شكر» (62 عامًا) إنه يعرف يهودًا آخرين من أصول عراقية زاروا البلاد في السنوات الأخيرة، غير أنه لا يظن أن «مجنونًا آخر» غيره اشترى بيتًا في العراق ليستقر فيه يومًا.
«كان قرار الشراء فعلًا رمزيًّا حوَّلني من مجرد سائح إلى رجل يريد الاستقرار في العراق» .
يعد شراء بيت في العراق أمرًا غريبًا، لكنه يعكس اتجاهًا بين اليهود في السنوات الأخيرة، وبخاصة أولئك الذين غادروا العراق واستقروا في إسرائيل أو بريطانيا. بدأ التفكير في العودة عام 2003، في أعقاب عزل صدام حسين، وتجدد التفكير ثانية في عام 2017 مع انخفاض معدل الانفجارات التي تحدث في العراق، حسبما يورد المقال.
في ديسمبر 2016، في «يوم العراق»، وهو معرض ثقافي نظمه الطلاب العراقيون في الكلية الإمبريالية بلندن، اندهش أعضاء الجالية اليهودية في لندن لتلقيهم دعوات لعرض كتبهم عن تاريخ اليهود العراقيين.
يقول «ديفيد دنغور»، يهودي مقيم في لندن، إن الكشك العراقي كان الأكثر شعبية في المعرض، وبيعت من خلاله كثير من الكتب. ولد «دنغور» في العراق عام 1948، وتركها وهو في العاشرة. يضيف «دنغور» أن السفير العراقي لم يشعر بالحرج لكون الكتب المعروضة مطبوعة في إسرائيل.
روائية يهودية تبحث عن الأصول
تقول الروائية «تسيونيت فتّال» عن كيفية رؤية العراقيين لها، «يرونني ابنة لوالدين عراقيين تفتقد وطنها. بالنسبة إليهم أنا عضو في الأمة العراقية».
أما الروائية «تسيونيت فتّال» التي هاجر والداها من العراق إلى إسرائيل، فلم تتخيل أن روايتها الأولى التي يمكن ترجمة اسمها إلى «الصور المعلقة على الحائط» التي تحكي عن اليهود في العراق في القرن الماضي، ستصبح من الروايات الأكثر مبيعًا في العراق. تُرجِمَت الرواية من العبرية إلى العربية في 2017 لتصبح أول كتاب إسرائيلي يُنشَر في العراق.
تقول «فتال»: «حين كتبت الرواية كنت أريد أن أتصل مع جذوري العراقيه-اليهودية، لم يخطر ببالي أن مسلمين في العراق سيقرؤونها أيضًا». ولكن في عصر وسائل التواصل الاجتماعية سمع المثقفون والكُتَّاب والصحفيون العراقيون عن الرواية حتى قبل أن تُتَرجَم، وبدأوا يناقشونها على فيسبوك، وفي الجرائد والجامعات.
وعن كيفية رؤية العراقيين لها، تقول «فتال»: «يرونني ابنة لوالدين عراقيين تفتقد وطنها الأول. بالنسبة إليهم أنا عضو في الأمة العراقية، ويرون فيَّ دليلًا على أن عراق الأمس الذي يفتقدونه، لم يختفِ أو يُنسَ».
تقول «فتال» إنها شعرت أن «التابو» المرتبط بالعلاقات بين الإسرائيليين والعراقيين بدأ ينكسر.
«نحن نتحدث على فيسبوك بشكل مفتوح، وبصورة يومية»، وتضيف أن أصدقاءها العراقيين يقولون لها إن العراق أظلم بعد أن أُجبِرَ اليهود على مغادرتها، وأنهم يريدون أن يصوبوا الوضع بإعادة اليهود إلى العراق.
أما الروابط بين الباحثين في العراق واليهود العراقيين في إسرائيل، فقد وضع أساسها «شمونيل موريه» الذي ولد في بغداد، وحصل على جائزة إسرائيل في دراسات الشرق الأوسط، وتوفي في 2017. وكشف المديح الذي نُشِر في العراق عقب وفاته عن الاشتياق إلى استعادة العلاقات.
تقول «فتال»: «لقد رثوه، وعبَّروا عن أسفهم لفقدان العراق أشخاصًا بارعين مثله، ولأنه لم تتح له فرصة رؤية بغداد مجددًا».
قد يهمك أيضًا: التفاصيل المثيرة لحكاية اليهود مع الرومان
تاريخ من الازدهار والخوف
لا ينسى أحد مأساة مذبحة «الفرهود»، ولكن «شكر» الذي عاش مع أسرته في العراق يتذكر الوقت الذي عاش فيه العرب واليهود في سلام.
كان المجتمع اليهودي في العراق واحدًا من أقدم المجتمعات اليهودية في العالم، وفي ذروته، في وسط القرن الماضي، بلغ عدد أعضائه 150 ألف شخص. ويمتزج الاضطهاد والخوف مع الازدهار الاقتصادي والسياسي والثقافي في تاريخ اليهود في العراق.
