مساء 17 يناير 1920، كانت الأجواء غير عادية داخل حانات الولايات المتحدة. البلاد تعيش الثواني الأخيرة قبل بدء مرحلة جديدة من الرقابة الأخلاقية على المواطنين، فقد قررت الحكومة حظر تصنيع الخمور وبيعها لدعاوى أخلاقية وصحية، وسيكون تداول أي مشروب يحتوي على أكثر من نصف في المئة من الكحول، مخالفًا للقانون.
وقتها، كان القرار الأخير لكثير من أصحاب الحانات توزيع المشروبات مجانًا على زبائنهم، بينما رأى بعضهم الفرصة لكسب بعض من المال قبل الحظر، ليرفعوا أسعار زجاجات الشامبانيا وكؤوس الويسكي. في بعض الأماكن عُزِفت موسيقى جنائزية، وحُملت نعوش رمزية بين جمهور الشاربين. كانت بداية عصر سيستمر 14 عامًا، وسيدوِّنه التاريخ باسم «عصر الحظر»، الاسم الذي يرفعه كثيرون، إلا أن عددًا أقل ربما يعرف أن هذا العصر كان سيشهد حربًا كيميائية شنتها الولايات المتحدة ضد مواطنيها، وبخاصة الفقراء منهم.
بعد حظر الخمور، كانت الكحوليات الطبية الوسيلة الوحيدة الموجودة التي يمكن شراء الكحول بها. ولذلك كان الحظر فرصة ذهبية لرجال العصابات، فبعد ساعة واحدة من تطبيق القانون الجديد سجلت الشرطة أولى الجرائم حين سرق ستة مسلحين «ويسكي طبي» بقيمة مئة ألف دولار من قطار في شيكاغو. وزادت السرقات على مدار السنوات للحصول على المشروبات الكحولية الطبية التي كانت الملاذ الوحيد للراغبين في شرب الخمور، وضاق ذرع الحكومة بمعدل سرقات الكحوليات الذي ظل في ارتفاع، لتتخذ قرارًا تاريخيًّا ستكون له عواقب وخيمة.
الحرب الكيميائية
قررت الحكومة أن تجعل المنتجات الكحولية قاتلة، فأضافت لها مواد سامة منها الكيروسين والبنزين والكادميوم واليود والزنك وأملاح الزئبق.
بحلول منتصف العشرينيات، قُدِّرت الكحوليات الصناعية المسروقة بنحو 60 مليون جالون سنويًّا، وبدا أن الأمور، عام 1926، تخرج تمامًا عن سيطرة حكومة الرئيس «كالفين كوليدج»، لتقرر اللجوء إلى الكيمياء كحل بديل من أجل فرض القانون، واستعانت الحكومة بكيميائيين لتسميم المنتجات الكحولية الطبية التي تنتجها بحيث تكون على الأقل ذات مذاق غير صالح للشرب نهائيًّا، وعلى الأكثر مميتة.
في المقابل، كان تجار الخمور على استعداد لبداية حرب جديدة. فاستعانوا بكيميائيين ودفعوا لهم أكثر مما تدفع الحكومة لتنقية هذه المنتجات بعد سرقتها وجعلها صالحة للشرب مجددًا. برع الكيميائيون في ذلك، كما تروي الصحفية «ديبورا بلوم» التي اكتشفت هذه القصة مصادفةً، في أثناء أبحاثها التي أجرتها خلال وضع كتابها «The Poisoner’s Handbook».
ردًّا على تحايل تجار الخمور، قررت الحكومة أن تجعل منتجاتها الكحولية قاتلة أكثر، فأضافت إليها عددًا من المواد السامة، منها الكيروسين والبروسين (مركب قلوي يرتبط بالستريكنين) والبنزين والكادميوم واليود والزنك وأملاح الزئبق والنيكوتين والأثير والفورمالدهيد والكلوروفورم والكافور وحمض الكاربوليك والكينين والأسيتون.
