في فبراير 2018، اندلعت اشتباكات عنيفة بين الصوفيين المعروفين بـ«الدراويش الغُناباديون» في إيران وقوات الشرطة. تورط الدراويش خلال الاشتباكات في قتل خمسة من عناصر الأمن، ودهس شرطي تحت عجلات حافلة يقودها أحد المتظاهرين.
كانت مجموعة من الدراويش قد اجتمعت أمام منزل أكبر قادتهم «نور علي تابنده»، شمالي طهران، لمنع الشرطة من اعتقاله، لكن سرعان ما تطورت الأمور إلى أعنف مواجهة في تاريخ الدراويش الداعين إلى السلام والتسامح.
لكن من هم الغناباديون؟ ولماذا يمتلئ تاريخهم بوقائع صدام مع النظام الإيراني؟
الغناباديون: «دعاة سلام.. ولا نهتم بالحكومة»
رغم إعلان الغناباديين دائمًا أنهم ضد التدخل في السياسة، فإن زعيمهم الحالي «نور علي تابنده» انشغل بالعمل السياسي فترات طويلة.
عاش نعمة الله والي، أستاذ الفلسفة الإيراني، بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وأسس الصوفية الغنابادية، أكبر الفِرَق الصوفية في إيران وأهمها، وأطلق عليهم الاسم نسبةً إلى مدينة غناباد في محافظة خراسان، مسقط رأس سلطان علي شاه، أكبر الأقطاب الصوفية الإيرانية.
«نؤمن بالسلام والتسامح، ولا نهتم بالسياسة، ونبتعد عن العنف»، هكذا يختصر «نوري» (اسم مستعار) أيديولوجية الدراويش الغناباديون، الذي ينتمي إليهم منذ أكثر من 10 سنوات.
يقول نوري لـ«منشور»: «نرى أنفسنا الفرقة الأقرب إلى المذهب الشيعي، لكننا لا نؤمن بمبدأ الولي الفقيه، ولا بالسلطة الدينية للمرجعيات الشيعية، فلدينا معلمون نتبعهم ونتعلم منهم».
وبالرغم من إعلان الغناباديون دائمًا أنهم ضد التدخل في الأمور السياسية في إيران، فإن زعيمهم الحالي «نور على تابنده» انشغل بالعمل السياسي فترات طويلة.
عمل تابنده في المحاماة، ودافع عن رجال الدين المعارضين لنظام الشاه، ومن بينهم علي خامنئي، المرشد الأعلى الحالي لإيران. وبعد قيام الثورة الإسلامية تولى مناصب كثيرة في وزارتي العدل والثقافة، لكنه استقال من تلك المناصب بمحض إرادته عام 1980.
كان تابنده من أشد المعارضين لحكم الخميني وتدخُّل رجال الدين، وكان حاضرًا في جميع الحركات الاحتجاجية بعد الثورة، واعتُقِلَ وسُجِنَ لمدة ثمانية أشهر في عهد الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني.
في عام 1997، تولى نور تابنده زعامة الصوفيين الغناباديين رسميًّا، وأعلن أن الغناباديين لا شأن لهم بالسياسة، لكن كل متصوف منهم له مطلق الحرية في حياته الخاصة، وتجمعاتهم من أجل الصلاة والذِّكْر فقط.
قد يهمك أيضًا: ليست دروشة أو كسلًا: معنى أن تكون صوفيًّا
الغنابادون والحكومة: تاريخ طويل من الصراع
بعد هدم الحسينيات، ردت الحكومة على الدراويش بأن أحد رجال الدين البارزين لم تعجبه حلقات الذكر والموسيقى، فاستخدم نفوذه لهدم المكان.
يروي أستاذ الفلسفة أحمد صادقي، في حديثه لـ«منشور»، أن صراع الدراويش والنظام موجود قبل قيام الثورة الإسلامية، لكنه ازداد بعدها: «زاد عدد الشباب المنتمين إلى الصوفية الغنابادية، وزادت تجمعاتهم، وهذا ما أقلق النظام، وأثار جنون رجال الدين الشيعة، الذين يعترضون على أغلب معتقدات الصوفيين».
أما «فائزة»، التي انضمت إلى الصوفية منذ أربع سنوات، فتوضح أن صديقة لها حدثتها عن معتقداتهم، ودعتها إلى حضور إحدى تجمعات الذِّكْر: «أحببت الموسيقى والرقص وعدم التقييد بالمظاهر الدينية الصارمة».
الواضح أن ما أحبَّته فائزة في الصوفية هو ما يُغضب رجال الدين، ففي عام 2005 فوجئ الغناباديون في محافظة قُم بالشرطة تهدم الحسينيات (أماكن للعبادة الخاصة بهم). حاولوا أن يمنعوا الشرطة، فاشتبكوا مع الجنود، واعتُقِلَ مئات منهم.
