ضجت وسائل الإعلام في الأيام الفائتة بتغطيات وتحليلات العملية الانتخابية في العراق، في الوقت الذي نشهد فيه تراجعًا في أعداد الناخبين العراقيين مقارنة بدورات انتخابية سابقة. أما الناخبون فقد قاطعوا الانتخابات إيمانًا بعقم النظام السياسي وعدم قدرته على إحداث التغيير الذي يتمناه ويستحقه العراقيون، فهل تنجح نتائج الانتخابات في تحقيق التغيير المنشود في النظام السياسي؟
التحول العراقي
في الشرق الأوسط الذي اعتاد الانقلابات والتحولات الجذرية المفاجئة، يصعب أن تُحدث عملية سياسية التغيير المطلوب، لأن العملية السياسية بطبيعتها تغيير من داخل النظام السياسي لا من خارجه، وتُحدث رتوشًا من التعديلات على القوانين المختلفة دون هز البناء السياسي من جذوره. وإذا كانت الراديكالية المستمرة هي الأخرى ليست مثمرة لما تمنع من تراكم سياسي عبر الدخول في التفاصيل التي يتطلبها المجتمع والاقتصاد، فإن النظام السياسي الذي استقر عليه العراق في العقدين السابقين أكثر تحجيمًا وتصغيرًا لهذا البلد من الدور الذي يقدر على لعبه في المنطقة.
بعد الغزو الأمريكي للعراق وانهيار البعث ومؤسساته، وتزامن ذلك مع مصلحة الاحتلال ببناء حكم جديد ودولة جديدة، لم ينجح هذا التحول في إزالة كل أثار الحكم السابق، فلا تزال الدول التي دخل العراق في حروب معها لا تطمئن له بشكل كامل، وقد تراه مصدرًا لتهديد محتمل إن تحسنت أحواله، ولا يزال الشعب العراقي يدور في دوامة العنف المستمرة، التي تبلغ الذروة بين الحين والآخر كما في الاقتتال الطائفي 2007-2008، وفي الحرب ضد تنظيم داعش والانتهاكات المصاحبة لتلك الفترة من مختلف أطراف القتال.
الحروب الداخلية والخارجية ومتطلبات إعادة الإعمار، وآثار العنف، والتراكمات الأخرى التي خلقها البعث، هي أكثر جذرية من أن تستطيع العملية السياسية الحالية ونتائجها أن تزيلها أو أن تعالجها بالمستوى المطلوب. فمثلًا، لم يتمكن النظام السياسي الحالي من إعادة توازن القوى مع إيران بشكل متكافئ، كما لم ينجح بعد في إعادة بناء العلاقات مع الكويت كما كانت قبل تدهورها في 1990، فضلًا عن إعادة إعمار العراق داخليًا، مجتمعيًا واقتصاديًا، فالعراق لم يلتقط أنفاسه منذ 2003.
عراق اليوم
أما في عراق اليوم، فإن النخب السياسية والأحزاب التي تجمع وتقسم هذه النخب هي نفسها لم تتغير منذ 2003، وإن تبدلت بعض الوجوه والأدوار مع نتيجة هذه الانتخابات أو غيرها من الانتخابات السابقة واللاحقة.
قرار المشاركة في الانتخابات قد يقسم الفئات التي تظاهرت بين من يخوض الانتخابات ويشارك في العملية السياسية، ومن يفضل نسف هذا النظام على المشاركة كجزء منه.
نشرت رويترز النتائج التي أعلنتها سابقًا المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والتي أظهرت تقدمًا كاسحًا لثلاثة قوى، هي التيار الصدري، ثم كتلة «تقدم» التي يقودها رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، ثم كتلة دولة القانون التي يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
وذلك على حساب تراجع مقاعد ائتلاف الفتح الذي تقوده منظمة بدر متمثلة في هادي العامري، والمتمثل في أحزاب شيعية تصنف على أنها أكثر قربًا من إيران أو من يسمون «الولائيين» عرفًا، كالمجلس الأعلى الإسلامي العراقي الذي يقوده عمار الحكيم، وحركة الجهاد والبناء (حركة حزب الله في العراق)، وغيرها من القوى التي شاركت كفصائل في الحشد الشعبي، ثم اتُّهمت خلال المظاهرات الأخيرة في العراق باغتيالها للناشطين وقمعها للمتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع تحت شعارات الاحتجاج على الفساد والتدخلات الإيرانية في العراق.
أما التمثيل الكردي فقد حصد المزيد من المقاعد عبر الكتل الرئيسية كالحزب الديمقراطي الكردستاني والتحالف الكردستاني (المكون من مختلف الأحزاب الكردية)، لكنهما جاءا بعد كتلة دولة القانون من حيث عدد المقاعد.
ولعل التغير المهم هو تشكل تمثيل سياسي في البرلمان للمتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع احتجاجًا، أو من يصطلح عليهم بـ«شباب تشرين»، فنجاح المرشحين الممثلين لحركة الاحتجاج يضعهم أمام تحدي القدرة على تحقيق مطالب الشارع، عبر نظام سياسي يمتلئ بالفساد والتعقيدات التي تحول دون توفير الخدمات المطلوبة للمواطن، فهم الآن جزء من عملية سياسية احتجوا على أن الأحزاب التي تخوضها لا تقدر على تلبية المطالب الشعبية، فضلًا عن أن قرار المشاركة في الانتخابات قد يقسم الفئات التي تظاهرت بين من يخوض الانتخابات ويشارك في العملية السياسية، ومن يفضل نسف هذا النظام على المشاركة كجزء منه.