ظهرت النتائج الكارثية سريعًا. ففي ليلة عيد الميلاد عام 1926، كانت المستشفيات أعلنت حالة الطوارئ. الحالات تتراكم، وجميعها يعاني من التسمم، وكانت مستشفى بيليفو في نيويورك مثالًا على ما حدث: مواطن وراء الثاني يدخل إلى المستشفى في حالة يُرثى لها، وقبل أن يستوعب الأطباء ما يحدث، كانت بعض الحالات ودَّعت الحياة بالفعل، وبنهاية الليلة كانت الحصيلة 60 مصابًا بالتسمم، مات منهم ثمانية. أما خلال اليومين التاليين، مات 23 آخرون في المدينة نتيجة التسمم من المنتجات الكحولية التي أنتجتها الحكومة.
رغم أن الأطباء في تلك الآونة كانوا معتادين على حالات التسمم من الكحوليات التي تاجر فيها المهربون، والتي عادة ما كانت تحتوي على شوائب مضرة أحيانًا، وتسبب التسمم، فإن ما وقع في ليلة عيد الميلاد، وما تبعها، لم يكن قط كالذي اعتادوا عليه. في 10 يناير 1927، كتبت مجلة «Time» الأمريكية: «ظهر حل من قُوى مكافحة الكحول في الحكومة: إدخال صيغة جديدة لتغيير طبيعة الكحول في الصناعة، ما ضاعف سُمِّيَّة المنتَج».
تضمنت الصيغة الجديدة «أربعة أجزاء من الميثانول (كحول الخشب)، و2.25 من قواعد البيريدين، و 0.5 من البنزين، ومئة من الكحول الإيثيلي»، ونوهت المجلة الشهيرة بأن «ثلاثة مشروبات عادية من هذا قد تسبب العمى».
وصف تشارلز نوريس، كبير الفاحصين الطبيين (الطب الشرعي) بولاية نيويورك وقتها، قرار الحكومة تسميم المنتجات الكحولية الصناعية، بـ«تجربتنا الوطنية في الإبادة»، ورآها السيناتور «إدوارد آي. إدوراردز»، عن ولاية نيوجيرسي، «قتلًا مقننًا»، لكن أذن مؤيدي الفكرة كانت صماء تمامًا.
دافع المحامي «وين ويلر»، المنتمي لمؤسسة «Anti-Saloon League» التي قادت الحملات السياسية لفرض الحظر على الكحوليات في الولايات المتحدة، عن إجراءات الحكومة، قائلًا: «حكومتنا ليست ملزمة بإغراق الناس بالكحول الصالح للشرب في الوقت الذي يحظره الدستور»، مضيفًا: «الشخص الذي يشرب الكحول الصناعي منتحر عن عمد. التخلص من عادة سيئة يكلف كثيرًا من الأرواح وأعوامًا طويلة من المجهود»، فيما وصف «سيمور م. لومان»، مساعد وزير الخزانة المسؤول عن الحظر، تسميم المنتجات الكحولية الصناعية بـ«العمل الجيد».
أما السيناتور «موريس شيبارد»، مهندس قانون الحظر، فرأى أن حالات الوفيات التي وقعت ليلة عيد الميلاد ليست بسبب الكحول الصناعي المسموم، بل بسبب كثرة الشرب، ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» حينها، قوله إن الشرب المبالَغ فيه كان السبب في وفاة هؤلاء الناس، وأن الكمية التي شربوها، حتى وإن لم تكن تحتوي على «كحول الخشب»، فإنها قاتلة أيضًا.
دللت مجلة «تايمز» على تجاهل الحكومة الأمريكية للنتائج الكارثية بحادثة وقعت عام 1928، حين توفي 33 شخصًا في جزيرة منهاتن بنيويورك في غضون ثلاثة أيام، بعد التسمم بمادة «كحول الخشب». وكتبت حينها عن رد فعل الحكومة: «جميعنا توقع تدخل السلطات الفدرالية ومساعدتها، وهي نشطة بشكل واضح مؤخرًا في منهاتن، لكن لم يتوقع أحد ما حدث بالفعل».