«منشور» تحدث إلى مصطفى طاهر، أحد الغناباديين المقيمين خارج إيران، فوضح لنا أن الحكومة بررت وقتها هدم الحسينيات بأنها مخالفة للقانون، لكن «حاولنا التواصل مع الحكومة، فقيل لنا إن أحد رجال الدين البارزين في المحافظة لم تعجبه حلقات الذكر والموسيقى، واستخدم نفوذه لهدم أماكن عباداتنا».
وفي محاولة لاحتواء التوتر بعد تلك الحادثة، خرج آية الله علي حسن منتظري، أحد المرجعيات الشيعية المهمة في إيران، يندد بهدم حسينيات الغناباديين: «تدمير حسينية يُذكر فيها اسم الله أمر غير مقبول».
استمر هدم حسينيات الصوفيين لسنوات، واستمر اعتقال قياداتهم كل حين. ففي ديسمبر 2010، ألقت الشرطة القبض على مرتضى محجوبي، أحد أهم أقطاب الصوفية، وكان من الطبيعى نزول الدراويش إلى الشارع للاحتجاج، ووقعت مصادمات اعتيادية بينهم وبين الشرطة. وفي إبريل 2018، اعترف مستشار روحاني للشؤون الدينية والعرقية بأن الأقليات الدينية في البلاد تتعرض «للإذلال».
ضاق الدراويش ذرعًا بالصادمات والاعتقالات، فكتبوا رسالة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي، يطالبونه فيها بالتحقيق مع رجال الدين الذين يحرضون الشرطة عليهم، ويؤكدون أنهم لا يريدون شيئًا من الحكومة سوى تركهم يعيشون في سلام.
يضيف نوري: «نعيش وفقًا لقوانين الجمهورية الإسلامية، ولا نعادي أحدًا، ونؤمن بالإمام علي بن أبي طالب زعيمًا روحيًّا، ونحب الحسين. كل ما في الأمر أننا نعرف كيف نتواصل روحانيًّا مع الله، ولدينا طريقة خاصة بنا لفعل ذلك، وفي النهاية كلنا مسلمون».
اقرأ أيضًا: حافظ الشيرازي: الشاعر الصوفي الذي تأخذك قصائده لحياة أفضل
تورطنا معكم في العنف
لم يتوقع أحد خلال اشتباكات 2018 أن يدهس الدراويش المسالمون شرطيًّا ويطعنون آخر.
ورغم نفي موقع «مجذوبان نور»، الخاص بالصوفيين الغناباديين، تورطهم في قتل الشرطة، فإن هناك مقاطع فيديو متداوَلة على الإنترنت توضح عملية الدهس.
أحد شهود الواقعة تحدث إلى «منشور» رافضًا كشف هويته: «لن أنفي حادثة دهس الشرطي، لكن هم (الحكومة) مَن ورطونا، يريدون أن يعتقلوا معلمنا الأكبر ونصمت، لقد سئمنا أفعالهم».
عندما اعتقلت الشرطة الإيرانية 300 صوفي، أدرك زعيمهم خطورة الأمر، فطالب أنصاره بعدم المجيء إلى منزله الذي تحاصره قوات الأمن.
الناشط الحقوقي «أمين» يؤكد أن القانون الإيرانى يكفل حرية تكوين الجمعيات غير المسلحة التي لا تتورط في أعمال عنف، بشرط عدم انتهاك قواعد الإسلام. يبدو أمين متعاطفًا قليلًا مع الصوفيين: «من الخطأ التورط في العنف، لكن ماذا كان النظام ينتظر من الصوفيين بعد كل تلك الأفعال القمعية تجاههم؟ لكل فعل رد فعل».
أعلن المتحدث باسم القضاء الإيراني أن أفعال الغناباديين الأخيرة «إجرامية وتشبه ما يفعله داعش»، وطالب بسرعة محاكمة كل من تورط في الأحداث.
صوفية: «لا تأتوا إلى منزلي»
عندما أعلنت الشرطة الإيرانية اعتقال 300 من الصوفيين على خلفية الاشتباكات، أدرك زعيمهم نور تابنده خطورة الأمر، فحاول التهدئة، وأصدر بيانًا لأنصاره يطالبهم بعدم المجيء مرة أخرى إلى منزله الذي تحاصره قوات الأمن.
خاطب تابنده النظام في بيانه قائلًا: «لحسن الحظ أن قادة إيران اليوم عقلاء ويتفهمون الأوضاع، لكن سيكون من الجيد أن يحاولوا وقف الأعمال العدائية تجاهنا، لتجنب وقوع مثل تلك الاشتباكات مرة أخرى»، وعاتب أنصاره على التورط في العنف: «إذا كنتم دراويش بصدق، فلم يكن يصح أن تُقدِموا على تلك الخطوة».