في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما انتهى الانتداب البريطاني وحصل العراق على استقلاله، أصبح اليهود مهددين. وتمثلت أسوأ اللحظات تاريخيًّا لليهود العراقيين في مذبحة «الفرهود» عنف ونهب نشبت عام 1941 في بغداد، واستهدفت اليهود خلال احتفالهم بعيد الشفوعوت اليهودي، وقُتِل فيها العشرات أو المئات من اليهود)، وإعدام رجل الأعمال شفيق عدس في عام 1948 بعد اتهامه ببيع أسلحة لإسرائيل. في عام 1951، هاجر معظم اليهود العراقيون إلى إسرائيل، وتبعهم من تبقوا في العقود اللاحقة. واليوم لا يعيش في العراق سوى القليل من اليهود.
«يصعب تقبل حقيقة أننا رحلنا، أننا مشينا إلى الأبد». هذا ما يقوله «شكر» الذي عاش مع أسرته في العراق حتى عام 1971. «أشعر أنني مسؤول عن الحفاظ على الروابط اليهودية بهذا البلد لأن حكايتنا هناك لم تنتهِ بعد».
ذهب «شكر» إلى العراق قبل عامين، وزار المنزل الذي ترعرع فيه، وأحد معابد بغداد اليهودية التي رُمِّمَت وجددت، ولكنه كان خاليًا من الزوار.
رغم أن أحدًا لا ينسى مأساة «الفرهود»، فإن «شكر» يفضل أن يتذكر العراق الذي عاش فيه العرب واليهود في سلام. وهو يبحث عن شركاء يستعيد معهم العلاقات. ويقول «شكر» إنه يرى تغييرًا كبيرًا في موقف العراقيين تجاه اليهود.
«إنهم يشعرون أنهم فقدوا مجتمعًا قيمًا، ويعترفون بأن اليهود شكلوا جزءًا مهمًّا من المجتمع هناك».
قد يعجبك أيضًا: شتات جميل واستقرار مأساوي: «دبدو» تفتقد يهودها
بعضهم يشعر بالحنين، وآخرون لا يريد العودة
كثير من اليهود العراقيين لديهم ذكريات جيدة عن الحياة هناك، ولم تذبل حتى بعد مذبحة الفرهود.
في ديسمبر 2017، عُرِضَ فيلم وثائقي بعنوان «تذكروا بغداد» في لندن، وحكى قصة العراق من وجهة نظر اليهود الذين عاشوا هناك نحو 2600 عامًا في الذكرى المئة لغزو بريطانيا للدولة العثمانية.
يلقي الفيلم الضوء على جودة حياة اليهود في العراق قبل أن يُطردوا منها أو يفروا هربًا. يُظهر الفيلم نزهات على نهر دجلة، وحفلات ملكية، والثراء المادي والثقافي الذي تميز به المجتمع اليهودي في أوج أيامه في العراق.
يفتقد «دنغور» العراق مثل «شكر»، ويتذكر فيلته على نهر دجلة حيث نشأ. كان والده يمتلك توكيل شركة «كوكاكولا» في العراق، واختيرت أمه ملكة جمال بغداد في عام 1947. وما زالت صور أمه تظهر على المواقع العراقية تعبيرًا عن الحنين إلى الماضي. يقول «دنغور»: «ما زال العراق في دمنا وعظامنا».
حضر وفد من السفارة العراقية في لندن العرض الأول للفيلم، وعبَّروا عن تطلعهم إلى اليوم الذي يستطيع فيه اليهود العراقيون زيارة العراق.
وقد بدأ «دنغور» في تطبيع العلاقات مع العراق، ففي أثناء إقامته في لندن صوَّت في الانتخابات البرلمانية العراقية. ويقول إن يهودًا عراقيين آخرين قدموا أوراقهم للحصول على جوازات سفر، وإن كان دون جدوى حتى الآن.
يقول «دنغور»: «كثير من اليهود العراقيين لديهم ذكريات جيدة ودافئة عن الحياة هناك، وهي لم تذبل حتى بعد الفرهود. كثير منهم يتواصلون مع الثقافة والموسيقى والأدب العراقي».
العودة ليست حلم الجميع
أما الروائي الإسرائيلي «إيلي عمير» الذي تحظى كتبه بشعبية في العراق الذي ولد فيه، فلا يحلم بالعودة.
يعترف «عمير» بأن سماعه اسم العراق في الأخبار يمس وترًا، لكنه يؤكد أنه يتذكر كذلك كيف أُخرج اليهود منه كما لو كانوا لاجئين: «لا أفكر، ولو للحظة، في العودة هناك، لا قدَّر الله. انتهى الأمر، وليس لدينا ما نعود لأجله». ويضيف: «لهذا أفضِّل هويتي اليهودية الإسرائيلية».