تابعت المجلة: «الفدراليون أعلنوا أن الحكومة لا تستطيع فعل شيء على الإطلاق. وقال بيان هيئة التحكيم الفدرالية الكبرى، والمختصة بالتحقيق في الجرائم المنظمة: بما أن كحول الخشب ليس مشروبًا، بل سم معروف (مشابه للحامض البروسي أو اليود) واستخدامه وبيعه لا ينظمه أيٌّ من القوانين الفيدرالية، فإننا نعيد النظر في هذه الحالات الخاصة إلى سلطات الولاية، وليست السلطة الفدرالية. قوانين الولاية تضبط بيع السموم، وتنص على معاقبة الاستخدام والبيع غير المناسبين».
قد يهمك أيضًا: لماذا يرتبط شرب الكحول بالتدخين عادةً؟
إلغاء الحظر
لم يتقبل الأمريكين قانون حظر الكحوليات، وتحايلوا بالشرب في الخفاء، ثم انتشرت الجريمة المنظمة، وارتفعت معدلاتها.
بحلول عام 1933، قتل الكحول الصناعي المسموم عشرة آلاف شخص على الأقل، حسبما ذكرت «بلوم»، معظمهم من الفقراء، فالأغنياء كانت لهم طرقهم الأخرى للحصول على الكحول. كان لا يزال هناك كحول باهظ الثمن لمن يستطيع الدفع، كانت تُهرَّب من كندا أو الكاريبي، وقدمت بعض الشركات رحلات بحرية إلى الكاريبي لاحتساء الخمور، وإذا كان الشخص لديه أموال كافية، كان يدفع للحصول على أشياء جيدة مهربة من أوروبا.
كان قرار تسميم الكحول الصناعي في الولايات المتحدة أشبه بالحرب الكيميائية على الفقراء، بل دوَّنه التاريخ باسم «الحرب الكيميائية للحظر»، أما نهايتها، فحلت رسميًّا وقت إقرار إلغاء قانون الحظر في ديسمبر 1933، لكن أصداءها هدأت بالفعل قبل هذا التاريخ. فتدريجيًّا، توقفت الحكومة عن الحديث عنها، وكانت الأسباب الرئيسية لإلغاء الحظر قلة القوة المعنية بمراقبة تنفيذ القانون، وكان عددها لا يتجاوز ألفًا و500 شخص، ما جعلهم يفشلون في مراقبة الحدود الأمريكية الواسعة لمنع التهريب، إضافة إلى أن مرتباتهم الضعيفة جعلت رشوتهم أمرًا سهلًا.
أيضًا عدم تقبل عدد من الأمريكين للقانون، وتحايلهم عليه بالشرب في الخفاء، وانتشار الجريمة المنظمة التي ارتفعت معدلاتها في أثناء الحظر أكثر من ذي قبل. ورغم إقرار «لجنة ويكرشام»، المعنية بمراقبة وتطبيق القانون، بأن الحظر يفشل في عام 1929، فإن قرار إلغاء الحظر بشكل رسمي أقره الكونغرس عام 1933.
مع انتهاء الحظر، وعودة المشروبات الكحولية الطبيعية إلى الأسواق، ذهبت تلك الحرب إلى طي النسيان، كما لو أنها لم تحدث قط، لم يحاسَب أحد، ولم يطالِب أحد بالحساب.
«علينا ألا نكون ساذجين ونعرف أن حكومتنا بإمكانها فعل أشياء كهذه. إذا بإمكانك أن تعود بالزمن مئة عام لترى أن الحكومة بدت متصالحة مع فكرة التضحية بالمواطنين الأمريكان لتطبيق قوانينها، فهذا أمر يستحق التذكر»، تقول «بلوم» في حديث لموقع «فوكس»، «الحروب الأخلاقية في غاية الخطورة. الناس تعتقد أنها بجانب الملائكة، وينتهي هذا بتبرير الوسائل. لكن ماذا أنجز الحظر؟ لا شيء».