التيار الصدري
كاريزما مقتدى الصدر بين أتباعه وشعبويته لا تعني أنه الموعود الذي يملأ العراق عدلًا بعدما مُلأ جورًا وظلمًا، فالرجل أجاد دائمًا إبعاد شخصه عن العملية السياسية وتهم الفساد، لكنه كان جزءًا من العملية السياسية منذ 2003، وحتى تصريحاته بضرورة حصر السلاح في يد الدولة لم تكن منطلقة من مبادئ سامية بقدر ما كانت نكاية في أحزاب أخرى أو خطابًا شعبويًا يستقطب العوام، فالتيار الصدري له أذرع عسكرية لا ذراع واحدة، وله دائمًا ممثلون في البرلمان والحكومة، وكان جزءًا من الصفقات السياسية منذ 2003.
فضلًا عن أن الصدر ليس رجل دولة أو اقتصاد بقدر ما هو وجيه وابن لمرجع ديني له أتباعه. ولعله لو لم يُغتال أخواه مؤمل ومصطفى لما آلت الزعامة إليه، بل كان مساعدًا لأحد أخويه الذين كانا أكبر سنًا وأكثر تأهيلًا لوراثة الزعامة، وهذه من المشاكل الجذرية الأكثر عمقًا من العملية السياسية، فالمجتمع العراقي ككل مجتمعاتنا العربية له نزعات عشائرية وقبلية، وتُورّث الزعامات فيه بما في ذلك الزعامات الدينية، فلا أتصور أن مقتدى الصدر كان سيكون قائدًا للتيار لو لم يكن ابن محمد الصدر.
كان التيار الصدري جزءًا من الائتلاف الوطني العراقي والتحالفات الأكبر في الانتخابات، فهو ليس غريبًا عن الساحة السياسية في العراق أو جديدًا عليها. ورغم دعوى وشعارات الاستقلال عن التأثير الإيراني، فإن حجم الخلاف أو البعد عن هذا التأثير لن يصل إلى درجة خلق قوى جديدة لا علاقة لها بالنفوذ الإيراني في العراق، أو معارضة لها بما يتعارض مع مصالحها بشكل كامل، بل لا يعدو كونه خلافًا داخل دائرة الأحزاب الشيعية العراقية، الخلاف الذي يخدم أحيانًا التعددية وإبقاء المخالفين داخل دائرة المصالح هذه بشكل يقلل الرغبة في الانشقاق عنها.
أثر النتيجة على دول الخليج
انقطع العراق عن الخليج منذ الفصول الأخيرة في زمن البعث. وكما تدهور العراق في العديد من المناحي، فقد تدهورت علاقاته الدبلوماسية، خصوصًا مع بعض جيرانه كدول الخليج. ولا تزال هذه العلاقات أقل من المستوى المأمول والمتوقع، وذلك جزء من عجز النظام السياسي العراقي عن البناء والإنجاز (حتى في العلاقات الخارجية).
لا يُتوقع الكثير من التغيير خلال السنوات القادمة، لكن جزءًا من التغيير التدريجي والتراكمي قد يحدث مع تحسن العلاقات الإيرانية السعودية، والتي لعب العراق دور الوسيط فيها، فاستمرار هذا التحسن قد يقوي من دور العراق «الجديد» كوسيط في المنطقة، فضلًا عن أن التحسن قد يأتي على شكل مبادرة من الطرف الآخر على خط العلاقات لا من العراق.
فمع تنامي دور الإمارات في المنطقة على مختلف الأصعدة، قد تبادر الإمارات لفتح خطوط تواصل مع العراق، الذي سيجد نفسه أمام فرصة ما هنا أو هناك. الإمارات تحوي جالية عراقية كبيرة هي الأكبر في الخليج والثالثة عربيًا، وذلك ما اتضح من المشاركة في الانتخابات، كما أظهرت أعداد الناخبين العراقيين الذين صوتوا من محل إقامتهم في الإمارات.
ربما تتحسن الظروف العراقية عبر جرها نحو التنمية من قبل الطرف الآخر على العلاقة، ولكن تبقى عقدة تضارب النخب والدول الإقليمية وتصارعها على الساحة العراقية. فمثلًا يصعب تناغم النخب العراقية من «الولائيين» والمصنفة ضمن نطاق النفوذ الإيراني على التوافق مع الدول الخصيمة لإيران كالسعودية والإمارات، كما لن تعمل الدول الخصيمة لإيران في المنطقة على توفير ظروف تحسن من الحالة العراقية دون فرض شروط سياسية.
العزوف عن التصويت في الانتخابات يتحدث عن حجم طموح المواطن العراقي وحجم رغباته وتوقعاته من النظام السياسي، لكنه يعكس أيضًا رفض مراكمة الإصلاحات الصغيرة (micro-change) التي يمكن أن ينجزها أي نظام سياسي قادر على إصلاح نفسه بنفسه من الفساد، وتنفيذ هذا الإنجاز تدريجيًا عبر تجنب الانزلاق إلى العنف داخليًا وخارجيًا، فبيئة اللاعنف للدول والمجتمعات قادرة أحيانًا على الإصلاح الحضاري بنفسها دون توجيه.